وكما قلت إن
السيسي لن يحرك قواته لدخول الحرب في ليبيا، فقد قلت أكثر من مرة إنه لن يقوم بعمل عسكري ضد
سد النهضة، ولو كان عملاً بسيطاً خاطفاً ينتج عنه إخراجه من الخدمة. وعندما هدد بأن حصة
مصر التاريخية من مياه النيل خط أحمر، لم أتردد لحظة بأنه لن يفعل شيئاً، ضعف الطالب والمطلوب!
في الأولى تمسكتُ بوجهة نظري حتى وهو يدق طبول الحرب، ويحصل على موافقة البرلمان بالدخول في غمارها، بما ينص عليه الدستور، بل إنه عندما وعد بتدريب الليبيين على السلاح، أكدتُ أنه إجراء لن يُنفذ، فالماء يكذب الغطاس، ولم أكن بذلك أقرأ الفنجان أو الطالع، لكن علمنا منطق العسكر!
وعليه، أجزم أنه رغم التلويح بالعمليات العسكرية ضد السد الإثيوبي، إلا أنه لن يفعل، مع ما في الأمر من مغامرة، ولا يليق بكاتب أن يعرّض مصداقيته لمثل هذا الرهان، إن ساورني الشك لحظة بأنه قد يحارب.
الجنرال الذي لم يدخل حرباً ولم يواجه عدواً يخشى مغبة الحروب، وهو يدرك - أكثر من غيره - أنه قد يعرض موقفه الداخلي للحرج، إن هو دفع بالجنود في حروب الهزيمة خارج الحدود. ثم إنه في موضوع سد النهضة، ليس بريئاً تماماً، فقد وقّع اتفاق المبادئ بمحض إرادته
فسوابق الجنرال في الهروب من عاصمة الحزم، بعد وعده التاريخي بـ"مسافة السكة"، كاشفة عن أنه ليس مثل العسكريين القدامى الذين كانوا يذهبون للحروب حتى تتحقق لهم السيطرة الداخلية وفق شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". فالجنرال الذي لم يدخل حرباً ولم يواجه عدواً يخشى مغبة الحروب، وهو يدرك - أكثر من غيره - أنه قد يعرض موقفه الداخلي للحرج، إن هو دفع بالجنود في حروب الهزيمة خارج الحدود. ثم إنه في موضوع سد النهضة، ليس بريئاً تماماً، فقد وقّع اتفاق المبادئ بمحض إرادته، ودون أن يضع الشعب في الصورة، وحرص على ألا يضع الأمر أمام البرلمان، مع إداركه الكامل بأنه في ظرف نصف ساعة قد يكون له ما أراد، سواء بالموافقة على الاتفاق أو برفضه. وقد تخلص في برلمانه الحالي بغرفتيه من أي صوت مقلق، فحتى الأصوات التي وقفت ضد التفريط في تيران وصنافير، أخرجها من البرلمان الجديد!
فالذي يتحرك فعلا على قواعد الحفاظ على مياه النيل، لم يكن قد وقع أصلاً على اتفاق المبادئ، ثم إنه وإن تأكد له أنه تورط، ففي يده خطوة مهمة تتمثل في العدول عنه عن طريق البرلمان، بشكل دستوري وقانوني ويتفق مع القانون الدولي، فلم يستخدم هذا السلاح، وهو أيسر من الحروب وأقل كلفة!
ومع هذا فهو تمسك بتوقيعه على اتفاق المبادئ، على نحو كاشف عن تمسكه به، وتسليمه بمنح موافقة مصر على بناء السد، هذا إن لم تكن هناك ملاحق سرية في الاتفاق يُخشى معها من عرض الأمر على البرلمان، ثم إنه كان يعلم مبكراً بالمخاطر الناجمة عن توقيع هذه الاتفاقية، وأعلن منذ اليوم الأول عن مشروعات تحلية مياه البحر وعن محطات عملاقة لتحلية مياه الصرف الصحي. فالتداعيات كانت متوقعة ولم تكن مفاجئة له، وعدم السماح بمناقشة مجتمعية لهذه الاتفاقية اللعنة إنما يؤكد إقراره بأنها إثم حاك في الصدر ويخشى أن يطلع عليه الناس!
تمسك بتوقيعه على اتفاق المبادئ، على نحو كاشف عن تمسكه به، وتسليمه بمنح موافقة مصر على بناء السد، هذا إن لم تكن هناك ملاحق سرية في الاتفاق يُخشى معها من عرض الأمر على البرلمان، ثم إنه كان يعلم مبكراً بالمخاطر الناجمة عن توقيع هذه الاتفاقية
لقد قامت دعاية إعلامه على أن الحرب خطر، وقال هذا بصراحة، وكأن الجيوش وجدت لتحكم، ولتقف على خط الجمبري وخط السمك البلطي. وما قيمتها إذا لم تجد نفسها مدعوة للدفاع عن مياه النيل، وهو من مهام الجند منذ عصر الفراعنة، والمرة الوحيدة التي يحدث فيها التفريط هي في عهد عبد الفتاح السيسي!
فالحروب على قسوتها، هي في النهاية كالتدخل الجراحي عندما تتفاقم الحالة المرضية، ويصبح لا مندوحة من التعامل بالمشرط وليس بالمسكنات، وبالبتر وليس بالأدوية. وقد روج المرجفون في المدينة لدعاية مفادها أن الإخوان - وحدهم - هم من يريدون توريط الجيش المصري في الحرب، فلما سكتت الألسنة عن ذلك، بعد تلويح السيسي بها، وجاء وقت استحقاق ما لوّح به تم استدعاء إبراهيم عيسى ليعزف هذا العزف النشاز، فالإخوان يريدون أن يشاهدوا الجيش المصري مهزوماً.
وكأن النتيجة الحتمية للحرب التي يخوضها الجيش المصري هي الهزيمة، وبشكل أضحك الثكالى وهم يشاهدون مئات الجنود الإثيوبيين رهن الأسر من قبل حفاة عراة، يسألون الله "ثمن النشوق"!
وهذه الدعاية المهزومة لا تضع في الاعتبار انتصار الجيش المصري، والأمر ليس من حروب المواجهة ولكنه قصف سريع وخاطف، لا يلزمه إلا طلب الإذن من قبل الحكومة السودانية، فلسنا في حروب المواجهة بين الجيش المصري والجيش الإثيوبي الذي لا يقهر!
كأن النتيجة الحتمية للحرب التي يخوضها الجيش المصري هي الهزيمة، وبشكل أضحك الثكالى وهم يشاهدون مئات الجنود الإثيوبيين رهن الأسر من قبل حفاة عراة، يسألون الله "ثمن النشوق"!
وعندما استمع لأصوات المرجفين في المدينة أتذكر مقال محمد حسنين هيكل، الذي كتبه في فترة شهر العسل بينه وبين السادات، "تحية للرجال"، وذلك عندما زار الجبهة وعاد من هناك بفكرة المقال، التي تدور حول أن الجيش المصري ليس مستعداً لخوض حرب جديدة ضد إسرائيل، وعندما قامت الحرب وانتصرت مصر، اعتبر أن المقال يندرج ضمن عمليات الخديعة التي قامت بها القيادة المصرية لتضليل الإسرائيليين بأنهم لن يحاربوا، لكن السادات عندما أحاله للمدعي العام الاشتراكي متهماً بجملة اتهامات خطيرة، من باب الانتقام، كان هذا المقال واحداً من أدلة الإدانة، ووجه إليه الاتهام بأنه عمل على إحباط الجيش، ونشر روح الهزيمة والاستسلام!
وبعيداً عن حالة الاستقطاب السياسي، وقد أفضى كل منهما إلى ما قدم، فالحقيقة المجردة أن مقال هيكل كان تعبيراً عن إرادة القادة العسكريين، الذين وجد السادات نفسه في أزمة وهم لم يؤوبوا معه بضرورة الحرب، ولم يكن أمامه إلا أن يطيح بمعظم القيادات العسكرية، ليمكنه دخول حرب أكتوبر مع القيادة الجديدة التي اختارها لمهمة قررها هو سلفا.
ومعنى هذا أن الذين ينشرون روح الاستسلام، مثل عيسى وغيره من رجال السيسي، يمكن أن يحاسبوا عندما يصدر قرار سياسي بقصف سد النهضة، إلا أنهم يعبرون فعلاً عن السلطة الحاكمة التي لن تحارب.
لو سألت المصريين على اختلاف توجهاتهم عن رأيهم في الحرب، لوقفت على المفاجأة بأن السواد الأعظم منهم يؤيد قيامها، لأنها وإن كانت قاسية على النحو الذي يروج له البعض، فسوف تكون أخف الضررين، لأن البديل هو في خروج مصر نفسها من الخدمة!
ولا أنكر أنني بلمسة تصوف عابرة أستبعد هذه الحرب، لإدراكي أن لعنة الدماء التي روت الأرض المصرية في المذابح الشهيرة، لن تمكن السيسي من أن يكون زعيما لهذه الأمة!
فلو سألت المصريين على اختلاف توجهاتهم عن رأيهم في الحرب، لوقفت على المفاجأة بأن السواد الأعظم منهم يؤيد قيامها، لأنها وإن كانت قاسية على النحو الذي يروج له البعض، فسوف تكون أخف الضررين، لأن البديل هو في خروج مصر نفسها من الخدمة!
ولو تم قصف السد أو إخراجه من الخدمة لتوج السيسي زعيماً، ولصار تأييده من قبل عامة المصريين وخاصتهم هو تحصيل حاصل. ولا أقول إننا سنكون مدعوين لتأييده، بل سنكون مطالبين بانتظار الإذن منه لهذا التأييد، فلن يسكت الرأي العام على معارض للسيسي ولو طالب بالحرية وبإقامة حياة سياسية سليمة!
وبوجدان المتصوفة، فإن من أراق كل هذه الدماء بغير وجه حق، لن يسترها الله معه لتحقيق هذه الزعامة التي لن تكون مسبوقة في تاريخ مصر!
إن لجانه وإعلامه يطلبون من المصريين أن ينتظروا المفاجأة، مع أنه لا مفاجأة هناك ولا يحزنون، لكنهم يدغدغون عواطف الجماهير!
حسناً، لقد قالوا: الجمل صعد أعلى النخلة. فقلنا: هذا هو الجمل وهذه هي النخلة!
twitter.com/selimazouz1