نناقش في هذه المقالة الموجزة ما يتعلق بدعوة الفكر الإسلامي المعاصر والعقل المسلم إلى تجديد انشغالاته ومراجعتها في ضوء المستجدات المعاصرة من ناحية، واحتياجات المجتمع الإسلامي من ناحية أخرى. إن الفكر الإسلامي في أصالته استجابة لعاملين هما: المرجعية الحضارية والحركة المجتمعية، والانفصال من أحدهما يُحدث خللا في غاية الفكر الإسلامي ووظيفته الحضارية في الأمة.
أصالة فكرة التجديد:
تبدو فكرة التجديد من الأفكار الأصيلة في النهج الإسلامي، وهذه الفكرة مستمدة من مبدأ المسؤولية الذاتية للمسلم في تنزيل قيم الإسلام في الواقع المعاش، وهذا يتطلب النظر الدائم والمستمر من المسلم في ما قدم وفي ما ينبغي أن يقدم. قال تعالى: "وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ" (الحشر:18).. هذه الآية تجمع وحدات الزمن الثلاث: الماضي (قَدَّمَتْ)، والحاضر (وَلْتَنْظُرْ) والمستقبل (لِغَدٍ)..وهذا الجمع لوحدة الزمن يوحي بعدة تأملات للمسلم منها:
أ- أن حياة المسلم ليست منفصلة الأجزاء، بل هي وحدة كلية يمثل فيها الماضي حصيلة الحاضر، وكلاهما (الماضي والحاضر) يمثلان المستقبل. ومن هنا كان طلب المولى عز وجل للمسلم بتأمل تاريخه وحاضره استعدادا لمستقبله. وهنا يرجح الإسلام المستقبل ويطالب المسلم بأن يصحح ما حدث في ماضيه، من أجل تعديل حاضره الذي هو رصيد المستقبل يأخذ منه ويضيف إليه.
ب- أن المسلمَ مطالب بتعديل سَيره بصورة دائمة وفقا لسنن التغير الجارية: "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (الرحمن: 29)، ووفقا للغاية التي يسعى إليها: "لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات: 56)، و"وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود: 61).
ج- سقوط الجبرية والقدرية وتأكيد مسؤولية الإنسان عن أفعاله وحالته الحضارية، ومسؤوليته عن حركة التاريخ؛ تاريخه هو الذاتي، وتاريخ مجتمعه وتاريخ أمته وعالمه، كما تعبر عن حريته في تعديل سير ذلك التاريخ أو الإبقاء على ما هو عليه؛ لأن الإنسان المطالب بالتأمل هنا (وَلْتَنْظُرْ) يمتلك حرية أصيلة وقديمة من الله؛ تميز بها عن باقي المخلوقات وأشرفها.
وفي هذا الصدد، نستدعي الحديثَ الحضاري الذي أوردَه صلّى الله عليه وآله وسلّم ليرسمَ طريقا ومنهجا لهذه الأمّة؛ في نظرتِها إلى وجودها ومصيرها ورسالتها ووظيفتها الاسْتخلافية والحضارية. هذا الحديثُ هو حديثُ البعث والإحياء للأمّة، ولمفردات وجودها؛ "إنّ الله يبعثُ لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنةٍ مَن يجدّد لها دينها"(1). إنّ البعثَ والتجديد من سنن الكون والخلْق، فما من شيء يظلّ على حاله، فالكونُ في حالة تغيّرٍ دائم، والتغيّرُ سنّةٌ ماضية في النفس والمجتمعِ والتاريخ. والصّعودُ والهبوط بسنن، والقيادةُ الحضارية والانزواء بسنَنٍ كونية لا تحابي أحدا، و"الوسطية" و"الشهود" بسننٍ أيضا لوِ الْتزمتْ بها الأمّةُ تحقّقت فيها، وإنْ غابت عنها لغابت أيضا هاتان الصّفتان.
إنّ فعلَ التّجديد يرتبط بطبيعةِ الإسلام ذاته، فالإسلامُ كما يصفه إقبال "حركةٌ ثقافية يرفض ما اصطلحَ عليه القدماءُ من اعتبار الكون مارّا ثابتا، فالكون متحرّكٌ متغيّر". ولهذا أقرّ الإسلامُ والنبوة الهادية منذُ البدء فعلَ "الاجتهاد"؛ فهو الوجهُ الآخر للتجديد، وهو استمراريةٌ لوظيفة الاستخلاف وتأديةِ الأمانة.
إنّ حركة الإسلام - كما في هذه الرّؤية النبوية - تتعلّق بكوْن الحياة متّصلة ودائمة، وكذلك الإسلام، فهو مرتبطٌ بوجود الحياة والتّغير فيها. إنّ مقصديةَ التجديد كما يراها أمين الخولي (1895-1966م) (2) تقومُ على جانبيْن كذلك؛ الأوّل: حماية المجتمع والحياة من الانحراف. والثاني: الانتباه إلى العوامل السيئة المُفْسدة لأمره. ويلحظُ هذا في الإسلام مِن ارتباطه بأصلٍ عام اجتماعي قويّ هو: وجوبُ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهو فعلٌ دائم يقوم به الواعون الحارسونَ لكيان الجماعة، من أنْ تشيع فيها ضلالةٌ مُفسدة، أو مهلكة ضارّة.. والتّجديد في رؤوس القرون - كما جاء في الحديث النبوي - هو العملُ الثّوري الكبير الذي تحتاجُه الأمّة إذا ما طال عليها العهدُ وقسَتِ القلوب. وفعلُ التجديد مرتبط - أيضا - بكبْريات الأحداث الضارّة، التي يتعرّض لها المجتمع بفعْل آفاتِ التطور الاجتماعي، والتغيير الحيوي.
ومِن وجوه تجديدِ
التفكير الديني، تنقيةُ الأصول الإسلامية مما يعلقُ بها من شوائبَ عبرَ الزمن بسبب بُعد زمنِ الوحي عن الإنسان، بما أدّى إلى فسادٍ في طرق التفكير، والنظر إلى تلك المصادر والأسس المعرفية في عقول مَن يتعامل مع الدين، فيستخرجُ ما ليس فيه، ويتجاوز ما هو أصله وقصده، ومن ثمّ يكون التّجديدُ بذلك ضرورة شرعية بإعادةِ الشيء - الدّين - إلى منابعِه الأولى الصافية، وباستقامة المنهج، وبيان عدالة الأسسِ الهادية إليه، وذلك يكون مِن خلال تنقيةِ سياق التفكير الدّيني، والعودة به إلى منبعِه الصّافي الأصيل، وإبعاد العناصرِ الخارجية التي امتزجتْ به نتيجةَ التغير النفسي والاجتماعي الذي قد يصيبُ أهله، أو يرتبط بسياقِ فكرنا العقدي والديني، أو تلك العناصر التي صنعتها النظمُ الاستبدادية حولَ الدّين لتضليل الناس عن حقيقته، أو ما يختلطُ بثقافة أهل الدّين من الثقافات الدّخيلة، والحداثة الزّائفة، والمصالح السياسية والأهواء، أيّ فحص كلّ فكر مصلحي زرع في أرضنا بغاية حرْفِ الدين عن وظيفته ورسالته، وبيانه للناس، وإبعاده عن التفكير الديني وطرائقه وقيمه.
من ضرورات التجديد - أيضا - تلك المعركةُ الحضارية التي ينبغي أن يخوضَها المسلم من أجل إبلاغ رسالتِه، وتأديةِ وظيفته الاستخلافية، والبلاغ أحدُ شهودها. إنّ المسلمَ لا يستطيع القيام بذلك الدور وهو في حالةِ انزواء حضاري، نظرا لافتقاده تكافئية تلك المعركة؛ لأنّه ركن إلى ما كان عليه أجدادُه وأسلافه من علوم ومعارف، وثبت عليها وجمد، رغمَ أنّ
القرآن لا يخلَقُ على كثرة الرد، ولكنّ المسلم توقّف حتى جمد، ومَن يجمد يموت بما يحملُ من مواريث، وهو معرّضٌ الآن أكثرَ من أيّ وقت مضى إلى التفتّت والتّلف، ليس بتقصيره في العبادات؛ ولكنْ لأنّ عقيدته التي يملكها فقدتْ فعاليتها الاجتماعية.
فلقد توقّف العقلُ المسلم وجمدَ على الموجودِ من المعارف والعلوم والمناهج التي أنتجها أسلافُه في إحدى مراحلِ حضارتنا المشيّدة، والتوقّف عندها ظنّا منه بكفايتها، ومن ثمّ فهو يركنُ إلى هذه العلوم والمعارف والمناهج التي توصَف بالتاريخية في التّفسير والتحليل لحاضرِه ومستقبله، على الرّغم من أن ذلك النتاج العقلي كان معبّرا عن مرحلة تاريخية قد ولّت: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ" (البقرة:134). لقد فقدنا الاتصالَ الحقيقي بالوحي، فافتقدنا الجذوةَ التي تشعل العقلَ المسلم في إبداعِ مناهج وعلوم جديدة يستطيع بها أن يتبوّأ مقعده الحضاري من جديد.
إنّ فعلَ التجديد ينبغي أن يشملَ الأسسَ المعرفية والقواعد المعنية في تعاملنا مع المصادر الرئيسية لأفكارنا ولحياتنا الثّقافية والاجتماعية، ولا ينبغي أن يتوقّفَ عند المظهرية والشكل، فهو فعلٌ تربوي بالأساس للأمّة لكي تُعيد وتَبعَثَ من جديد الطاقاتِ والهممَ والمناهج والوسائل نحو إبلاغ رسالتها، وتستعيدَ اكتشاف الإسلام بنظامِه القيمي والأخلاقي والمعرفي الذي يقوم على مبادئ الفطرة السوية، ويراعي التطورَ وفعلَ التّغيير الحيوي والسنني، وينفي الازدواجيةَ والانقسام اللذين أتتْ بهما حضارةُ العصر المادية التي افتقدتْ بُعد السماء.
تجديد انشغالات الفكر الإسلامي
كما أنه لا يمكن تجاوز العطاء
الإصلاحي للعقل المسلم خلال القرنين الماضيين، كذلك لا يمكن الوقوف عندها وعدم مراوحتها، سواء في المضامين أو الوسائل أو المنهج. إن حركة الحياة والإسلام متلازمتان وأي فصل بينهما يضر بكليهما. لذلك نطرح هنا بعض الرؤى لتجديد انشغالات العقل الإصلاحي المعاصر بما يؤكد سنة التغير من ناحية، وتطوير التفكير الإسلامي ناحية الذات والواقع من ناحية أخرى.
ونشير في ما يأتي إلى بعض هذه القضايا التي نرى ضرورة الانشغال بها في الوقت الحاضر.
نستكمل في الجزء الثاني بعض القضايا التجديدية في انشغالات العقل المسلم في القرن الواحد والعشرين بإذن الله.
__________
(1) صحيح أبي داود (4291).
(2) أمين الخولي: المجددون في الإسلام، القاهرة، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2000، ص 20.