هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وصف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الشيخ محمد بن عبد الوهاب بــ"الداعية"، فهو "ليس رسولا.. وهو ليس السعودية، فالمملكة لديها المذهب السني والشيعي، وفي المذهب السني توجد أربعة مذاهب، ولدى الشيعة مذاهب مختلفة كذلك، ويتم تمثيلها في عدد من الهيئات الشرعية".
وأضاف في مقابلة مع مجلة أتلانتيك الأمريكية الخميس، 3 آذار (مارس) الجاري: "لا يمكن لشخص الترويج لإحدى هذه المذاهب ليجعلها الطريقة الوحيدة لرؤية الدين في المملكة، وربما حدث ذلك أحيانا سابقا، خصوصا في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، ومن ثم في أوائل القرن الحادي والعشرين، لكن اليوم نحن نضعها على المسار الصحيح".
تأتي تصريحات ولي العهد السعودي في سياق تحولات دينية واسعة تشهدها المملكة، تصب في اتجاه إعادة تشكيل الحالة الدينية برمتها، ومن أبرز ملامحها إعادة تشكيل دور المؤسسة الدينية، الحافظة والحارسة لتعاليم الدعوة الوهابية، بتجريدها من صلاحيتها الواسعة، كشريك يتولى إدارة الشؤون الدينية، اكتسبته بعد التحالف التاريخي الذي تأسست عليه المملكة بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الوهابية من الشراكة إلى الوظيفية
واستنادا إلى ذلك التحالف القائم بين "المعرفة والسلطة، أو القلم والسيف، فقد تم إسناد تدبير الشأن الديني إلى آل الشيخ، وإسناد الشأن السياسي إلى آل سعود، وهو الثابت والمعروف تاريخيا، وهو ما أطلق يد السلطة الدينية في رعايتها وتدبيرها للشأن الديني، طيلة العقود السابقة" وفق الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، حسن أبو هنية.
واستدرك أبو هنية في حديثه لـ"عربي21": "لكن ومع إنشاء هيئة كبار العلماء في المملكة، بدأ دور المؤسسة الدينية يتراجع بشكل ملحوظ، لصالح سيطرة أوسع وأكبر للسلطة السياسية، إلا أن اللافت ما جرى في عهد ولي العهد، محمد بن سلمان من وقوع الانفصام بين السلطة السياسية، والسلطة الدينية، بتجريدها من صلاحيتها وإعادة تشكيل دورها".
وأوضح أن "الأمير محمد بن سلمان بإجراءاته المتتابعة يهدف إلى تحجيم دور المؤسسة الدينية، ورسم دورها تماما كدور المؤسسات الدينية الأخرى في الدولة القومية العربية، بتحديد دورها الوظيفي، والذي من أبرز مهامه إضفاء الشرعية الدينية على النظام السياسي، وتنفيذ سياساته ومباركتها".
ولاحظ أبو هنية أن "التوجهات الجديدة في حقبة ولي العهد، التي يُراد لها أن تقدم السعودية بأنها الأكثر انفتاحا وتسامحا، ضاقت ذرعا بالاتجاهات الإسلامية الأخرى، في حين أن السعودية الرسمية في العقود السابقة كانت أشد تسامحا وتقبلا لها، وهي التي احتضنت قيادات إخوانية مصرية وغيرها، وسمحت لها بتولي مناصب تربوية وأكاديمية وإدارية مرموقة، وتغاضت عن نشاطات جماعة الدعوة والتبليغ، على عكس التوجهات الجديدة، التي أضحت أكثر تشددا وانغلاقا تجاهها".
وعن تأثير الدعوة الوهابية على الحالة الدينية داخل السعودية وخارجها، لفت أبو هنية إلى أنها "ساهمت بشكل ملحوظ في نشر الدين وتعاليمه، وكانت لها مشاركات جيدة في قضايا المسلمين، لكن مشكلتها الكبرى كانت في انغلاقها على نسقها الديني، وعدم تبنيها للتعددية الدينية وتقبل الآخر (الإسلامي)، ونزعتها الشديدة في احتكار الحق بوصفها الوريثة لمنهج السلف الصالح".
تراجع حضور الوهابية
من جهته لفت الباحث والأكاديمي المغربي، الدكتور عبد الله الجباري إلى أن "الدعوة الوهابية حينما تحالفت مع آل سعود، تبنت مفاهيم دينية شاذة، بحيث اعتبرت الدعوة من خرج عن بيعة آل سعود أو من لم يبايعهم كفارا، لذلك أضفت الشرعية الدينية على التنكيل بهم، وكان من ضحاياها علماء وشرفاء ومفتون".
وأضاف في حواره مع "عربي21": "بعد مرور الزمن، تقوى تحالف العائلتين، آل سعود وآل الشيخ، ووقعت بينهما مصاهرات، وكان بينهما تبادل أدوار، لآل سعود الدولة، ولآل الشيخ الدعوة، واليوم تتبرأ الدولة من الدعوة، وترجع تاريخ التأسيس إلى ما قبل محمد بن عبد الوهاب لتسحب منه شرف التأسيس، ولكن للحق وللتاريخ، فإن محمد بن عبد الوهاب لم يصبح اليوم عبئا على الدولة، بل صار كذلك في حياته" على حد قوله.
عبد الله الجباري.. باحث وأكاديمي مغربي
وتابع: "الذين يكتبون سيرته يتحدثون عن انعزاله في بيته أواخر حياته، والأمر ليس كذلك، بل إن آل سعود ضاقوا ذرعا به، وأمروه أن يلزم بيته، وهذا ما لا يُكتب ولا يُنشر، وهو من الرواية الشفهية المتداولة بين كبار عائلة آل الشيخ، يتداولونه بغصة فيما بينهم، وقد كشف هذا السر أحد الشيوخ من أحفاده لصديقه الدكتور محمد المسعري اللاجىء حاليا في لندن".
وبناء على ما سبق ذكره، رأى الجباري أن "ما يعلنه ولي العهد، محمد بن سلمان اليوم ليس سوى إعلان ما كان خفيا، ولا جديد فيه، أما ما يتحدث عنه الناس من انفتاح المملكة وما إلى ذلك.. فكل هذا لا جديد فيه إلا إعلان المستور ليس إلا.. أما هذا الفصل بين الدولة والدعوة المعلن عنه، فسيكون له أثر على المستوى العالمي، بل إن أثره بدأ يظهر الآن".
وأردف "فالمراكز الإسلامية في أوروبا لم يعد لها الدعم المادي الذي كانت تحظى به، والدعوة الوهابية التي كانت مدعومة في العالم العربي بدأت بالانحسار، وصار كثير من أتباعها في حيرة، أيتبعون الدعوة الوهابية وأدبياتها المعروفة، أم يتبعون الدولة؟ لا سيما وأن الدعوة غرست في عقولهم الطاعة المطلقة لولي الأمر".
وعن قراءته للمشهد الديني المقبل في السعودية أشار الجباري إلى أن "أرباب التيار الوهابي يقودون الآن مراجعات، وربما تراجعات، وحالته من ضعف إلى ضعف، أما الشيعة فمستمرون على نهجهم، ويتقوون، وإذا وقع تقارب إيراني ـ سعودي فإن القبضة الحديدية التي أطلقها عليهم الأمير نايف قد تخف، وهو ما قد يترتب عنه تقويته، كما أن الصوفية والشرفاء خاصة في الحجاز، سيستفيدون من التراجع الوهابي، وسيتقوون أكثر، وقد مرت بهم من قبل تضييقات غاية في القسوة والشدة، مثل محنة الشيخ محمد علوي مالكي، رحمه الله".
الوهابية في عيون خصومها
ويشار في هذا الإطار إلى أن الدعوة الوهابية قدمت نفسها بوصفها الوريثة لمنهج السلف الصالح اعتقادا وفقها وسلوكا، وهو ما انتقده عليها، وهاجمها بسببه علماء كبار منذ ظهورها وإلى يومنا هذا، وفق باحثين.
ويرى خصوم لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن دعوته أحدثت شرخا كبيرا في صفوف المسلمين وكانت سببا في تفريقهم وتشتت جهودهم، وقد اختطت في العقائد منهجا، وتبنت مقولات عقائدية مخالفة ومغايرة لما عليه جماهير علماء الأمة من الأشاعرة والماتريدية وفضلاء الحنابلة.
كما ظهر في صفوفها من دعا إلى فقه الدليل، خلافا لخط الوهابية الحنبلية المتقيدة بالمذهب الحنبلي، ما نتج عنه ضرب مرجعية المذاهب الفقهية الأربعة، والدعوة إلى تجاوزها، وهو ما أحدث فوضى فقهية، وجرأ عامة طلاب العلم على الأئمة الكبار، والعلماء الأعلام، حسب منتقدي الدعوة الوهابية.
ويصف منتقدو الدعوة الوهابية طبيعة علاقتها بالاتجاهات الإسلامية الأخرى، وتأثيرها على الحالة الدينية برمتها في العقود السابقة، بأن السلفية عموما، ومنها بطبيعة الحال الوهابية بما تنزع إليه من احتكارها للحق، وتعاليها على الآخرين، وادّعائها بتمثيل منهج السلف الصالح، وضيقها بالمخالف لها (حتى في الدائرة الإسلامية) تفرقت إلى تيارات واتجاهات مختلفة ومتناحرة.
وهو ما أفضى، حسب منتقدي الوهابية إلى أن السلفيين باتجاهاتهم المختلفة، العلمية والجهادية والحركية باتوا يضللون بعضهم بعضهم، وانتشر بينهم التبديع، بحجة أن كل تيار منهم يدعي تمثيله لمنهج السلف الصالح، ولم يعد السلفيون يضللون ويبدعون المخالفين لهم من شيوخ وأتباع الاتجاهات الإسلامية الأخرى فقط.
(الوهابية) سلفية إحيائية وآل سعود حماتها
بدوره وبرؤية مغايرة، أكدّ أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، الدكتور محمد السعيدي أن "الدولة السعودية لم تقل يوما من الدهر إنها وهابية، بل كان أئمة آل سعود ومعظم العلماء كانوا ينكرون هذا التوصيف، وإنما كانوا ينسبون أنفسهم إلى الكتاب والسنة والإسلام والعقيدة الصحيحة، وهذا ما فعله ولي العهد في مقابلته".
محمد السعيدي.. أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في جامعة أم القرى بمكة المكرمة
وأضاف "فالحديث عن ارتكاز الدولة على العقيدة امتلأ به حديث ولي العهد، فكلمة (معتقد) وردت في حديثه 13 مرة، ومن أبرزها قوله (إن دولتنا قائمة على الإسلام، وعلى الثقافة القبلية، وثقافة المنطقة، وثقافة البلدة، والثقافة العربية، والثقافة السعودية، وعلى معتقداتها، وهذه هي روحنا، وإذا تخلصنا منها، فإن هذا الأمر يعني أن البلد سينهار".
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول "فسموه يؤكد قيام الدولة على الإسلام؛ بينما رأينا أن معظم الدول الإسلامية تكتفي بأن الشريعة أحد مصادر التشريع، أو مصدر من مصادر التشريع، أو دين الدولة هو الإسلام.. أما التصريح وفي صحيفة أمريكية بأن الدولة قائمة على الإسلام فلا تقوله حتى حكومات الأحزاب الإسلامية، ثم يقول: إن المعتقدات هي روحنا، ثم يقرن بقاء الدولة ببقاء العقيدة في عبارة شجاعة وخطيرة وهي أن التخلص من العقيدة يعني انهيار البلد".
وذكر الأكاديمي الشرعي، السعيدي أنه "مطئمن لحال السلفية في المملكة العربية السعودية" لافتا الانتباه إلى وجود "متغيرات محلية ودولية ستؤثر حتما على الدعوة السلفية، لكن البناء الداخلي لمنهج السلف كفيل بإذن الله تعالى ببقائه".
وعن تقييمه لمسيرة الدعوة الوهابية، وما يُثار حولها ويُقال في حقها، نبه على أن اسمها هو "الدعوة السلفية وليست الوهابية، والأخير لقب مغرض أطلقه عليها خصومها، فهي دعوة سلفية أسسها في نجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولولا آل سعود لكان مصيرها كمصير سائر الدعوات الإصلاحية التي لم تنصرها قوة سياسية، ألا وهو الاندثار".
وتابع "فإن كان الإمام محمد هو المجدد للدعوة الإحيائية السلفية، فآل سعود ودولهم الثلاث هم الذين لهم الفضل في نشرها في الجزيرة العربية والعالم أجمع، وقد نجحت في كل شيء، وأصابت في كل شيء، وليست لها أية أخطاء، وقد يعد هذا الكلام غلوا مني، لكن هذه الحقيقة، وهي الصواب الذي لا مجال للرأي فيه".
وأنهى حديثه بالإشارة إلى أن "الدولة أعلنت منذ قيامها الأول: أن منهجها الكتاب والسنة، ولا زالت حتى اليوم الدولة الوحيدة التي تعلن ذلك في نظامها الأساسي، واستطاعت أن تنشر مذهب السلف وهو الإسلام الصحيح في كل دول العالم بشكل لم يحدث مطلقا من بعد القرن الرابع الهجري.. نعم لم تتحقق أحلام القائمين على الدعوة كما يتمنون، لكن ذلك لا يعد فشلا ولا خطأ، فليس النجاح أن تصل إلى كل ما تريد، بل أن تعمل كل ما تستطيع عمله، وهذا ما تم فقد عملت الدعوة كل ما تستطيع عمله"، وفق قوله.