تمثل ممارسات الانقلاب في كل مجال من مجالات الحياة في
مصر قمة الاستخفاف بالمواطن؛ في إطار تمكينها للاستبداد والانفراد بكل ما يؤمن ذلك الاستبداد ويسوغه. وقد توسع الانقلاب في ذلك وصولا إلى حالة من الاستخفاف المركب، بل هي أعلى مراحل الاستخفاف، والذي طال موضوعات لم يكن أحد يتخيلها.
ومن ذلك الترويج للسجون، فأطلق على واحد منها "سجن المستقبل"، وبشّر بفيلم ترويجي وأغنية لمطرب مشهور كان يغني بأنه يريد العيش في كوكب آخر بسبب الظلم الذي ينتشر في أرجاء كوكبنا هذا، فإذا به يبشر في أغنيته المستجدة وكأنه قد وجد ذلك الكوكب الآخر في مجمع
سجون السيسي الذي يُعد فرصة للحياة. فهل هناك استخفاف أكبر من هذا؟! فتبشيره بالسجن وكأنه يروج لمشروع قومي ينهض بالبلاد ويحسّن أوضاع العباد، ويسهم في وضعها في مصاف الدول المتقدمة، خصوصا وأن الأغنية كان بعنوان "السجن فرصة حياة"، أي حياة تلك التي يمكن أن توفرها السجون.
وهل تغيير مسمى السجن وبعض المظاهر الشكلية، ومرور سجين أو نزيل بالمسمى الجديد" أمام الكاميرا يحمل كتابا، أو ظهور سجين آخر يرسم صورا للسيسي؛ يغير من أوضاع السجون الأخرى التي تحيط بالبلاد طولا وعرضا؟ هل معنى بناء هذا السجن المطور أن فلسفة السجن وتعاملات السلطة الغاشمة مع السجناء قد تغيرت؟ هل أصبح أهالي السجناء يستطيعون لقاء آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وبناتهم القابعين خلف الأسوار، والذين لا يلتقون بهم إلا لمدة 20 دقيقة ومن خلال زجاج عازل؟ هل عادت معسكرات الأمن المركزي إلى وظيفتها الأساسية بعدما تحولت إلى سجون منذ وقوع هذا الانقلاب في مصر تموز/ يوليو 2013؟! هناك العديد والعديد من تلك الممارسات المرصودة والتي تكشف حالة
حقوق الإنسان في مصر والانتهاكات المتكررة، سواء في السجون أو أقسام الشرطة وسجونها، وحالة التوحش في التعامل مع المسجونين؛ المشهور منهم والمجهول.
تلك
الانتهاكات التي أشرنا إليها لم تتوقف ولن تتوقف إلا برحيل هذا النظام، والتغيير الجذري في بنية هذا التفكير الأمني الفاشي الذي يجعل من السجن فرصة حياة؛ طالما سيحقق له التخويف والترويع للمواطنين وجعل المواطن يعيش في حال المتهم دائما، والمبشر بسجنه غالبا.
وقد رصد أحد الحقوقيين الشرفاء جانبا من هذه الصورة بحديثه عن مواطن مصري اعتقل ظلما، وتم سجنه في معسكر أمن والتحقيق معه، وتم عقد جلسات محاكمته والتجديد له حتى قضى نحبه في ذات المعسكر، كعملية ممنهجة في القتل البطيء التي يستخدمها أصحاب تلك المنظومة الأمنية الفاشية. فهذا المواطن لم ينل أيا من حقوق المحاكمة الطبيعية، ولا نقول العادلة. فلماذا يسجن ويتم التحقيق معه والتجديد له في مقر اعتقاله؟! مثل هذه الأسئلة لن تكون إجابتها بناء مركز تأهيل جديد يقدم فرصة حياة جديدة، لأن الممارسات ما تزال مستمرة كما هي، ولن تغيرها صناعة فيديو كليب عنوانه "السجن فرصة حياة"، فأوضاع حقوق الإنسان المزرية لا تخفى على أحد في العالم كله؛ الذي يعرف إجرام هذا النظام ومستوى الانتهاكات، ولن تنطلي عليه أساليب شركات العلاقات العامة التي يعتمد عليها نظام الثالث من تموز/ يوليو.
هناك حالات وأسر لا أحد يتخيل الأوضاع التي تعيش فيها جراء عقوبة السجن التي تطال في بعض الأحيان الأب والابن، ويمنعان حتى من السير في جنازة الزوجة والأم. هذه ليست حالة واحدة كتب عنها البعض مؤخرا على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها حالة متكررة ومنتشرة بكثرة تعبر عنها دعوات وحملات "خرجوا فلان يدفن والده/ والدته/ ابنه/ ابنته" والتي نراها بكثرة، وللأسف دون أي استجابة من ذلك النظام الذي في ما يبدو أنه يستمتع بمثل هذه الحملات ويراها دروسا بليغة للشعب، حتى يظل في حال الترويع والتفزيع وصناعة جمهورية الخوف.. تلك هي جمهوريتهم الجديدة التي ينشدونها ضمن حالة الاستخفاف المركب التي يحترفونها.
وبالإضافة للسجون وما يجري فيها - فلا يكتفي النظام بذلك - هناك آليات جديدة تكرس تحويل البلاد إلى سجن كبير من التدابير الاحترازية، وتحديد الإقامة، والتي يعيش في إطارها المواطن سجينا خارج السجن؛ فإما أنه لا يغادر منزله تماما أو يغادره لبعض الوقت، ولا يفتح فمه أبدا، الأمر الذي يجعله يعيش حالة سجن وإن كان في خارجه، إضافة إلى جريمة التدوير التي تستكمل مع الحبس الاحتياطي حلقات مفرغة من إفقاد الناس حريتهم وممارسة حياتهم الطبيعية، فلم يعد هناك إلا أن يحاولوا عد أنفاس المواطنين ومحاسبتهم عليها.
وعلى سبيل المثال، رصدت منظمة "نحن نسجل" وفاة أكثر من 13 معتقلا العام الماضي نتيجة الإهمال الطبي المتعمد داخل مجمع سجون طرة، الأمر الذي يؤكد أن مسألة "فرصة حياة" ليست إلا دعاية وإعلان، أما الواقع والحقيقة فهما أمر آخر، ومن ثم فإننا نقول كما كررنا ذلك مرارا أن تكلفة العدل أقل بكثير من تكلفة الظلم البيّن والذي يتفنن في تحويل الظلم إلى أبنية ومؤسسات وإلى حالة بنيانية في النظام، فالظلم مؤذن بخراب العمران، والبنيان، والكيان، والإنسان، حتى لو بدا لهؤلاء أن يجمّلوا القبيح ويشيدوا الأبنية الزائفة للدعاية والإعلان.
ما هذه السخرية من هذا الشعب إلى الحد أن يقوم هذا النظام بالتبشير بأن السجن هو فرصة حياة؟ أليس ذلك استخفافا وإهانة واستهانة بعقل الإنسان الفطري الذي تشكل الحرية والكرامة أصلا مرتبطا به وبكيانه؟ هل يريدون أن يقنعوا هذا الإنسان البسيط بأن السجن، مآلا واستقرارا له، هو فرصته في الحياة.
إن هذا لعمري ليؤكد كيف أن النظام المستبد الفاشي قد وصل لأعلى مراحل الاستبداد ومأسسة الظلم؛ حينما يجعل من مرفق العدالة مشاركا في تلك المهازل التي تتعلق بإزهاق حقوق الإنسان وانتهاكها كطقس يومي يحاول هذا النظام أن يجعله ماثلا أمام كل مواطن، تهديدا وترويعا وتخويفا، بل إنه يعده بالسجن باعتباره الجنان الموعودة. ما هذا الاستخفاف وتلك الاستهانة بالعقول الذي وصل إلى منتهاه، ليعبر بحق عن استخفاف بالحياة الإنسانية وكرامتها وحريتها؟!
وفي وصف لحال السجون أصاب كبد الحقيقة، أشارت صاحبته إلى أن "أحوال وأوضاع السجناء.. على لسان محاميهم وذويهم، أصبحت موجعة ومزرية ومهينة لكل مواطن في هذا البلد، وتصيبك بالرعب فعلاً على منظومة العدالة والقائمين عليها. إسراف في التجبر وتجاهل الحقوق التي كفلها القانون، ليبقى مصير هؤلاء المساجين رهناً لأمزجة وقرارات فردية لقوى غامضة لا أحد يعلمها! هي وحدها التي تتحكم في مصائر العباد! لا أحد يرد على سؤال، لا أحد يناقش، يسأل، يحاور! وقنوات على قنوات تبث المديح والتهليل والمباركة! سيرك كبير انطلق متوحشوه يفترسون خلق الله بالهرس والمضغ، يبصقونهم على قارعة الطرق الممتدة طولاً وعرضاً!!".
هذه هي أحوال السجون الحقيقية، مهما بدا الأمر من تصويره لأغراض إعلامية وإعلانية وأخرى تتعلق بمحاولات إقناع الخارج بأن في مصر مراعاة لحقوق الإنسان. ولعل هذا الأمر الذي ارتبط بالإعلان عن هوس بكل "أكبر" أنه أراد أن يعلن عن أكبر مجمع سجون، وأراد أيضا أن يروج لذلك؛ من أن تلك السجون إنما بنيت على الطريقة الأمريكية.
وقد أشارت تقارير حقوقية من منظمة "نحن نسجل" إلى حقائق دامغة حتى في تلك السجون الموجودة، من وجود مطاعم ومسارح ومكتبات، ولكنها مغلقة بالضبة والمفتاح، وأن كل اهتمام هذه المنظومة أن تجعل المسجونين - معظمهم زورا وبهتانا وتلفيقا - في حال خطير قد تدفع البعض إلى التفكير في الانتحار.
هكذا هو سجنهم مهما أرادوا بتلك الدعاية الممجوجة، والإعلانات المزورة التي تقوم على التمثيل الزائف في محاولة لتكملة الصورة الزائفة، والبائسة التي تتعلق بالتفكير الاستبدادي الفاشي، مع اعتقادهم بأنهم بحملة علاقات عامة وأغان مصورة سمجة مستخفة يستطيعون أن يصوروا الأوضاع على غير ما عليه من حقائق دامغة، ومشاهد يومية من انتهاكات واضحة فاضحة.
twitter.com/Saif_abdelfatah