قضايا وآراء

ملف سد النهضة.. بين الحقائق والأوهام

إبراهيم بدوي
1300x600
1300x600
"مناقشة مسألة سد النهضة تضييع لوقت مجلس الأمن".. هكذا عبر وزير المياه الإثيوبي عن رؤية بلاده للمحاولات البائسة من قبل مصر والسودان لتدويل قضية السد، الذي أقامته بلاده على مجرى النيل الأزرق ويمثل تهديدا وجوديا لدولتي المصب، بما يمنحه لدولة المنبع من تحكم كامل بحصتيهما من مياه النهر.

والتصريح بقدر ما يحط من قدر الدبلوماسية المصرية العريقة، يعبر عن ثقة كاملة في الموقف القانوني والدولي لإثيوبيا بعد توقيع الجنرال على اتفاق إعلان المبادئ عام ٢٠١٥.

وغير بعيد عن مجلس الأمن الذي شهد هزيمة جديدة للدبلوماسية المصرية أمام إثيوبيا، جرت واقعة أخرى كانت بمثابة الهزيمة الشعبية بالخارج، عبّر عنها مشهد لافت تناقلته الكاميرات لمواطن مصري يرفع علم بلاده ويقف وحيدا بين جحافل المتظاهرين الإثيوبيين الداعمين لموقف بلادهم، رغم أن شرائح بعينها من المصريين المقيمين في الولايات المتحدة كان يتم شحنها في حافلات لاستقبال الجنرال، أو التلويح له من الجانب المقابل لفندق إقامته في مهمة وطنية جليلة تحت شعار تحيا مصر.
أكاد أجزم بأنه لو تعامل مع السد كمباراة فاصلة في كرة القدم يتأهل الفائز منها إلى كأس العالم لكان ذلك أجدى شعبيا. وكلنا يذكر حالة الشحن الإعلامي التي كادت أن تؤدي إلى قطيعة مع الجزائر الشقيقة بسبب مباراة مماثلة

"تحيا مصر" ذلك الشعار الذي يتفق عليه المصريون لفظا ويختلفون حد الشقاق عند محاولة ترجمته إلى واقع عملي، فمنهم من يوقن بأن حياتها في التخلص من الظلم وإطلاق الحريات ومواجهة التحديات، وعلى الجانب الآخر يقبع أبناء الدولة - أو بالأحرى السلطة - الذين يرون حياتها في مساندة النظام وتبني الروايات التي تروج لها قواه الناعمة، ممثلة في الدراما والأذرع الإعلامية.

لا شك أن النظام حقق نجاحات داخلية من خلال القوى الناعمة، ونجح في تجييش شرائح واسعة من المجتمع لتبني رؤاه في قضايا أقل أهمية بكثير من قضية مياه النيل. وأكاد أجزم بأنه لو تعامل مع السد كمباراة فاصلة في كرة القدم يتأهل الفائز منها إلى كأس العالم لكان ذلك أجدى شعبيا. وكلنا يذكر حالة الشحن الإعلامي التي كادت أن تؤدي إلى قطيعة مع الجزائر الشقيقة بسبب مباراة مماثلة.

لجأ الجنرال كعادته لسياسة الهروب إلى الأمام عند اقتراب لحظة الحسم، ولم يجد أسهل من إلقاء اللوم على ثورة يناير - التي ينعتها دائما بكل نقيصة حتى باتت أم الشرور وقاصمة الظهور - ناسيا أو متناسيا توقيعه على اتفاق المبادئ، الذي شرعن بناء السد وأعطى إثيوبيا الضوء الأخضر لرفع البنيان، وفتح خزائن البنك الدولي أمامها، وهو ما استندت إليه مؤخرا في إتمام الملء رغم عدم جاهزية توربينات توليد الكهرباء لديها، حتى أيقن الجميع أنه قرار سياسي وليس تنمويا.
تحركت أديس أبابا بخطوات واثقة تعبر عن إدراكها لسلامة موقفها القانوني ومعرفتها الجيدة بالنظام المصري، الذي لم يشكل لجوؤه إلى مجلس الأمن سوى فصل من مسرحية هزلية للاستهلاك المحلي ولا تمت للدبلوماسية بصلة؛ فمضت في خططها الأحادية لملء السد مستفيدة من سياسة المماطلة

اتفاق المبادئ لم يتبعه أو يتزامن معه اتفاق فني ملزم للجانب الإثيوبي، يتضمن توقيتات محددة للملء، أو توصيفات دقيقة لكمية المياه التي يتعين تخزينها وفق إطار زمني محدد لا يلحق الضرر بمصر والسودان. ومن المفارقات الغريبة أن بنود الاتفاق وملاحقه ظلت سرية وبعيدة تماما عن أعين الشعب أو حتى نواب البرلمان، وربما لم يدرِ الجنرال على أي شيء وقع يومها؛ فكل ما كان يحلم به هو الظهور بمظهر من يملك زمام الأمور ويتحكم في عجلة القيادة، إضافة إلى انتزاع شرعية مفقودة لنظام انقلابي ظل منبوذا من الاتحاد الأفريقي فترة طويلة.

تحركت أديس أبابا بخطوات واثقة تعبر عن إدراكها لسلامة موقفها القانوني ومعرفتها الجيدة بالنظام المصري، الذي لم يشكل لجوؤه إلى مجلس الأمن سوى فصل من مسرحية هزلية للاستهلاك المحلي ولا تمت للدبلوماسية بصلة؛ فمضت في خططها الأحادية لملء السد مستفيدة من سياسة المماطلة وكسب الوقت، غير عابئة بما يصدر عن أوركسترا النفاق الإعلامي الموحد في القاهرة، والتي دعت إلى إعادة تقييم علاقة مصر مع الدول بناء على موقفها من سد النهضة.

قد يبدو الأمر في ظاهره موقفا وطنيا انحاز فيه الإعلاميون إلى مصر في لحظة مفصلية فارقة من تاريخها المعاصر، لكن ماذا عن الدول الخليجية المالكة للقنوات التي يتحدثون من خلالها، والتي لديها استثمارات ضخمة في السد؟ وماذا عن البنوك المصرية التي ساهمت في تمويل السد أملا في الحصول على فائدة عالية تقدر بـ٣٠ في المائة، غير مبالية بعواقبه الوخيمة على مصر وشعبها؟
من باع الجزر المصرية، وتنازل عن حقوقها التاريخية في غاز المتوسط، لن ينتفض من أجل مياه النيل، ومن صفق للباطل، وسكت عن الظلم؛ لن يجد غضاضة في التعامل مع مياه البحر، أو التأقلم مع مياه الصرف الصحي بعد معالجتها

لا مجال إذا لعزف نغمة الوطنية الزائفة في غير موضعها، ويتعين على الجميع مواجهة الحقيقة بكل ما تحمله من مرارة؛ فمن باع الجزر المصرية، وتنازل عن حقوقها التاريخية في غاز المتوسط، لن ينتفض من أجل مياه النيل، ومن صفق للباطل، وسكت عن الظلم؛ لن يجد غضاضة في التعامل مع مياه البحر، أو التأقلم مع مياه الصرف الصحي بعد معالجتها.

ما يحز في نفسي حقا، تلك الفئة التي تتوقع شيئا ما من النظام لحلحلة ملف السد، وتتعامل مع تحركاته البائسة كما لو كانت خداعا استراتيجيا يسبق عملا عسكريا ما. ولهؤلاء أقول: أفيقوا يرحمكم الله؛ فقدرات مصر العسكرية وأسلحة جيشها ليست موجهة للخارج، وإنما لحصد أرواح من يطالبون بالحرية والديمقراطية وتداول السلطة، وأقصى ما يفعله الجنرال هو تهديد الغرب بموجة هجرة عاتية تخرج من مصر لتضرب سواحل القارة العجوز إذا انقطع النيل عن الجريان، ولن ينسى التسويق لنفسه على أنه الوحيد القادر على إيقاف هذا المد، لما يمتلكه من خبرات سابقة في القمع ومواهب فطرية في التنكيل.
التعليقات (0)