عندما تؤسلم فتح شعاراتها!!

في سلسلة مهرجانات ومسيرات "تجديد البيعة" وشدّ العصب التي أقامتها حركة فتح في الشهر الأخير (خاصة بعد حوادث نالت من شرعيّتها وأحقيّتها، كحادثة اغتيال المعارض نزار بنات، التي جاءت عقب انتهاء معركة سيف القدس التي غابت عنها حركة فتح كالعادة، كما جاءت هذه أيضا بعد إرجاء الانتخابات التشريعية)؛ فاجأتنا في أحد مهرجاناتها في مدينة جنين يوم 13 تموز/ يوليو بأنها كتبت على راياتها الصفراء عبارة التوحيد الإسلامية "لا إله إلا الله" وبخط الثلث الشهير، وهو الشعار الثابت الممهور دائما على رايات وشعارات الحركات الإسلامية (حماس، الجهاد الإسلامي، حزب التحرير).

ورغم أن حركة فتح كانت تمّيز نفسها منذ بداياتها الأولى بأنها لا تتبنى برنامجا أيديولوجيّا ولا اجتماعيا، على اعتبار أن مثل ذلك يشكّل عائقا ذاتيا أمام مهمة المهمات التي نذرت نفسها لها وتصدّت لإنجازها المتمثلّة في "برنامج التحرير"، فكانت فتح تركز على الانتماء الوطني العام، لدرجة أنها كانت تعتبر كل فلسطيني غير مُؤطّر في حزب أو حركة سياسية، فتحاويّا كتحصيل حاصل!!

رغم أن حركة فتح كانت تمّيز نفسها منذ بداياتها الأولى بأنها لا تتبنى برنامجا أيديولوجيّا ولا اجتماعيا، على اعتبار أن مثل ذلك يشكّل عائقاً ذاتياً أمام مهمة المهمات التي نذرت نفسها لها وتصدّت لإنجازها المتمثلّة في "برنامج التحرير"، فكانت فتح تركز على الانتماء الوطني العام

رغم ذلك كنا نجد هذه الحركة، خاصة في مراحل الاستقطاب السياسي والتنافس الشديد، تظهر خطابا مزايدا على خطاب الفرقاء المنافسين. ففي سبعينيات القرن العشرين التي شهدت مدّا يساريّا جارفا في الساحة الفلسطينية، كانت فتح آنذاك أشبه بتنظيم يساري يحوي في داخله شتى تيارات اليسار العالمية في حينه (الماركسية اللينينية، الماوية، الفيتنامية الكوبية، التروتسكية، اليسار الأوروبي.. إلخ). وهنا، لم يكن صدفة أن فتح كانت هي التنظيم الفلسطيني الممثل في منظمة "الاشتراكية الدولية"، دونا عن أي فصيل يساري آخر في الساحة الفلسطينية!!

وكان ياسر عرفات (الذي طالما وصفته أدبيات تلك المرحلة اليسارية، بأنه هو وغالبية مؤسسي حركة فتح يمثلون اليمين الفلسطيني) يسعى في الرد على ذلك، بتقريب قيادات ومثقفين وأدباء ضالعين في الماركسية واليسارية، يضعهم عن يمينه وعن شماله، ليظهر بأنه راعي اليسار وحاضنه الأول، وكان من هؤلاء: ماجد أبو شرار، محمود درويش، أحمد عبد الرحمن، محسن إبراهيم، معين بسيسو، ناجي علوش، سميح أبو كويك، إلياس شوفاني، وغيرهم وغيرهم، وعند مراجعة بعض خطابات عرفات في تلك المرحلة، كنا نجده يستهلها بعبارة: "أيها الرفاق.. أيتها الرفيقات.."، كما كانت مطعّمة بالتعبيرات اليسارية الدارجة آنذاك، وكأننا مع خطاب يساري مكتمل الأركان!!

وعندما وقع الانشقاق الكبير في حركة فتح عام 1983، وتعرّض عرفات وقواته وحلفاؤه للحصار في مدينة طرابلس من قبل مهاجميه المنشقين وحلفائهم الفلسطينيين (ذوي المشارب اليسارية) بالإضافة إلى القوات السورية، همَّ عرفات أن يعلن حركة فتح كحركة إسلامية!! وذلك عندما ظنَّ أن حلفاءه الإسلاميين اللبنانيين (حركة التوحيد الإسلامي التي كان يقودها الشيخ سعيد شعبان، وكانت على علاقة خصومة بالنظام السوري وبالقوى اليسارية في مدينة طرابلس)؛ يشكّون في جدارة حلفهم مع حركة فتح، للاعتقاد بأنها حركة علمانية مخاصمة للدين، كما نقل ذلك شاهد العيان معين الطاهر، في مذكراته "تبغ وزيتون".

فقد همَّ عرفات، من باب الزيادة في تطمين حلفائه الإسلاميين وطردا لشكوكهم، أن يعلن عن حركته كحركة إسلامية، لولا رفض بعض كبار مستشاريه آنذاك (كأبي جهاد وأحمد عبد الرحمن وصخر حبش وآخرين) الذين أثنوه عن هذا المسعى، لما يمثله من تداعيات ستجلب لفتح مشاكل وأزمات جديدة، فوق ما كانت تعانيه من أزمات، وبعد أن قام مستشاروه هؤلاء بالإيضاح له بأن حركة التوحيد لم تكن بصدد طلب مثل ذلك أو اشتراطه أساسا، وأنها تتفهم واقع فتح كما هي عليه، ولا يدور في خلدها مثل ذلك الطلب!

جرأة العلمانيين، عربا وفلسطينيين، في الإعلان عن هويتهم العلمانية الصريحة، أخذت تجلياتها في الحقيقة بعد الربيع العربي، كنوع من إكساب العلمنة صفة سياسية كمعادل موازٍ في مواجهة الإسلاميين، الذين تصدّروا المشهد السياسي. وفي هذه الحقبة سنجد قيادات عليا في فتح لا تتلجلج وهي تعرّف نفسها كحركة علمانية

لطالما كانت حركة فتح تتحسّس بشدة، في نقاشات الثمانييات والتسعينيات (عصر الصحوة الإسلامية) من وصفها كحركة علمانية. وأذكر كيف كان الراحل الأستاذ إبراهيم أبو لغد (في أثناء محاضراته لصفوف الدراسات العليا في جامعة بيرزيت في منتصف التسعينيات) يرد نافيا وبلهجة مستفزّة، بأنه لم يرد في أي من وثائق منظمة التحرير تعبير "دولة علمانية". وعندما كنا نجري أبحاثنا في تعريف من هو العلماني الفلسطيني في تلك المرحلة، كنا نجد كبار الشخصيات الفلسطينية العامة تنفر وتبعد نفسها عن أن توصم بالعلمانية، رغم أن خلفية بعضها كان يساريّا أو غير ديني!!

لكن جرأة العلمانيين، عربا وفلسطينيين، في الإعلان عن هويتهم العلمانية الصريحة، أخذت تجلياتها في الحقيقة بعد الربيع العربي، كنوع من إكساب العلمنة صفة سياسية كمعادل مواز في مواجهة الإسلاميين، الذين تصدّروا المشهد السياسي. وفي هذه الحقبة سنجد قيادات عليا في فتح لا تتلجلج وهي تعرّف نفسها كحركة علمانية.

وقد اندهشت مرة، وأنا أستمع إلى عزام الأحمد (عضو اللجنة المركزية لحركة فتح) على إحدى الفضائيات العربية، وهو يقول، دون أن يرف له جفن، بأن فتح حركة علمانية!! وذلك في نوع من التماهي المعهود في سلوك حركة فتح مع البيئة السياسية المتغيرة التي تجد نفسها طرفا فيها. فهي هنا علمانية (سياسيا) في مقابل حماس (الإسلامية). ويأتي خطاب فتح "العلماني" هذا، في مرحلة "الثورة المضادة"، حيث برزت فتح هنا كأحد أهم قوى الثورة المضادة في مرحلة الربيع العربي!

مثل هذه النزعة التظاهرية الدعائية لا تمنح أصحابها إلا المزيد من اللا مصداقية واللا شرعية، خاصة عندما يقارن الناس ما بين الشعار المرفوع بغرض المزايدة، وما بين الممارسات الصارخة المناقضة له في الواقع

في مسيرة جنين التحشيدية الأخيرة، التي وقف على رأسها جبريل الرجوب، أمين سر حركة فتح وعضو لجنتها المركزية، والطامح لخلافة أبي مازن، بالإضافة إلى قريبه محافظ جنين أكرم الرجوب، ومن ورائهما قيادات وكوادر فتح المحلية في منطقة جنين)؛ أشهرت فتح راياتها الصفراء المعروفة، لكنها كانت ممهورة هذه المرة بعبارة التوحيد الإسلامية، في نوع من استعادة شرعية مفقودة ومتآكلة ومتداعية، ولكن باستعارة بضاعة ليست بضاعتها، وبرموز ليست رموزها، وهو ما يزيدها تآكلا وتجوّفا واهتراء.

إن هذا السلوك غير الحقيقي، الذي تغلب عليه روح المزايدة الاعتباطية "بالجهل فوق جهل الجاهلينا"، لن يفيد فتح في استعادة شرعيتها الوطنية الآفلة.

ورغم أننا نعيش في زمن شبكات التواصل الاجتماعي التي من سماتها الذاكرة القصيرة واللاحق فيها يُنسي السابق، فإن مثل هذه النزعة التظاهرية الدعائية لا تمنح أصحابها إلا المزيد من اللا مصداقية واللا شرعية، خاصة عندما يقارن الناس ما بين الشعار المرفوع بغرض المزايدة، وما بين الممارسات الصارخة المناقضة له في الواقع!