الانطباع الذي كان سائدا لدى كل الأطراف، قبل يوم 31 كانون الثاني/ يناير 1919، أن القضية
المصرية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن المستعمر أحكم إغلاق كافة الأبواب والنوافذ، أمام مطالب المصريين في الحرية والاستقلال.
استشعر
سعد زغلول، بحسه السياسي الرفيع كسياسي محنك ورجل دولة، أن شيئا لا بد أن يحدث ليحرك الماء الراكد. لم يدعُ سعد لثورة أو لخروج الشعب للشوارع، بل قرر - فقط - أن يدعو عددا من رفاقه في العمل الوطني من عدة أحزاب سياسية، مثل حزب الأمة والحزب الوطني وكذلك عددا من نواب البرلمان، وعددا من النخب الفكرية والسياسية والاقتصادية، لحفل شاي في منزله القريب من مقر البرلمان، وحدد سعد موعد هذا اللقاء مساء 31 كانون الثاني/ يناير 1919.
وفي الوقت الذي استخف فيه البعض بالدعوة، وقلّل منها، أدرك الجنرال "واطسون"، قائد القوات البريطانية في مصر، خطورة اجتماع هذه العشرات القليلة من النخب المصرية في لقاء يجمع كلمتها ويلم شتات مواقفها، ولو كان هذا اللقاء مجرد حفل شاي في منزل لا يتسع بحكم مساحته إلا لعشرات قليلة بالكاد، ولو حضر أكثر من هذا العدد لما وجدوا محلا في بيت سعد الذي كان يعرف هذه الحقيقة قبل أن يوجه الدعوة‼
في الوقت الذي استخف فيه البعض بالدعوة، وقلّل منها، أدرك الجنرال "واطسون"، قائد القوات البريطانية في مصر، خطورة اجتماع هذه العشرات القليلة من النخب المصرية في لقاء يجمع كلمتها ويلم شتات مواقفها، ولو كان هذا اللقاء مجرد حفل شاي
وقبل موعد اللقاء بـ72 ساعة، نشرت جريدة "الإيجيبشان جازيت" رسالة من قيادة الجيوش البريطانية لسعد زغلول تطلب منه العدول عن هذه الدعوة وهذا الاجتماع، بدعوى أنه يقلق الأمن، ويخالف الأحكام العرفية المعلنة في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914.
وانقسم رأي الجماعة الوطنية إلى فريق يرى ضرورة عقد الاجتماع وعدم التراجع عنه، وفريق آخر يرى نقله إلى منزل حمد الباسل، أو أحد قادة حزب الأمة دون الإعلان عن المكان الجديد واسم صاحبه الذي لم يخاطب في إعلان قيادة الجيوش البريطانية برفض اجتماع منزل سعد.
إلا أن سعدا ونفرا قليلا حوله اجتهدوا للتعامل بذكاء مع رسالة قيادة الجيوش واعتبروها مكسبا سياسيا لو تم استثمارها بطريقة صحيحة؛ فقرر سعد أن يرد على الرسالة بخطاب وجهه لصحيفة "الإيجيبشان جازيت" يوم 29 كانون الثاني/ يناير، قال فيه: أرجو أن تنشروا ما يحمل قبولنا لإلغاء الدعوة.
وربما وجد البعض في قرار سعد فرصة للطعن في ثوريته ووطنيته، وقبوله بالخنوع لإرادة السلطة الاستعمارية ومواقفها
الاستبدادية، واعترافا بالأحكام العرفية.
سأل بعض العقلاء والمحنكين سؤالا هاما وهو: لو كان سعد زغلول أصر على عقد الاجتماع وانعقد بالفعل، هل كانت صحيفة واحدة ستهتم وتنشر سطرا واحدا عن هذا الاجتماع الذي عقد في أحد المنازل بالسيدة زينب؟!
إلا أن الحقيقة أن سعدا وجد في فكرة إلغاء الاجتماع مدخلا واسعا لتدويل وفضح ممارسات نظام
الاحتلال، وأحكامه العرفية الجائرة، فوجه عددا من الرسائل يحتج فيها على هذا الإجراء بوصفه اعتداء على حريته الشخصية ووجه هذه الرسائل الهامة إلى الرئيس الأمريكي "ويلسون"، وإلى رئيس وزراء فرنسا "كليمنصو"، بل أيضا إلى رئيس وزراء بريطانيا "لويد جورج".
اهتمت الصحف الأمريكية والفرنسية والبريطانية بنشر مضمون رسالة سعد زغلول لقادة بلادهم، وتعاطف الرأي العام مع الواقعة التي قد تبدو للبعض شخصية وفردية، وليست هي الأهم في ملف القضية المصرية.
وسأل بعض العقلاء والمحنكين سؤالا هاما وهو: لو كان سعد زغلول أصر على عقد الاجتماع وانعقد بالفعل، هل كانت صحيفة واحدة ستهتم وتنشر سطرا واحدا عن هذا الاجتماع الذي عقد في أحد المنازل بالسيدة زينب؟!
والإجابة بالطبع "لا" قولا واحدا.. لقد كانت مهارة سعد السياسية، وحنكته، وبُعد نظره، هي السلاح الذي جعل "السياسة" سبيلا لمواجهة أسلحة وبطش القوة العسكرية الغاشمة.
ذكاء سعد الفطري وخبرته الطويلة هما اللذان حملاه خطوة للخلف، يحقق بها قفزه كبيرة للأمام، بعد أن تحولت واقعة منع حفل شاي في منزله إلى قضية حقوقية وأخلاقية حرّكت غضبا داخليا، وتقزز منها الرأي العام الخارجي، فبدأت الصحف الاهتمام بممارسات الاحتلال في مصر والتعرض لأزمة 12 مليون مصري بلا حقوق؛ مقابل كل الحقوق لـ150 ألف أجنبي يتمتعون بكل الحقوق في مصر.
بدأت الثورة عندما استطاع سعد أن يجعل من أزمة إلغاء اجتماع 31 كانون الثاني/ يناير؛ فرصة ودليلا عمليا على صدقية شعاره التاريخي "الحق.. فوق القوة"
لقد كانت خطوة سعد بالقبول بإلغاء اجتماع 31 كانون الثاني/ يناير بداية حقيقية لخطوات واسعة تجاه التراكم الثوري الذي توالت أحداثه في الأسابيع التالية، وصولا إلى اندلاع أكبر وأول وأعظم ثورات العصر الحديث؛ ثورة 1919.
الثورة لم تبدأ بنفي سعد، ومحمد محمود، وحمد الباسل، وإسماعيل صدقي، يوم 8 آذار/ مارس 1919، لكنها بدأت عندما استطاع سعد أن ينقل الصراع مع 60 ألف جندي بريطاني على أرض مصر، إلى مواجهة بين "ذكاء السياسة و"غباء العسكر".
لقد بدأت الثورة عندما استطاع سعد أن يجعل من أزمة إلغاء اجتماع 31 كانون الثاني/ يناير؛ فرصة ودليلا عمليا على صدقية شعاره التاريخي "الحق.. فوق القوة".
في الذكرى الـ103 لاجتماع 31 كانون الثاني/ يناير، أؤكد أن معظم الانتصارات الكبيرة ربما تبدأ بالنجاح في إدارة "ذكية" لمعارك قد يراها البعض صغيرة‼
وبهذه المناسبة أقدم تحية - خاصة - للصديق العزيز
رامي شعث، الذي يثبت كل يوم هذه الحقيقة.