هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بينا في مقالنا السابق: الأخطاء التي يقع فيها من يجيز قتل من ينال من المقدسات الإسلامية، وحيث إن من يؤيدون هذا الفعل يستدلون على نصوص، الواجب نقاشها، حتى يتضح الموقف الفقهي من الفعل. ومن ذلك: استدلالهم بقتل كعب بن الأشرف، وأبي عزة الشاعر، وعصماء بنت مروان، وأم قرفة، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وحالات أخرى.
أما قصة قتل كعب بن الأشرف، فقد فصَّل الإمام البخاري خبر مقتله، فقد روى في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله" فقام محمد بن مسلمة، فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم". قال: فأذن لي أن أقول شيئًا. قال: "قل".
فأتاه محمد بن مسلمة وصحابي آخر، وواعداه أن يأتياه ليلا، فأتياه، فقال ابن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه، ثم أشمَّ أصحابه. ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم فاقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه.
هذا مختصر لخبر مقتل كعب، وقد ناقش العلماء أسباب قتله، وجلهم يذهب إلى أن سبب القتل الرئيس هو: نقضه العهد، ولم يقتل لعلة الهجاء، يقول القاضي عياض: (إنما قتل كعب بن الأشرف على هذه الصفة؛ لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه وسبه، وكان عاهده ألا يعين عليه أحدا، ثم جاء مع أهل الحرب معينا عليه). وقال ابن حجر: (قال العلماء: وإنما فتك بابن الأشرف، لأنه نقض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأعان على حربه، وهجاه).
فخلاصة القول هنا: أنه جمع عدة جرائم استحق بها القتل، وأهمها: الخيانة العظمى للدولة، ومعاونة الأعداء عليها، وتعريضها ومجتمعها للخطر، وهي جريمة في كل قوانين الدنيا يستحق فاعلها القتل في ميدان عام.
ومما يستدل به أيضا: أنه صلى الله عليه وسلم قتل شاعرا يسمى: أبا عزة، وقصته: أنه أسر في بدر، وكان محتاجًا ذا بنات فقال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة، وذو عيال فامنن عليَّ، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدًا فقال أبو عزة أبياتا يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ثم لعب المشركون برأسه وحرضوه على خوض القتال ضد النبي صلى الله عليه وسلم فأسر مرة أخرى، فقال: يا رسول الله أقلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها، وتقول: خدعت محمداً مرتين، اضرب عنقه يا زبير فضرب عنقه.
فلم يكن قتله هنا لعلة شعره، بل لعلة عدم وفائه بعهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عفا عنه، وعاهده ألا يعود لحربه وقتاله، أو يعين عليه عدوا بالحرب، ولكنه يعود ويغدر، فنال جزاء غدره.
ومن الأدلة التي تذكر للاستشهاد بها على قتل من يهجو الإسلام أو رسوله صلى الله عليه وسلم، قتل: عصماء بنت مروان، وقصتها:
عنْ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنه قال: هجت امرأة من بني خطمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهجاء لها، قال: فبلغ ذلك النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاشتد عليه ذلك، وقال: "من لي بها؟"، فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله! وكانت تمّارة؛ تبيع التمر، قال: فأتاها، فقال لها: عندك تمر؟ فقالت: نعم. فأرته تمرًا، فقال: أردتُ أجود من هذا. قال: فدخلت لتريه. قال: فدخل خلفها ونظر يميناً وشمالاً، فلم ير إلا خِواناً، فعلا به رأسها حتى دمغها به، قال: ثم أتى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! قد كفيتُكَها. قال: فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه لا ينتطح فيها عنزان"، فأرسلها مثلاً.
يقول الشيخ الألباني: والحديث؛ علقه ابن سعد في "الطبقات" (2/27 ـ 28) بأتمِّ مما هنا، والظاهر أنه مما تلقاه عن شيخه الواقدي، وقد وصله القضاعي (2/48/858) من طريقه بسند آخر نحوه. لكن الواقدي متهم بالكذب؛ فلا يعتدُّ به. فهو حديث موضوع إذن، ولا قيمة له من حيث الاستشهاد والاستدلال.
يقول الإمام ابن العربي: (وزعم بعض أصحابنا: أنّ هذا أصلٌ في قتل الذِّميّ إذا سبَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلم، وهذا غَلَطٌ؛ لأنّ ابنَ خَطَل كان حَرْبِيًّا في دار حَرْبِ، ولم يُدْخِله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمَانِه لأهل مكَّةَ، بل استثناه ـ وقومُه معه ـ من ذلك الأمان).
وهناك دليل آخر يستدلون به، وهو قتل امرأة تسمى بأم قرفة، والتي نرى اختلافا بينا في ذكرها، ما بين من يشير إلى أنها قتلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يشير إلى أنها قتلت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فمن الواضح أن كتب التاريخ والسير تذكر أن هناك اثنتين تسميان بهذا الاسم (أم قرفة)، فقالوا: أم قرفة الكبرى، وأم قرفة الصغرى.
أما أم قرفة الكبرى (الأم)، فخلاصة ما ورد في شأنها: أن قيس بن المحسر ذهب إلى أم قرفة وهي عجوز كبيرة فقتلها قتلا عنيفا، ربط بين رجليها حبلا، ثم ربطها بين بعيرين، ثم زجرهما، فذهبا فقطعاها. فقرع باب النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه عريانا يجر ثوبه، حتى اعتنقه وقبله وسايله، فأخبره بما ظفره الله به، وقد ذكر القصة ابن سعد في طبقاته الكبرى، والذهبي في سير أعلام النبلاء، فماذا عن سند الحادثة، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط (محقق سير أعلام النبلاء) عن سند هذه الحادثة: إسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن يحيى، وأبيه، ولعنعنة ابن إسحاق.
أما حادثة أم قرفة الصغرى، فقد وردت بأكثر من رواية، ومجملها أنها قتلت قتلة بشعة أيضا، بأنها ربطت من رجليها، وشد رجليها بفرسين، فشقاها. ولكن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وقد قال ابن رجب عن هذه القصة بكل أسانيدها: وأسانيد هذه القصة منقطعة. فخلاصة القصة هنا: أنها لا تصح من حيث السند، سواء قتل أم قرفة الكبرى، أم الصغرى.
ومن الأدلة التي يذكرها من يتبنى جواز قتل من يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسخر من الإسلام: قتله صلى الله عليه وسلم لاثنين في يوم فتح مكة، وهما: عبد الله بن خطل، ومقيس بن الصبابة، وقد قال عنهما وعن آخرين معهما: اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، ولكن العلماء لهم توجيه لهذا النص من المهم الوقوف عليه، والتأمل الشديد له.
يقول الإمام ابن العربي: (وزعم بعض أصحابنا: أنّ هذا أصلٌ في قتل الذِّميّ إذا سبَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلم، وهذا غَلَطٌ؛ لأنّ ابنَ خَطَل كان حَرْبِيًّا في دار حَرْبِ، ولم يُدْخِله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمَانِه لأهل مكَّةَ، بل استثناه ـ وقومُه معه ـ من ذلك الأمان).
فالثابت هنا في معظم هذه القصص وغيرها، من أدلة يستدل بها من يجيز قتل من يتطاول على مقدساتنا، أنها أدلة تدور بين عدم صحة السند، أو عدم صحة الاستدلال، من حيث إنها تتعلق بأهل حرب، ولا تتعلق بأهل سلم، وأنهم قتلوا لعلة الحرب، لا لعلة التجاوز في حق المقدسات.
ويدل على ذلك موقف فقهاء الإسلام، والمذاهب الأربعة، من مثل هذه الأفعال، والذين نتناول مواقفهم ونصوصهم المهمة في الموضوع، في مقال قادم إن شاء الله.
[email protected]