بدا لي كما لو كان يتسير بمعنى يذكر سيرته، فقد كان وهو يخطب مستهيناً بالدعوة التي انطلقت بمقاطعة البضائع الفرنسية احتجاجاً على الإهانات المتواصلة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما لو كان يتلو بيانه انحيازاً لمبارك؛ فنفس التون، ونفس الحماس والاندفاع، ونفس الاضطراب الفكري!
فكلنا نذكر الخطاب الناري لخالد الجندي في الأيام الأولى للثورة، وإذ استعان به نظام مبارك، وربما قدم هو خدماته، فكانا كمنهوك على منهوك، فلما اشتد عود الثورة تراجع عن هذا الخطاب وبنفس الحماس، وعمل على خطب ودها، والتقرب إليها بالنوافل، حتى إذا وقع الانقلاب العسكري انحاز له؛ فلديه استعداد لأن يبيع السيسي عند أول منعطف كما باع من قبل مبارك وزمانه!
وربما اعتقد نظام مبارك أن الجندي له شعبية في أوساط المتدينين، ففتح أمامه المجال، وهو الذي كان مفتوحاً لملء الفراغ الديني والاستيلاء على العاطفة الدينية، بعد اندفاع دولة مبارك في التخلص من الخطاب الحماسي، فتم فتح المجال لخالد الجندي وعمرو خالد وأمثالهما، في وقت غُيب فيه الشيخ عبد الحميد كشك، والمحلاوي، وفوزي السعيد، بل وعمر عبد الكافي لأنه تجاوز سقف الشهرة المسموح به أمنياً!
وربما وقف نظام مبارك على أن خالد الجندي، الذي جيء به من "مقهى شارع الصحافة"، بلا شعبية فعلاً، وتأكد من هذا والجماهير تحتشد مطالبة بإسقاط النظام، لا يضرها من ضل ولم يفت في عضدها خطابه الحماسي المنحاز، لكن هذا الاكتشاف كان بعد أن "فات الميعاد" بحسب سيدة الغناء العربي!
وكان من الطبيعي أن ينتهي خالد الجندي، ليس فقط لأن التجربة أثبتت أنه فاقد للشعبية الحقيقية، ولكن لتعامله بانتهازية مع ثورة يناير، لولا أن "الأجهزة" التي كان لديها بعض الخبرة في الإدارة في السابق، صارت بلا دور، وأصبحت "عقدة النكاح" بيد الحاكم الفرد، فدفع بشيخه المفضل إلى قناة "دي إم سي" ليواصل خطابه فارغ المضمون والذي يداعب تديّنا انتهى بالثورة، عندما كان هناك من يسعون لتديّن بلا مشاكل، فكانت ظاهرة عمرو خالد، وخالد الجندي، ومعز مسعود، إلى غير هؤلاء من فقاعات أمنية، تم فرضها بالإلحاح على المشاهدين
ارتباك عمرو أديب:
وبهذا التبني عبر قناة "دي إم سي"، المعروفة بأنها قناة "المخابرات"، والممولة بالكامل من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، يتأكد أن المذكور يقدم خطاباً معتمداً لدى أهل الحكم في كلا البلدين أبو ظبي والقاهرة، ومن هنا كان خطابه الذي يسفّه من الدعوة
لمقاطعة السلع والبضائع الفرنسية، ويرى أنها بلا جدوى، ذلك بأنه لا يمتلك الذكاء السياسي، فيرتبك كما ارتبك عمرو أديب، وهو يتعرض لهذه الدعوة!
لقد ارتبك أديب، فبدا مشتتاً وهو يستخف بهذه الدعوة، لإدراكه أنه لا يمكنه أن يقلل من قيمة سلاح المقاطعة وهو ينتمي لمعسكر استخدم هذا السلاح ضد دولة عربية شقيقة هي قطر، بمنع تصدير السلع الغذائية إليها، ثم إنه يدرك أنه في أجواء الدعوة السعودية لمقاطعة المنتجات التركية، عبر أصوات ترددت أصداؤها في
مصر، ولهذا الوعي كان خطابه تائها، حتى تساءل من يسمعوه: ماذا يريد أن يقول الفتى؟!
بيد أن خالد الجندي أهوج، فلم ينتبه لهذا، فاستهان بالدعوة لمقاطعة السلع الفرنسية، واعتبرها بلا قيمة، بدلا من أن يغضب لتعمد توجيه الإهانة لرسول الإسلام، وتوجيهها في هذه المرة ليس من قبل شخص، أو رسام، أو صحيفة، فالرئيس الفرنسي نفسه تبنى هذه الإساءة، وقال لا شيء يجعلنا نتراجع!
وإذا كان خالد الجندي عبر قناة "دي إم سي"، ممثلا للخطاب الرسمي في عواصم الثورة المضادة، لا يرى قيمة للمقاطعة، فما هو سبيله لرد هذا الاعتداء الذي يأتي من جهة رسمية، ومن الرئيس الفرنسي نفسه؟!
كان يمكن تقبل هذا الكلام لو أن المذكور دافع عن نبي الإسلام، ورد الصاع صاعين لماكرون، ولكل من تطاول على النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يفعل، وتعامل مع الرسول كما تعامل معه خطاب الأذرع
الإعلامية على أنه شأن تركي، ما دام الرئيس أردوغان هو من يتصدر المشهد دفاعاً وإدانة، وما دام هناك صمت رسمي في مصر، وانحياز من قبل محمد بن زايد لفرنسا، فلم يهتز ولم يتململ لهذه الإهانات، بل إنه اندفع في الاتجاه الآخر وكأنه ابن
ماكرون البار، فليس كل الفرنسيين مع هذا الخطاب، بل إن زعيم المعارضة في
فرنسا وجد في خطاب الرئيس ما من شأنه الإضرار بمصالح البلاد، وأوشك أن يتهمه بالرعونة!
إن المقاطعة ولو بدون أن تلحق ضرراً بالاقتصاد الفرنسي؛ هي التصرف الطبيعي لرد هذا العدوان واستنكاره، وإن الذين تبنوا الدعوة يستحقون التحية، وإذا كان لا يمكن لخالد الجندي ذلك، فكان يمكنه الصمت، لكنه مسيّر لا مخيّر، وهو يعرف من أين تؤكل الكتف، فكان مع مبارك ثم انقلب عليه ليصبح مع الثورة عليه، والفاصل بين الموقف ونقيضه هو بضعة أيام، وهو أمر كاشف عن أنه "ملعوب في أساسه" الفكري!
العبث:
فالأساس الفكري الذي ينطلق منه خالد الجندي، جرى العبث فيه، فأنتجت عملية اللعب هذه الشخصية التي تطوع الدين من أجل خدمة "ولي الأمر" و"صاحب النعمة عليه"، والذي أنقذه من أن يطويه النسيان، ولو استمر حكم مبارك الذي وقف على حقيقة المذكور، لانتهي كما انتهى من اكتشفه أول مرة والذي تلقفه من "قهوة شارع الصحافة"، وهو خيري رمضان، الذي كان في فترة عمله في جريدة "الأهرام العربي" قد عثر على الجندي في هذا المقهى الذي يقع بالقرب من مؤسستي "الأهرام" و"أخبار اليوم"، ولعله كان معيناً إماماً من قبل وزارة الأوقاف في زاوية قريبة، فكان يقضي الوقت بين الصلوات على المقهى يشرب الأرجيله، ويداعب الجالسين، باعتباره خفيف الظل. ومن هناك كان الاكتشاف وكانت البداية بتخليق زاوية له في "الأهرام العربي" عن تفسير الأحلام، وعندما أصبح خيري رمضان مذيعاً، استضافه في برنامجه لينطلق الجندي من هناك بعد أن وجدوا أنه يصلح لفقرات ما يطلبه المستمعون، قبل أن يهتدي هو إلى أن المهم هو شخص الرئيس والأجهزة الأمنية التي ترفع له التقارير.
لقد انتهى عدد من الدعاة الجدد بضربات أمنية مثل، عمرو خالد، والحبيب الجفري الذي تم طرده من مصر، وكان يمكن أن تلحق بالجندي قرارات الإبعاد، لولا الثورة، ولولا الثورة المضادة التي قرر صاحبها أن يعيد إنتاج خالد الجندي والحبيب الجفري من جديد، بتوصية إماراتية بالأساس، وباعتبارهما شخصيات ملعوب في أساسها الفكري، فصارت تضبط إيقاعها على ما يطلبه المستمعون من أهل الحكم وأهل الدثور، وفي كل المجالات وليس في مجال الدعوة فقط، ومن خالد الجندي إلى عبد الرحيم علي يا قلب لا تحزن، إنه نفس "الشاسيه" تقريباً.
ولهذا لم يجد خالد الجندي بأساً مما أعلنه محمد بن زايد لماكرون من دعمه للاقتصاد الفرنسي، رداً على دعوات المقاطعة، مع أن ماكرون تبنى الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم، فالبأس الشديد لدى خالد المذكور هو في الدعوة للمقاطعة التي استخف بها، ولم تكد تمضي ساعات قليلة على هذا الاستخفاف، حتى كشفت فرنسا رسميا عن انزعاجها منها، وحثت الخارجية الفرنسية الدول على عدم السماح لشركات التجزئة بمقاطعة البضائع الفرنسية، وقالت إن هذه الدعوات ينبغي أن تتوقف فورا.
ولأنه نائحة مستأجرة وليس نائحة ثكلى، فقد اندفع يحذر الناس من الاستجابة لدعوة المقاطعة بحجة ان هناك من يحركهم ليكونوا ألعوبة في يد النظام التركي، مع أن هذه الدعوة أطلقها زعماء دول أخرى، ومن ماليزيا إلى الأردن إلى المغرب.
إن مشكلة خالد الجندي في أنه يخطئ في تشكيل لقبه، فبدلا من كسر الجيم فإنه يضمها، فلا يتصور نفسه إلا "عسكري مراسلة"، يعمل في خدمة السادة الضباط، وعندما يتذكر أنه في الحياة المدنية، فلا يعرف منها سوى محمد بن زايد.
كان يمكن لخالد الجندي أن يكون عارض أزياء موهوب.
سطور أخيرة:
ليس مهماً أن تعرف من هو "طارق مخيمر"، لكن المهم أن تعرف أنه دفع ثمانية ملايين جنيه لما يسمى بحزب "
مستقبل وطن" مقابل ترشيحه لعضوية البرلمان، وقد فضح هو بنفسه ذلك بعد سقوطه، ولم ينكر الحزب بل أصدر بياناً يعترف فيه بذلك، وأنه خسر المقعد بسببه لأن المرشح ضعيف ولم يدرس الحزب حالته!
أعرف أن هناك من
دفعوا أكثر من هذا، إنما هذه هي الجريمة مكتملة الأركان، والتي تبطل العملية الانتخابية برمتها، وتمثل إدانة للمشهد بكامل إجراءاته. فمن هذا الذي يتبرع بمثل هذا المبلغ، لحزب لا يعرف برنامجه وليس معنى التبرع سوى رشوة؟ ولماذا لا يصدر حزب السلطة وسلطة الحزب قائمة بالتبرعات التي يتلقاها؟
البلاهة التي دفعت الحزب للاعتراف، دفعته أيضاً لأن ينهي بيانه بهتاف السيسي الأثير "تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر"!.
ستحيا مصر حتما، لأنها كانت كذلك قبلكم وستكون كذلك بعدكم، لكن لا يجوز لمصر أن يلحق بها هذا العار، وأن تنسب لها هذه الممارسات!
twitter.com/selimazouz1