المتوكل: هذه قصة خلع السلال وإقصاء الأرياني واغتيال الحمدي

تعرضت للحصار في إحدى المعارك وأصبت إصابة بالغة، لكنني تمكنت من فك الحصار ومن بعد أسعفت وذهبت إلى مصر (آثار الإصابة بادية في جسده)، حيث بقيت في المستشفى ستة أشهر ومن ثم كلفني الرئيس عبد الله السلال بالذهاب إلى العراق في 14 تموز (يوليو) للتهنئة بعيد الثورة العراقية. انتقلت بعدها إلى سوريا ومنها إلى بيروت رفقة أحمد المعلمي، ومن ثم إلى مصر إلى المستشفى مجددا إلى أن صرت أحسن حالا، فرجعت إلى صنعاء في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، لكن يدي كانت ما زالت لا تسمح لي بالحركة الطبيعية.

في صنعاء، قرر الرئيس السلال إرسالي إلى موسكو في بعثة عسكرية لتلقي دورة أركان كانت مدتها سنتين ونصف. ثم تتالت البعثات. عدت في العام 1965 إلى صنعاء لأصبح مديرا للتدريب العسكري المركزي ثم مساعدا لرئيس الأركان علي سيف الخولاني.

في العام 1965 بدأ التململ اليمني من سيطرة المصريين على الشؤون العامة. بدأت أصوات تعلو في كل مكان وتقول لقد ساعدنا المصريون لكن يجب ألا يسيطروا على شؤوننا. أذكر على سبيل المثال أنني كنت مسؤولا عن التدريب العسكري لكل اليمن، وكان علي أن أستمع إلى قائد عسكري مصري بجانبي. كل قائد عسكري يجب أن يكون معه خبير مصري ولا تستطيع أن تتخذ قرارا بمعزل عنه. عبرنا عن احتجاجنا في أوساط الضباط والحكومة وفي كل مكان. في تلك الفترة كان الرئيس السلال في مصر؛ أبعد إلى القاهرة بقرار من القيادة اليمنية وبموافقة الرئيس جمال عبد الناصر.

في 3 أيلول (سبتمبر) عام 1966 قال المصريون؛ إن الرئيس السلال عائد إلى صنعاء. اتخذنا استعداداتنا العسكرية لرفض عودته. شارك في الرفض الجميع ومنهم حسن العمري (رئيس الوزراء الأسبق وقائد المقاومة اليمنية في حصار السبعين يوما) وحسن مكي (سياسي يمني كبير ورئيس وزراء سابق) وآخرون، وأصدرنا بيانا ضد عودته. كانت مقاومتنا للتسلط المصري مكشوفة.

قتل المصريين في الشوارع 

لاحظ المصريون أن الوضع ازداد توترا بعد وصول السلال، واستنفرت وحداتهم العسكرية في صنعاء وكانت أقوى من ترتيباتنا؛ فاضطررنا للتحصن في الثكنات.
 
تدخل السفير المصري أحمد شكري وطلب منا التروي كي لا يستفيد الملكيون من خلافاتنا، ونصحنا بالنزول إلى تعز، تجمعنا هناك فجاء إلينا ثانية وقال؛ إن علينا أن نجتمع مع الرئيس عبد الناصر أو مع أي مسؤول مصري لحل المشكلة. ذهبنا إلى مصر ولاقينا استقبالا جيدا. استأجرنا شققا وأعطونا مصروفا وقالوا لنا؛ إن علينا أن نبقى طويلا في مصر، فرفضنا وطالبنا بالاجتماع مع الرئيس جمال عبد الناصر أو أي مسؤول مصري رفيع المستوى. 

قالوا لنا؛ إن عبد الحكيم عامر سيأتي للقاء بنا وإذا بهم يرسلون شمس بدران الذي هاجمنا بشدة، الأمر الذي اضطر العمري وعلي سيف الخولاني وحسن مكي وكبار الشخصيات إلى مغادرة الاجتماع، دون أن يمتنع بدران عن الشتائم والكلام الموجع، الأمر الذي أدى إلى خروج القسم الأكبر منا من الاجتماع فبدأ اعتقالنا للتو. 

أذكر أنني كنت خارجا من السينما فجاءني إخوة مصريون وقالوا لي تفضل معنا، ففهمت على التو أنني قيد التوقيف. أخذوني وجماعة أخرى إلى قسم الشرطة ثم نقلونا في سيارة ثانية إلى سجن حربي. بقينا فيه من 10 أيلول (سبتمبر) عام 1966 حتى تشرين الأول (أكتوبر) عام 1967 وقد وقعت حرب حزيران (يونيو) مع إسرائيل ونحن في السجن. 

علمنا بوقوع حرب حزيران (يونيو) 1967 عبر إذاعة السجن. تابعنا من خلالها أولا حديث الانتصارات المتتالية، ثم سمعنا فجأة استقالة الرئيس عبد الناصر. شعرنا بزلزال مفاجئ وبهزيمة قاسية. كنا مشبعين بالعنفوان والوطنية وهذا الشعور يشملنا جميعا بما في ذلك القاضي عبد الرحمن الأرياني، الذي كان قيد الإقامة الجبرية في منزل مستقل. وطلبنا منهم أن يسمحوا لنا بالمشاركة في الحرب إلى جانبهم. 

بعد ذلك سمحوا لنا بالإقامة كل اثنين في زنزانة واحدة (شمل الاعتقال أكثر من 30 مسؤولا يمنيا من بينهم رئيس الحكومة وقادة في الجيش ووزراء ونواب ومشايخ. من بين الموقوفين القاضي عبد الرحمن الأرياني رئيس الجمهورية فيما بعد، والمقدم إبراهيم الحمدي الرئيس التالي، والأستاذ أحمد محمد نعمان أحد أهم رموز الثورة المدنية، وعلي سيف الخولاني، والفريق حسن العمري، وحسن مكي، وآخرين).

في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1967 اجتمع مؤتمر القمة العربي في الخرطوم وتم الاتفاق على الانسحاب المصري من اليمن. تشكلت لجنة مصالحة في القمة بين مصر والسعودية ودول أخرى، كان لها أثر سيئ في اليمن، وأدت إلى نشوب تظاهرات ضد المصريين وبدأ الشباب المتطرف يطلقون النار على الجنود المصريين في الشوارع، فكانت القشة التي قسمت ظهر البعير. 

بعد أسبوع، أفرجوا عنا وخرجنا غير مصدقين وعدنا إلى صنعاء. أعتقد أن قرار ذهابنا إلى القاهرة كان خاطئا، لو بقينا في اليمن لربما كنا قد وجدنا حلا للمشكلة، ومن ثم أنقذنا الضحايا الذين سقطوا في هذا الصراع، ولربما كان المصريون سيقبلون بالحل الوسط.

توجهنا في أول تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967 مع القاضي عبد الرحمن الأرياني إلى صنعاء بطائرة مصرية قادتنا إلى الحديدة، وكانت القوات المصرية قد بدأت بالتجمع فيها تمهيدا للانسحاب. التقينا الرئيس السلال في الحديدة فأبدى أسفه لما وقع لنا. قال أنتم عائدون للانتقام والاستيلاء على السلطة. قلنا له نحن مجردون من السلاح، والثورة في خطر، ويجب أن تجتمع كلمتنا لحمايتها. وعدنا بأن نعود إلى أعمالنا وأن نكرس جهودنا للدفاع عن الثورة، خصوصا أن المصريين سيغادرون اليمن. قال: أنا مسافر إلى العراق ثم إلى روسيا من أجل مساعدة الثورة، ومن ثم ودعنا وكان من المفترض أن يبقى عبد الله جزيلان نائبه في اليمن، لكنه سافر معه فأدركنا بأنه كان يعلم أنه لن يبقى رئيسا لليمن .
 
انقلاب الأرياني

عدنا من الحديدة إلى صنعاء في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967 واجتمعنا في منزل القاضي عبد السلام صبرة وهو بيت الثورة. اجتمعنا نحن العسكريون العائدون مع عسكريين كانوا في صنعاء واتفقنا على تغيير الرئيس فكانت حركة 5 تشرين الثاني (نوفمبر) التي تشكلت مني ومن محمد علي الأكوع وصالح الأشول ويحيى مصلح ومحمد الديلمي، ومن ثم اجتمعنا مع الشيخ عبد الله الأحمر والقاضي عبد الرحمن الأرياني في بيت الشيخ عبد الله، وتم الاتفاق على أن تتم الحركة وينصب الأرياني رئيسا، وكانت حركتنا تضم بعثيين وقوميين وقبائل، فضلا عن قيادة وضباط الجيش.

في تلك الليلة، كلفني الرئيس الأرياني أن أشرح أهداف الحركة للسفير الروسي في صنعاء، خصوصا أنني كنت أجيد الروسية. وجدت السفير غاضبا ومعاتبا (بسبب توجه الرئيس المخلوع عبدالله السلال إلى روسيا قبل خلعه). قال لي: كان يجب أن تعلمونا من قبل. قلت له: لا بد أنك تشعر بحرج لأنك ما كنت تعلم بهذه الحركة ولا حرج عليك؛ لأنها نشأت قبل أربعة أيام فقط. لقد أنقذت حركتنا الثورة اليمنية رغم الاتهامات التي توجه لها بأنها رجعية وسمحت لنا بإعادة اللحمة إلى الجيش.

                       يحيى المتوكل مع العقيد معمر القذافي

فوجئنا بهجوم ملكي بعد رحيل المصريين. بدأ الهجوم في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) واستمر حتى كانون الثاني (يناير) 1968 وعرف بحصار السبعين يوما. كنت في هذه الفترة عضوا في مجلس الدفاع في قيادة الجيش ومديرا لمكتب رئيس الوزراء المعين حسن العمري حين بدأنا بتنظيم المقاومة التي شملت كل أهل صنعاء. شارك معنا الشيخ عبد الله الأحمر في بداية الهجوم، ثم انتقل إلى منطقته لينظم الدفاع عنها برغبة منا كي لا يبقى كل القادة في العاصمة. تمكن من حشد قوة كبيرة لمقاومة الملكيين، واستطاع أن يفك الحصار من الجهة الشمالية الغربية.

واصلت المشوار مع العمري مديرا لمكتبه. كان شخصية عسكرية فذة وجمهوريا من الطراز الأول، لكنه كان أحمق في ردود فعله، والدليل الأكبر حادثة المصور الذي قتله، وأدى إلى خروجه من العمل السياسي والعسكري، لكن رغم ذلك كان دوره حاسما في إنقاذ الثورة والجمهورية.
 
قاتل العمري حتى الموت دفاعا عن الثورة في صنعاء. كنا نتوجه معا في كل مرة تضعف إحدى الجبهات في مواجهة الملكيين فننقذ الموقف وندعم المقاومة. كان خطيبا حماسيا يلهب الجمهور بكلماته ويعبئ الناس في مواجهة الملكيين.

بعد فك حصار السبعين عن صنعاء، عاد الملكيون (حاصر الملكيون صنعاء لمدة سبعين يوما ابتداء من 28 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1967 وحتى 7 كانون الثاني / يناير عام 1967 . انتصر الجمهوريون المحاصرون بمساعدة من سوريا والصين والجزائر ومصر ومهد انتصارهم للمصالحة مع السعودية وعودة قسم من الملكيين إلى صنعاء)، وبقيت مديرا لمكتب العمري حتى منتصف العام 1968 حيث انتخبت عضوا في المجلس الوطني النيابي. كنت حينذاك عقيدا في الجيش. 

في العام 1969 غادر العمري اليمن بسبب حادثة المصور (قتل الجنرال حسن العمري في لحظة غضب المصور محمد الحرازي، بسبب خلاف على تشابك خطوط الهاتف بين الطرفين) وعينت قيادة جديدة ممثلة بعبد اللطيف ضيف الله نائبا للقائد الأعلى للشؤون العسكرية، وأنا نائبا للقائد الأعلى للشؤون المالية والإدارية في الجيش. وعين أحمد الرحومي رئيسا للأركان. وتشكلت قيادة جديدة من حسين المسوري ومحمد الأرياني، وتم تعيين محسن العيني رئيسا للوزراء عام 1970 وبدأت أصوات تعلو من أجل المصالحة مع السعودية. في هذا الوقت، لاحت فرصة انعقاد "المؤتمر الإسلامي" على مستوى وزراء الخارجية في جدة، فطلبت اليمن حضور المؤتمر علما أن السعودية لم تعترف بالحكم اليمني الجديد. ضمّني محسن العيني إلى الوفد فضلا عن الشيخ عبد الله الأحمر وآخرين .

كانت أول بادرة سعودية إيجابية تجاه اليمن وقد استقبلنا بالعلم الجمهوري. تحاورنا مع السعوديين الذين طلبوا منا تغيير اسم الجمهورية وتسمية بلدنا بـ "دولة اليمن" فرفضنا. وطلبوا أيضا عودة الملكيين إلى اليمن، فحددنا موعدا آخر للبحث عن حل وافتتح خط للتواصل بين البلدين.
 
كلُفِتُ بالتفاوض من أجل تطبيع العلاقات. كنت أتفاوض مع الأمير فهد والأمير سلطان بن عبد العزيز، وتوصلنا إلى اتفاق حول عودة بعض الملكيين إلى صنعاء، وعيّنا أحدهم عضوا في المجلس الجمهوري (أحمد محمد الشامي) وأعضاء آخرين في مجلس الوزراء والمجلس الوطني، وتفاوضت معهم حول الأسماء واشترطت استبعاد عائلة حميد الدين.
 
كان أحمد الشامي ممثل الملكيين الذين اعترفوا بالجمهورية وطلبوا الاندماج مجددا قي المجتمع، فحصل لهم ما أرادوا. بعد أن انتهينا من هذه المشكلة، جرى تعييني سفيرا في مصر وبقيت فيها من عام 1971 وحتى العام 1974. في هذه الفترة منح القاضي الأرياني سلطة واسعة لزعماء القبائل فتحركنا لوضع حد لحكمه. كنت مع مجاهد أبو شوارب على تواصل وثيق من أجل الإعداد لحركة تغيير في اليمن. أتينا بالمقدم إبراهيم الحمدي رئيسا وعُيِنتُ عضوا في مجلس قيادة هذه الحركة، فضلا عن دوري في وزارة الداخلية اليمنية. 

القاضي الأرياني شخصية وطنية تقليدية، وهو من جيل ما قبل الثورة ومن رجال الدين السياسيين الذين ينظرون إلى التغيير على أنه محدود ومتدرج. تفاعل مع الثورة لكنه ما كان مؤيدا للتغيير الجذري. كان يلتقي مع الشهيد محمد محمود الزبيري وهو من الجيل نفسه. قاوم الملكيين عندما صار رئيسا للجمهورية ورفض المساومة ولم تكن شخصيته قوية. لم يكن يرغب في أن أكون وزيرا للداخلية وكان يضيق ذرعا بمحسن العيني. 

انطلقنا مع إبراهيم الحمدي في مغامرة جديدة وتوجهنا نحو التغيير الجذري، لكن التجربة لم تعمر طويلا؛ إذ اغتيل الحمدي ودخلت البلاد في مرحلة أخرى.

اقرأ أيضا: يحيى المتوكل.. هاشمي انشق عن أسرته ودمر القصر الملكي

اقرأ أيضا: يحيى المتوكل: رفضنا إصلاح "الإمامة" وتمسكنا بالجمهورية