قضايا وآراء

تعدد الزوجات في نظر المنصفين من المستشرقين

عصام تليمة
1300x600
1300x600

الدافع لهذا المقال هو ما نراه من تحامل شديد من مثقفين وغير مثقفين تجاه قضية التعدد، والذي أباحه الإسلام بشروطه وضوابطه، فهناك موقف مسبق يتسم بالحدة والرفض الشديد، ولو كان موقف الرفض سببه عقلانيا أو شرعيا لكان رأيا مقبولا، لكن الرفض سببه ما وصل إلينا من ثقافة غربية واستشراقية. 


وعند الحوار عن الموضوع مع بعض شبابنا وبعض المسلمين المتغربين، أرى منهم رفضا وانتقادا لاذعا للموضوع، وينتقل الانتقاد والتشكيك من الحديث عن الموضوع وتطبيقه عند المسلمين، إلى تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وهي شبهات استشراقية لم تكن تثار قبل مائة عام تقريبا. 

ولذا أحببت أن أسوق رأي أحد المنصفين من المستشرقين الغربيين أنفسهم، ممن لا يشك أحد في حياده وعلمه، إنه المفكر الفرنسي الكبير المعروف: جوستاف لوبون، والذي كتب عدة كتب مهمة، ومنها كتابه: حضارة العرب، والذي كان منهجيا ومنصفا فيه إلى حد كبير، وقد تناول فيه قضية تعدد الزوجات، وقضية المرأة بوجه عام، وموقف الإسلام والحضارة الإسلامية منها، وهو فصل كبير، لا يمكن نقله كله، بل ننقل في مقالنا هنا أهم النقاط، فالفصل يقع في حوالي عشرين صفحة، وقد ألفه سنة: 1884م.

يبين جوستاف لوبون الخطأ المنهجي الذي يقع فيه عدد من الباحثين الأوروبنين، حين يدرس قضية التعدد في الإسلام، فيقول: (لا يدرك المرء نظم أمة أجنبية إلا إذا تناسى، قليلاً، مبادئ البيئة التي يعيش فيها وفَرَضَ نفسه من أبناء تلك الأمة، ولا سيما إذا كانت تلك النظم من نوع مبدأ ‌تعدد ‌الزوجات الذي لمَّا تُعْلَمْ حقيقة أمره إلا قليلاً فأسيء الحكم فيه.

ولا نذكر نظاماً أنحَى الأوربيون عليه باللائمة كمبدأ ‌تعدد ‌الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاماً أخطأ الأوربيون في إدراكه كذلك المبدأ، وذلك أن أكثر مؤرخي أوربة اتِّزانًا يرون أن مبدأ ‌تعدد ‌الزوجات حجرُ الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشأت عن هذه المزاعم الغريبة، على العموم، أصوات سُخطٍ رحمةً بأولئك البائسات المكدَّسات في دوائر الحريم، واللائي يَرقُبُهن خِصْيَانٌ غِلاظ، ويُقتَلْن حينما يَكْرَههن سادتهن.

ذلك الوصف مخالفٌ للحق، وأرجو أن يَثْبُتَ عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل، بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوربية جانباً، أن مبدأ ‌تعدد ‌الزوجات الشرقي نظام طيبٌ يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراهما في أوربة). حضارة العرب ص: 397.

ثم يقارن لوبون بين التعدد في الإسلام وعند غيره من الحضارات سواء القديمة أو الأوروبية الحديثة، فيقول: (إن مبدأ ‌تعدد ‌الزوجات ليس خاصاً بالإسلام، فقد عَرَفَه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد، ولم ترَ الأمم التي اعتنقت الإسلام فيه غُنْماً جديداً إذن، ولا نعتقد، مع ذلك، وجود ديانة قوية تستطيع أن تُحَوِّل الطبائع فتبتدع، أو تمنع، مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جَو الشرقيين وعروقهم وطُرُق حياتهم.

وتأثير الجو والعِرق من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى إيضاح كبير، وبما أن تركيب المرأة الجثماني وأمومتها وأمراضها ... إلخ. مما يُكرهها على الابتعاد عن زوجها في الغالب، وبما أن التَأَيُّمَ المؤقت مما يتعذر في جو الشرق، ولا يلائم مزاج الشرقيين، كان مبدأ تعدد الزوجات ضربَةَ لازب.

وفي الغرب، حيث الجو والمزاج أقل هيمنةً، لم يكن مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة في غير القوانين، لا في الطبائع حيث يَنْدُر.

ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبةً من مبدأ تعدد الزوجات السِّري عند الأوروبيين، وأبُصِر العكس فأرى ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم ونظرِهم إلى هذا الاحتجاج شَزْراً.

ومن السهل أن ندرك علل إقرار الشرائع الشرقية لمبدأ تعدد الزوجات بعد أن نشأ عن العوامل الجسمانية المذكورة آنفاً، فحُبُّ الشرقيين الجمُّ لكثرة الأولاد، وميلهم الشديد إلى حياة الأسرة وخُلق الإنصاف الذي يردعهم عن ترك المرأة غير الشرعية بعد أن يَكرَهوها، خلافاً لما يقع في أوربة، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي أعود إليها عما قليل، كلها أمور تَحفِز الشرائع إلى تأييد العادات التي هي وليدة الطبائع، وإذا نظرنا إلى أن القوانين لا تلبث أن تطابق العادات كان لنا أن نقول: إن تعدد الزوجات غير الشرعي في أوربة لا يلبث أن تؤيده القوانين). حضارة العرب ص: 397 ـ 399.

 

لا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبةً من مبدأ تعدد الزوجات السِّري عند الأوروبيين، وأبُصِر العكس فأرى ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم ونظرِهم إلى هذا الاحتجاج شَزْراً.

 



وينقل جوستاف لوبون عن عالم آخر مما يؤيد رأيه في التعدد في الشرق الإسلامي، حيث ينقل عن: (مؤلف كتاب «عمَّال الشرق» العالم «مسيو لُوبلِه» بيانَ الضرورة التي تدفع أرباب الأسر الزراعية في الشرق إلى زيادة عدد نسائهم، وكونَ النساء في هذه الأسر هن اللائي يُحرِّضن أزواجهن على البناء بزوجاتٍ أخُرَ من غير أن يتوجعن، قال مسيو لُوبله:

يتزوج ربُّ الأسرة صغيراً على العموم، وتضعف زوجته الأولى بعد أن تكون ذات أولاد كثيرة على حين يبقى تامَّ القوة، فيُضطر إلى الزواج مرةً أخرى بتحريض الزوجة الأولى غالباً وبموافقتها تقريباً.. وقد يَعجب المرء أولَ وهلةٍ، من حمل امرأةٍ زوجَها على الزواج بامرأة أخرى، ولكن العجب يزول.

حينما نعلم أن النساء في الأسر الإسلامية «الزراعية» هنَّ اللائي يَقُمن بشؤون المنزل مهما كانت شاقةً، وذلك أن الفلاحين إذ كانوا يجهلون أمر اتخاذ الخوادم لم يبقَ للنساء غير الاستعانة بالإماء والقريبات اللائي يكنَّ في الزمرة نفسها، وقد لا يكون هنالك قريبات، وقد لا تسمح الأحوال باشتراء إماء، وقد تصبح الإماء عند اشترائهن جواريَ منافساتٍ للزوجة الأولى في الحظوة لدى رب الأسرة، فلا يكون لدى الزوجة الأولى ما يستلزم تفضيلَ الإماء هؤلاء على الزوجات الشرعيات الأخر، ومن ثم ترى أن الزوجة تشير في تلك الأحوال على زوجها بأن يَبنيَ بزوجة أخرى، ولا سيما إذا علمت أنها تصنع ذلك حينما تكون آخذةً في الهرم منهمكةً في واجبات الأمومة.

ومن العوامل المهمة التي ذكرها ذلك المؤلف في تعدد الزوجات عند الشرقيين هو «حُبُّهم للذرية الكثيرين، ولا عَجَبَ، فالعُقم عند الشرقيين من أعظم ما يصاب به إنسان، والشرقي إذا ما رُزق بضعة أولاد طمع في زيادة عددهم، وتزوج بنساءٍ أخُرَ وصولاً إلى هذا الغرض).
 
ولاحظ ذلك المحقق أن تعدد الزوجات عند الشرقيين لا يؤدي إلى تحاسدهن وتنافسهن، ويرى الأوربيون استحالة ذلك لما يُساوِرُهم من مبتسَراتٍ لا ريب، ورأيُ الأوربيين هذا ناشئ عن نظرنا إلى الأمور من خلال مشاعرنا، لا من خلال مشاعر الآخرين، ويكفي انقضاء بضعة أجيال لإطفاء مبتسَرَاتٍ أو إحداثِها، ويمكننا أن ندرك ضرورةَ تبديل رأينا في هذا الأمر عند الرجوع إلى أدوار المجتمعات الفطرية الأولى حين كان النساء شيئاً مُشاعاً بين رجال القبيلة الواحدة، أو إلى الأدوار التي هي أقرب من تلك حين كان النساء شيئاً مُشاعاً بين أفراد الأسرة الواحدة، أو إلى أيامنا التي نرى فيها وجود هذه الطبائع في بعض أجزاء الهند). حضارة العرب ص: 400 ـ 401.

ثم يرد لوبون على من يرفضون التعدد بدعوى أنه يتسبب في تعاسة المرأة المسلمة، فيقول: (والاعتراض الوحيد الظاهر الذي يوجَّه إلى مبدأ تعدد الزوجات هو أنه يجعل المرأة تَعِسَة، وقد أجمع على فساد هذا الزعم الذي طال أمَده جميعُ الأوربيين الذين درسوا أمره في الشرق عن كَثَب، فبعد أن ذكر مسيو إيبر، الذي بدا خصمًا لمبدأ تعدد الزوجات مع تردُّدٍ، أن المسلمات لا يتظلمن منه قال: «قد يظهر لأخواتهن الأوروبيات أنهن من الذليلات، ولكنهن لا يشعرن بأنهن أسيرات مطلقاً، وهن يقلن ـ في الغالب ـ لنسائنا اللاتي يَزُرْنَهُنَّ: إنهن لا يَقْبَلْنَ استبدال حالنا بحالهن). حضارة العرب ص: 412.

وختم لوبون فصله عن التعدد، بهذه الجملة المختصرة عن رأيه فيه، فقال: (وإنني أطمع أن يعتقد القارئ، بعد وقوفه على ما تقدم: أن مبدأ ‌تعدد ‌الزوجات أمرٌ طيب، وأن حبَّ الأسرة وحسنَ الأدب وجميلَ الطبائع أكثرُ نمواً في الأمم القائلة به مما في غيرها على العموم، وأن الإسلام حسَّنَ حال المرأة كثيراً، وأنه أولُ دينٍ رفع شأنها، وأن المرأة في الشرق أكثرُ احتراماً وثقافةً وسعادةً منها في أوربة على العموم تقريباً). حضارة العرب ص: 415.

هذه نظرة عالم اجتماع فرنسي أوروبي، درس الموضوع بتجرد، متخليا عن موروثاته الثقافية التي تفرضها عليه بيئته، فدرس الموضوع بحياد شديد، أضعها بين يدي أبناء جلدتنا ممن يتناولون قضايانا المجتمعية ذات العلاقة بشريعتنا، فيكونون مستشرقين أكثر من المستشرقين، ونراهم مندفعين في رفض كل ما لا يروق للثقافة الغربية، ولو حساب على الحقائق الشرعية أو الاجتماعية في بلادنا.

 

[email protected]


التعليقات (1)
مسلمة
الإثنين، 20-12-2021 04:03 ص
قال عمر بن الخطاب لزياد بن حدير: أتعرف ما يهدم الدين؟ قال: لا. قال عمر: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحُكْم الأئمة المضلين.