هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تنتهي بعد يومين (الأربعاء 25 تموز / يوليو 2021) المهلة الدستورية الممنوحة للرئيس التونسي لرفع الإجراءات الاستثنائية المنصوص عليها في الفصل الثمانين (80)، والعودة إلى الحالة الطبيعية، ويُفترض خلال الشهر الذي أعقب الإعلان عن القرارات الاستثنائية التي أقدم عليها الرئيس التونسي، قيس سعيد، أن يكون قد دبّر المرحلة بما يسمح باستئناف عمل المؤسسات، وضمان سيرها العادي، ورفع مظاهر "الخطر الداهم" الذي ألمّ بالبلاد، والذي استند على وقائعه وحيثياته لإيقاف نشاط أهم مؤسستين دستوريتين، أي "مجلس نواب الشعب" و"الحكومة".
بيد أن الواقع التونسي لا يؤشر بحصول تطور فعلي في تغيير الأوضاع التي دفعت إلى التأويل الرئاسي للفصل الثمانين، فمن جهة رئيس الدولة، ظلت تصريحاته المتوالية، ولقاءاته مع النخب التونسية، والمبعوثين الدوليين (الوفد الأمريكي تحديدا)، عامة، غير منطوية على إجراءات عملية واضحة ودقيقة، توخى من خلالها إقناع مُخاطَبيه بأن لا "خوف على الديمقراطية في تونس"، وأن المسار مستمر، وتوقفه سيكون مؤقتا ولضرورات حماية الدولة والمجتمع والبلاد كافة، بل أعاد التذكير، في أكثر من مرة، بأنه سيبقى وفيا للقَسَم الدستوري، وأنه "لا يخاف سوى خالقه"، وأن ما فعله "يستجيب لتطلعات الشعب التونسي الذي منحه الثقة وأمده بالشرعية الانتخابية".
أما من جهة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الآخرين، وتحديدا حركة "النهضة"، فقد تغير خطابها، وتليّنت نبرته، بل إن زعيمها راشد الغنوشي، لم يتردد في الدعوة إلى الحوار وفتح صفحة جديدة مع مؤسسة الرئاسة، بُغية "تجاوز الأزمة المركبة وتحقيق السلم الاجتماعي وإنجاز الإصلاحات الضرورية"، فكان ردّ الرئيس عن هذه الدعوة بقوله "لا حوار مع من وصفهم بخلايا سرطانية" في إشارة مباشرة إلى حركة "النهضة" ومن في صفها، مضيفا: "لا حوار إلا مع الصادقين".
أما "الاتحاد العام التونسي للشغل"، المنظمة الأكثر تأثيرا من الناحية الاجتماعية، فقد دعت على لسان رئيسها نور الدين الطبوبي إلى "ضرورة إجراء انتخابات مبكرة والإسراع في تعيين رئيس للحكومة"، مشددا على أن "البلاد تمر بمرحلة حرجة"، علما أن قادة هذه المنظمة النقابية، ما انفكوا يؤكدون على أنهم سيقترحون "خارطة طريق" لرئيس الجمهورية، فور تعيينه رئيس الحكومة الجديد، قصد المساهمة في الإصلاحات المنتظر إدخالها على البلاد.
لعل السؤال الكبير المطروح حاليا في تونس، يتعلق بمآل الأوضاع بعد انقضاء الأجل المحدد في الفصل الثمانين، أي مرور شهر على الإعلان الرسمي عن الإجراءات الاستثنائية المشار إليها أعلاه؟ هل سيلجأ رئيس الجمهورية إلى تمديد المهلة، استنادا إلى أن "الخطر الداهم" ما زال قائما، وأن ظروف زواله لم تنضج بعد؟ وفي حالة ما إذا كانت أحكام الفصل الثمانين تسمح له بذلك، اعتمادا على تقديره الشخصي كرئيس للجمهورية لاستمرار الخطر الداهم من عدمه، فهل يحق لرئيس الجمهورية الاستمرار في التمديد إلى ما لا نهاية، أم أن واجبه كساهر على حماية الدستور يُجبره على استعمال هذا الفصل بتوازن ودون شطط؟
رئيس الدولة، ظلت تصريحاته المتوالية، ولقاءاته مع النخب التونسية، والمبعوثين الدوليين (الوفد الأمريكي تحديدا)، عامة، غير منطوية على إجراءات عملية واضحة ودقيقة، توخى من خلالها إقناع مُخاطَبيه بأن لا "خوف على الديمقراطية في تونس"، وأن المسار مستمر، وتوقفه سيكون مؤقتا ولضرورات حماية الدولة والمجتمع والبلاد كافة
مع العلم أن توضيح طبيعة "الخطر الداهم"، ودرجة خطورته، والإسراع في اتخاذ الإجراءات الضرورية لزواله، لم تنل اهتماما كبيرا ومقنعا من قبل رئيس الجمهورية، بل ظلت المباغتة، والكلام العام، والتلويح بما ينوي شخصيا الإقدام عليه، والإكثار من التهديد بالضرب على أيدي الفاسدين هي اللغة السائدة في كلام رئيس الجمهورية. لذلك، لا يبدو مفيدا لتونس، ولأوضاع مجتمعها واقتصادها، وسمعة تجربتها في الانتقال إلى الديمقراطية الإستمرار في هذا الاتجاه، أي التمديد ثم التمديد.
يمكن لرئيس الدولة، وهذه حالة ثانية مفترضة، أن يقتنع بفكرة الحوار مع مكونات المجال السياسي والاجتماعي التونسي، ويبحث عن صيغة توافقية لإخراج تونس من هذه الأزمة، وليكُن، كما يقال "سلام الأبطال"، أي إيقاف النزيف الذي أضر بتونس، وعمّق سلبا أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، وأعاق ترسيخ مؤسساتها الديمقراطية، مع الحفاظ للفاعلين السياسيين بشروط البقاء والاستمرار، وتجنب منطق "الطاولة الجرداء" table rase، الذي يقضي على الأخضر واليابس، ويفتح أبواب البلاد على الفتنة، والحال أنه أفق مضر بتونس، دولة ومجتمعا.
هناك مشهد ثالث، يمكن اللجوء إليه لحلحلة الوضع في تونس، يتعلق بإجراء انتخابات سابقة لأوانها، يُصار بعدها إلى تشكيل حكومة، وإعادة المؤسسات الدستورية إلى وضعها الطبيعي، وقد يسبق ذلك أو يتزامن معه إجراء تعديلات على المنظومة الانتخابية والسياسية، وهذا بدوره يتطلب وقتا، وموارد مادية وبشرية مهمة، لا يظهر على وجه اليقين أن تونس قادرة على تحمل توفيرها.
وفي كل الأحوال، سيكون الغرض من اللجوء إلى هذا الحل إعادة تشكيل "مجلس نواب الشعب" بأعضاء جدد، وتوازنات سياسية جديدة، من شأنها أن تجنب البلاد ما أوصلت إليه انتخابات عام 2019، أي الأغلبية الموسومة بالفساد على حد تعبير رئيس الجمهورية، والتي أدت إلى إعلان الإجراءات الاستثنائية في 25 تموز/ يوليو 2021. ومع ذلك، يحتاج اللجوء إلى هذا الخيار الثالث إلى العديد من الإجراءات الدستورية، المتضمنة في أحكام متناثرة من دستور 2014.
ينطوي كل مشهد من المشاهد الثلاثة على إمكانيات وعوائق ونقائص، وتبقى السياسة هي الوسيلة الأنجع في إخراج تونس من أزمتها، أي السياسة المبنية على الحوار المسؤول والصادق، المفضي إلى حلول لا تلغي طرفا، أو تسمح بتغول طرف على آخر، ولكن توصل الأطراف إلى "نعم" أي التوافق المتقارب الأوزان، والمتوازن النتائج.