وصل غالبية
اللاجئين العرب
الهاربين من مرارات الحروب في أوطانهم إلى القارة العجوز بعد رحلات من المشقات
والمخاطر التي حفتهم، ومنهم من شهد على غرق مراكب الموت أمام عينيه، كما شهد على
الغرق الأخير لبلاده في الدماء والحروب والثورات.
يحمل اللاجئ العربي، وهنا سأخصص الحديث عن اللاجئ
العربي في
أوروبا لاقترابي المباشر من هذه العوالم، يحمل في مخيلته صورة كبيرة
ومضخمة للحريات التي سيعيشها، ويحمي بها عالمه في أوروبا قياسا بواقع الحريات في
مجتمعات غادرها مكرها مطرودا بظروف الحرب وسلب الحريات.
بعد رحلات اللجوء التي تصنع من اللاجئ العربي
لاجئا وتحمله ذلك اللقب طوال حياته؛ غالبا ما تكشف له عن وجوه أخرى للعالم لم يكن
على دراية بها من قبل، ولم يسعفه وعيه بالمكان عن طريق القراءة عنه للإلمام بتلك
الوجوه، فيبدأ منذ اللحظة التي يتخذ فيها قرار اللجوء بإزالة القناع تلو القناع عن
العالم الذي ينتظره بعد أن يسلك طريق الهجرة.
يصل اللاجئ لوجهته المرجوة بعد طريق المخاطر
وبعد أن يستهلكه تماما هذا الطريق، فيجد نفسه ومن نجا معه ومن عائلته في واقع جديد
محاط بالأسوار في الأماكن المخصصة للاجئين، حينها يبدأ بالتعرف على الوجه الأول
الذي تكشف به أوروبا عن نفسها في مواجهته، فيبدأ في الإجراءات والمقابلات. وخلال
محاولاته التعافي من رحلة لجوئه المريرة يبدأ بالاصطدام بأول حائط يقابله، وهو
العنصرية الظاهرة والمبطنة.
حالة التعب والإرهاق التي تسيطر على اللاجئين
الفارين من مناطق النزاعات الدموية والحروب ممن يجعلون هدف البقاء على قيد الحياة
أولويتهم؛ لن يدركوا في البدايات التفاصيل التي ستقابلهم حين يخرجون للمشي في
مناطق قريبة من مراكز اللاجئين أو حين يتنقلون بالباصات المحلية إذا طالبتهم
الشرطة بعرض بطاقاتهم أكثر من مرة، وكيف يدركون أنه واقع مستهجن وهم الذين اعتادوا
على التنقل بين الحواجز العسكرية والأمنية وعرض بطاقاتهم كل بضعة كيلومترات لأكثر
من جهة.
لن يدرك اللاجئون الفارون بحياتهم أن ذلك يسبب
اشتباها مباشرا بهم بسبب اختلاف مظهرهم أو لون بشرتهم، مما يثير حفيظة شرطي عنصري
تدفعه نظرته العنصرية لاستهلاك سلطته الشرطية لاستعراضات في الأماكن العامة بأنهم
يحمون البلاد من الأغيار.
غالبا ما يتم تقسيم أماكن اللجوء في مناطق
ريفية بجغرافيات محددة، فيضطر اللاجئون الجدد التعامل المباشر مع قاطني تلك
المناطق الذين يكونون غالبا من كبار السن المرتابين منهم أو المنغلقين على أنفسهم،
حينها يبدأ اللاجئ بتشكيل وعيه عن المكان والمحيط حالما تتوفر لديه مجموعة من
الحوادث التمييزية والعنصرية.
يكرس اللاجئ العربي سنواته الأولى في دول
اللجوء الأوروبية لحالة من الانتظار المترقب والقلق، بين انتظار مقابلات اللجوء
إلى انتظار قرار اللجوء، إلى انتظار لم شمل العائلة التي خلفها وراءه. وفي سنوات
الانتظار تلك يفقد الكثير منهم أجزاء من الصورة عن الجنة الموعودة في القارة
العجوز، وتبدأ الصورة في ذهنه تتشكل من جديد، ويترك خلفه الصورة التي حملها في
ذهنه طوال رحلة اللجوء المريرة.
يتعرض اللاجئ أمام ذلك الواقع الجديد لعدة
أزمات:
أزمة قهر اللغة: عادة لا يستطيع
اللاجئ الحديث بنفس لغة البلد التي يلجأ إليها، وحالة انتظاره لأوراق إقامته قد
تحرمه من فرصة للالتحاق بتعلم اللغة الجديدة، يتعرض حينها حملة الشهادات العليا من
اللاجئين لأزمات متكررة بسبب قهر اللغة واتساع وعيهم أمام الأحداث والوقائع، في
حين أن عدم قدرتهم على التعبير عن ذواتهم أمام الحوادث التي تثير حفيظتهم، أو حين
يشعرون بتهديد حقوقي أو عنصري.
أزمة سؤال الهوية: يأتي اللاجئون العرب من بلاد مشغولة بالهويات الدينية والطائفية
والسياسية، فيجدون أنفسهم أمام مجتمعات قد تحررت بشكل نسبي من تلك الأسئلة، ومنها
مجتمعات قبلت أن تكون دولا لكل مواطنيها (في دساتيرها)، وبغض النظر عن الأماكن
التي دموا منها أو هوياتهم الدينية أو الاجتماعية أو حتى الجنسية.
يلح سؤال الهوية على من يعانون أزمات
الاندماج
بتلك المجتمعات وفق معايير التحرر وحفظ القانون والنظام، فهنالك من ينقذ نفسه من
سؤال الهوية بوعيه المكتمل عن فروقات الزمان والمكان والمحصلة الحقوقية لأفراد
المجتمع، فيذهب لإكمال مشروعه ضمن تفاصيل البيئة الجديدة فيحتفظ بهويته الدينية
والاجتماعية والجنسية لنفسه أمام مجتمع منفتح (بضمان قانوني) على كل الهويات،
ومنهم من يعاني مشاكل هائلة في الاندماج ضمن المعطيات الجديدة التي تشكل صدمة
فارقة بالنسبة له قياسا مع مجتمعات أتى منها وتشغلها الهوية الطائفية مثلا.
أزمة الاندماج المجتمعي: يعاني بعض اللاجئين ممن أتوا من مجتمعات مغلقة وتتبنى النمط الواحد
من أزمة الاندماج في مجتمع جديد، وغالبا محنة الاندماج تكون بسبب السلوك العنصري
الذي يُقابل به اللاجئ العربي في مجتمعات القانون التي هي أيضا تشهد انتعاشة
لأحزاب اليمين المتطرف التي تتصدى لموجات الهجرة الجديدة وتشهد أيضا انتشارا
للشعبوية.
أكثر ما يصعب على اللاجئ العربي مسألة اندماجه
بالدول التي يلجأ إليها اصطدامه بتلك الوقائع العنصرية التي تعد بمثابة أولى هزات
اليقظة له من وهم الفردوس الأوروبي، فالتحديات التي ستفرضها عليه الحياة اليومية
في دول اللجوء تقتضي منه مجهودات لم تكن بحسبانه، وهو المنشغل بمجموعة أزماته،
فيجد أنه لزاما عليه أن يخوض كفاحا مستمرا لانتزاع حقوقه المدنية وحق المساواة مع
المواطنين، إن لم يكن في مؤسسات الدولة فعلى نطاق المؤسسات الخاصة التي تفرض
شروطها عليه بكود معين للملابس أو للتصرفات وما يتبعها.
إن واقع اللاجئين العرب في أوروبا رغم ما يروج
له من إنصاف لهم، إلا أن ذلك الإنصاف ليس بالكامل. فحالة التمييز في الحقوق
بالتسامح مع نيل جزء منها وتغييب أجزاء أخرى تفرض تحديات على المجتمعات الأوروبية
التي استقبلت اللاجئين. فاللاجئ من مناطق الحروب والنزاعات المسلحة هو باحث عن حق
الحياة وحالما يجد الملاذ لن يقبل بأقل من حقوق المواطنة الكاملة، وهذا ما تقاومه
بعض التيارات المتطرفة العنصرية.
تحتاج مجتمعات اللاجئين العرب ضمن أماكن
لجوئها إلى حالة من تشكيل كتل مؤثرة في البرلمانات ومراكز صنع القرار كي تحصل على
حقوق المواطنة الكاملة في مجتمعات قد تحاربهم بطرق إلغائية ناعمة؛ لا تخدش وجه
الديمقراطية الإعلامي لكنها تمسها في صميمها. فالعائلات التي تنعزل في كانتونات
والجنسيات العربية التي تتجمع في أماكن جغرافية محددة هربا من جغرافيات عنصرية
تمييزية تجاههم بناء على اللون أو اللغة أو بلد المنشأ؛ عليها أن تفكر بالخروج
لميادين العمل الفعلي وهجر تلك الغيتوهات، ومقاومة العنصرية الناعمة أو الشرسة
ضدها بالوصول إلى مراكز القرار التي تمنح هؤلاء حقوق المواطنة الكاملة وتحطم جدران
الغيتو.