منذ عدة أيام صدرت عن المجلس الثوري
المصري مبادرة جديدة، وهي ليست الأولى، ولكن قد تكون الأخيرة.
والمبادرة ليست كسابقاتها مما تقدم بها المصريون بعد أحداث الانقلاب العسكري عام 2013، بداية بتحالف دعم الشرعية ثم بائتلاف المصريين في الخارج وما تلاهما من
مبادرات، مرورا ببيان العشرة وتأسيس عدد ليس قليلا من الكيانات التي لم تستمر طويلا، حتى إن بعضها لم يستمر حتى يجف الحبر الذي كتبت به. وكذلك الأمر بالنسبة لاتحاد القوى المصرية المعارضة الذي تم تأسيسه منذ فترة ليست بعيدة، كما كانت هناك عشرات المواثيق والوثائق والبيانات التي كانت تطالب وتندد وتستنكر ما يحدث في مصر.
ومع أن كل هذه المبادرات كان هدفها توحيد المصريين في الخارج أو ما يطلق عليه بـ"الاصطفاف"، لكن للأسف لم تأت أي منها بما كان يرجوه من خطط لها وقام عليها، بل على العكس، ساعدت على تفتيت المصريين أكثر وأكثر، بل وأفقدتهم الأمل في ما كانوا يحلمون به من الحياة الحرة الكريمة. بل وصل الأمر ببعض تلك المبادرات إلى الاعتراف بنظام السيسي، من خلال الاعتراض على أخطاء فرعية من نظام حكمه، وكأن ما يعيشه المصريون من ظلم واستبداد وانتهاكات للحريات وإفقار للشعب المصري، هي أمور مقبولة. وقد تناولت عددا من هذه المبادرات بالتعليق في مقالات سابقة.
وفي تقديري، فإن المبادرة الجديدة كما قرأتها وما صدر عن القائمين عليها في تصريحات صحفية، تختلف عن كل ما سبقها في أنها مبادرة عمليه، أي ينبني عليها عمل، وإن كان العمل المطلوب الآن ليس كبيرا، حيث تطالب المبادرة كل المصريين مسلمين أو مسيحيين رجالا أو نساء بالتوقيع على النداء أو العريضة المطروحة. والنداء المقصود لا يطالب إلا بإجراء انتخابات حرة تضمن للمصريين الاختيار الحر ولضمان الحرية، فإن النداء يطالب بإشراف دولي على الانتخابات المطلوبة.
وهنا يثور سؤال: هل طلب تدخل وإشراف دولي على الانتخابات ينقص من درجة استقلالية الدولة؟
في الحقيقة، أن هذا الادعاء كان يمكن أن يقال منذ ستين عاما أو أكثر خلال مرحلة التحرر الوطني في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، عندما كان هناك استقلال حقيقي للدول. ولكننا الآن نعيش مرحلة القرية الصغيرة، وما يحدث في ووهان بالصين يؤثر على ما تعيشه مدريد في إسبانيا، بالإضافة إلى ما حدث من تدخل روسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016. وبالطبع هناك نماذج أخرى عديدة تحت مسميات مختلفة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، سواء اقتصادية أو سياسية أو حقوقية.
والنداء المشار إليه يدعو ويطالب بحرية المصريين، ولم يتناول قضية الشرعية أو غير الشرعية التي قسمت وفرقت المصريين، وإن كنت أعتقد أن عودة وضمان حرية الاختيار للشعب المصري من خلال انتخابات نزيهة، هو استمرار لنهج النظام الذي ساد بعد 25 يناير (كانون الثاني).
ونداء الحرية والديمقراطية للمصريين موجه إلى عدة شخصيات عالمية - كما هو مذكور على الموقع - منهم الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن ورئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وغيرهم من الشخصيات العالمية المهتمة بنشر
الديمقراطية وحقوق الإنسان في الاختيار الحر. وهذا يتواكب مع الدعوة التي تحدث عنها الرئيس الأمريكي في عقد مؤتمر دولي عن نشر الديمقراطية في العالم، والمقرر عقده في الربع الأخير من العام الأول لرئاسته، كما أعلن بعد تنصيبه للرئاسة. كما أن النداء ليس موجها إلى المصريين فقط للتوقيع عليه وتأييده، بل إنه يخاطب العرب والمسلمين وأحرار العالم كافة.
وهذا في تقديري خطوة موفقة؛ لأنها قد تكون خطوة أولى على طريق التعاون من أجل نشر الحرية والديمقراطية. فاليوم يتم التوقيع لمصر ويأتي بثماره، ويمكن أن يكون غدا لسوريا أو لليمن أو لميانمار أو رواندا، أو غيرها من دول العالم الثالث التي تعيش تحت نير الاستبداد والظلم. كما أن البداية بمصر - ليس تحيزا - لأنها تعتبر من أقدم دول العالم ذات الحضارة، التي قادت البشرية لفترة زمنية طويلة علميا، وفي مجالات مختلفة للحياة. كما أن الحضارة المصرية القديمة هي من أكثر الحضارات - إن لم تكن الأكثر على الإطلاق - التي تركت آثارا على تقدمها حتى وقتنا المعاصر، ولذلك كانت قديما وحتى وقت قريب تلقب مصر بـ"أم الدنيا".
إن المصريين منذ انقلاب عام 2013 وهم يحاولون محاولات عديدة من أجل أن يوحدوا صفهم، كما كان يوم 25 يناير 2011. وكما ذكرت من قبل، جرت عدة محاولات على مدى السنوات السابقة من أجل تحقيق هذا الهدف، ولكن للأسف لم يستطيعوا تحقيقه لأسباب عديدة؛ لأنه كان دائما ما تتناول النقاشات جوانب فكرية وأيديولوجية تواجه وتظهر الانقسامات بين المتحاورين؛ فهذا ليبرالي، وهذا علماني، وهذا إسلامي، وهذا أيد الانقلاب، وهذا اعتبر أن 30 حزيران/يونيو موجة ثانية للثورة، وغير ذلك من اختلافات. أو أن الاختلاف كان يندرج على الشكل القادم؛ هل عودة الشرعية أو تشكيل مجلس رئاسي أو.. أو.. بالإضافة إلى جانب آخر أعتقد أنه سبب رئيسي، وهو أنه لم تطرح على مدى سنوات الانقلاب السابقة مبادرة عملية بشكل محدد كالتي نحن بصددها الآن.
فنداء الحرية والديمقراطية لم يتناول أي شكل من أشكال الاختلاف الأيديولوجي أو الفكري ولم يطالب إلا بالحرية، التي تضمنها انتخابات نزيهة بإشراف دولي. وهذا المطلب لا أتصور أن يختلف عليه اثنان ممن يريدون الخير لمصر بصدق، حتى من أيد الانقلاب؛ لأن هذا النداء سوف يؤكد ما اختاره لو تمت الانتخابات بحرية، ناهيك عمن يطالبهم النداء بالمشاركة من العرب وأبناء الدول الإسلامية، وكل من يطالب بالحرية والديمقراطية من بني البشر في أي بقعة من العالم.
ونداء الحرية والديمقراطية لا يتطلب إلا التوقيع عليه في المرحلة الأولى، ولكن إذا استطاع المصريون التعاون والاصطفاف والاتحاد، وتم تجميع عدد كبير من التوقيعات في هذه المرحلة، مثلما تم في تجربة عام 2010 عندما تم إعلان الجمعية الوطنية ومبادئها الستة، التي كانت تتناول في مطالبها الأساسية حق المصريين في الاختيار الحر وضمان نزاهة هذا الاختيار. وقد تم حشد المصريين وتم تجميع أكثر من مليون توقيع على وثيقة التأسيس، وبلا شك وكما هو معلوم للجميع أن الإخوان المصريين استطاعوا تجميع أكثر من 800 ألف توقيع.
وأؤكد أن العمل الحقيقي لهذا النداء، سوف يبدأ بعد تجميع التوقيعات من المصريين والعرب والمسلمين، وجميع الأحرار الذين يؤيدون الفكرة بمثل تلك الأعداد. وفي المراحل التالية، سيكون العمل المطلوب أكثر وأشق، وسيكون هناك محك حقيقي للعمل الذي تشارك فيه كل الأطراف. وهذا هو التصرف الطبيعي والمنطقي لمن يتعرض لما تتعرض له مصر من ظلم وإفقار واستبداد، لذلك فلا أتعجب بل أتوقع إذا قامت وتقوم المبادرات السابقة بدعم والتوقيع على نداء الحرية؛ من أجل الوصول إلى الهدف الحقيقي والعملي للاصطفاف والاتحاد.
وأخيرا، ولكن؛ هل يستطيع المصريون تحقيق ما يتمنون منذ عشر سنوات، ولا نقول كما قال زعيم الأمة سعد زغلول منذ ما يقرب من مائة عام "مفيش فايده"، وأنه كان يقصد المصريين ولا يقصد الدواء؟!
وفي الختام، أدعو الله سبحانه وتعالى أن ينير بصيرة المصريين ويوحد صفهم، وأن يقفوا سوية من أجل استكمال هذه المبادرة، وأن يقف معهم العرب والمسلمون في مختلف بقاع الأرض، من أجل أن يعيشوا حياة حرة، وأن يكونوا قادرين على أن يقدموا للعالم نموذجا يمكن اتباعه من شعوب أخرى.
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.