هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ضمن خواتيم هذه السلسلة، كنا قد شرعنا في بدايتها نتحدث عن مفهوم "المواطنة الصالحة"، نتعرف على المفهوم الذي يطلبه المستبد، فيضفي على مواطنه صك الصلاح في سياق تزييف لجوهر ذلك المفهوم في معانيه ومغازيه، المستبد يقلب مفهوم الصلاح كما اغتصب من قبل مفهوم الرشاد، فكان خطاب فرعون {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}" [غافر:29] فكان رد القرآن بالغا وحاسما {َمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97].
فكما تدور المعركة على الرشد والرشادة تستمر هذه المعركة حول معنى الصلاح والإصلاح، ولعل ما أكدناه منذ البداية أن المستبد يقوم بتغيير المفاهيم في ذاتها ضمن منظومة ظلمه، فيظلم الكلمات، ويغتصبها اغتصابًا، ويملؤها بما أراد واصفًا ما أراد بما أراد.
ولعل هذه الأمور من علامات الاستبداد والظلم المبين كما أكد على ذلك البشير الإبراهيمي في الاستبداد بالكلمات "إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين".
في هذا المقام ومن خلال تلك المشاهد المختلفة التي استعرضناها ضمن هذه السلسلة لم تكن في واقع الأمر إلا تعبيرا عن فعل المستبد في الداخل أو في الخارج بمضمون الكلمات ويحركها نحو مصلحته ويجيرها لنظام طغيانه، وهو في ذلك الأمر يجعل من المواطن الصالح في عرفه يفقد معنى إنسانيته ووجوده وحضوره ومسؤوليته، المواطن لدى المستبد لا يسمع إلا ما أراد المستبد أن يسمعه، ولا يرى فهو أعمى عن سلبيات النظام، مبصرًا لإنجازاته وبركاته التي تفيض عليه حتى لو كان هذا الأمر زائفًا، وهو لا يتكلم فيصمت صمت القبور إذا طلب منه نظام الاستبداد ذلك، فسلطان المستبد كما يوزع الكلام، يوزع السكوت، وهو الذي يحدد متى يمكن أن تتحدث فتنافق وتداهن، ومتى تمتنع عن الكلام فتسكت بأمر المستبد، فالمستبد لا يقبل نقدًا أو تعقيبا على حكمه.
المواطن في عرف المستبد لا يرى؛ إلا ما أراه الطاغية {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ} وينتزع مغتصبا ثوب الرشاد {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، عليه أن يرى فقط أن المستبد في كل أفعاله لا يخطئ حتى إن فعل ما يضر بحياته أو يودي بكيانه، فكل ما يتعلق بكيانه وبدنه مستباح يفعل أهل الاستبداد وزبانيته فيه ما شاءوا حتى القتل والسجن والاعتقال والمطاردة والنفي والإبعاد
وهنا الأمر يتعلق بتعطيل كل ملكات المواطنة، وإعمال حقوقها وحقيقة جوهرها في إطار "المواطن الإنسان"، فهو إنسان قبل أن يكون مواطنا {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا}[الإسراء: 36] إن مسؤولية الإنسان عن تلك الأفعال والحواس مسؤولية تتعلق بكرامته وإنسانيته، واستخدامه هذه الحواس فيما يجب وما يؤكد على مدافعة كل باطل، وإبداء كل حق، إن كان هذا في سمعه أو بصره أو بلسانه، هذه الحكمة البالغة في الإنسان والمواطنة هي التي دفعت الشاعر "أحمد مطر" ليؤكد في بيت له "في بلادنا مواطن أو سلطان... ليس لدينا إنسان"؛ إن جوهر ومفهوم المواطنة في حقيقة الأمر يكمن في إنسانية الإنسان وكرامته، وتأتي المواطنة لتكمل دوائر المسار والاختيار ـ وليس مسلسل الاختيار ـ بالنسبة للإنسان إن كان في السياسة أو الاقتصاد أو في الاجتماع أو في الثقافة أو في أي مقام.
في هذا السياق فإن المواطن المطلوب هو الذي لا يسمع؛ ولكنه لا يتعلق بسماع المستبد "ما تسمعوش لحد غيري" مسوغات ذلك كثيرة فهو طبيب الفلاسفة الذي يجب على الجميع أن يستمعوا إليه "ربنا خلقني طبيب أوصف الحالة، ابقى عارف الحقيقة وأشوفها، ودي نعمة من ربنا أعطاها لي اسمعوها مني، ربنا خلقني كده، كل الدنيا بيقولوا اسمعوه.. مين الدنيا؛ خبراء المخابرات والسياسيين والإعلاميين وكبار الفلاسفة لو حبيتوا"؛ مرة أخرى سيأتي المستبد ليؤكد {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ} عليك أن تستمع إلى كل كلمات الخنوع والخضوع والمداهنة والاحتيال، إنك في هذه الحالة مواطن صالح يحفه الانشغال لكل تافه أو يدع نفسه فريسة (للاشتغالات) يشتغل بها وينشغل فيها حتى ينسى نفسه ويغفل عن كل ما يلاقيه من أهوال وضغوطات وكوارث، أما ما يريده ألا يسمعه هو كل معاني الحرية، وكل مباني العزة والكرامة، هذه من الممنوعات التي وجب عليه ألا يتعاطاها حتى بالسماع، فإن استمع إلى بعض هؤلاء الذين يحرضون على التغيير والتزام القيم فعليه إن كان في مجلس كهذا أن يبلِغ أهل الأمن وأهل الدولة عنه، بما يكيد كيدا ويحرض تحريضا.
المواطن في عرف المستبد لا يرى؛ إلا ما أراه الطاغية {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ} وينتزع مغتصبا ثوب الرشاد {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، عليه أن يرى فقط أن المستبد في كل أفعاله لا يخطئ حتى إن فعل ما يضر بحياته أو يودي بكيانه، فكل ما يتعلق بكيانه وبدنه مستباح يفعل أهل الاستبداد وزبانيته فيه ما شاءوا حتى القتل والسجن والاعتقال والمطاردة والنفي والإبعاد، كل ذلك يجب أن تراه أنه من حق المستبد؛ الذي جسدته حالة "أيمن هدهود" الذي تعرض لما تعرض له ونتج عنه "كسور في جمجمته وحروق في وجهه، ورضوض في عظامه نتيجة التعذيب الممنهج" حتى أن هناك من اعتبر أن ما حدث مع أيمن دراما واقعية سوداء بائسة تمحو دراما التسويق والتقديس والسلطة التي يقدمها مسلسل الاختيار.
وتأتينا سردية الاستبداد على لسان النيابة العامة والتي تمثل وتحمي عموم الناس من الشعب؛ التي لم تختلف عن التقارير الأمنية الزائفة والملفقة وفي نهاية البيان "تهيب النيابة العامة بالكافة إلى الحذر الشديد، وعدم الانسياق وراء الشائعات والأخبار الكاذبة التي يدسها البعض لأغراض وأهداف محددة، يحيطونها بهالة من الجدل ودغدغة العواطف ليتأثر الغير بها، سعيا منهم لخلق حالة من النفور والإثارة وتكدير الأمن والسلم العامين بما يخالف الواقع والحقيقة، كما تؤكد النيابة العامة أن البيانات التي تصدرها أو المعلومات التي تفصح عنها هدفها الأسمى كشف الحقائق وطمأنة ضمير الأمة لحتمية رفع المظالم متى وجدت وأنها لتحقيق ذلك لا بد من بلوغ عقيدتها درجة اليقين بالبرهان والدليل فاحذروا في الاعتقاد في غير ذلك أو الانسياق وراء أقوال أهل الشر المغرضة، وأصحاب النوايا الخفية.." واختتم البيان بـ "حفظ الله الوطن" وذلك بعد أن سوغ البيان لـ "موت المواطن".
المواطن في عرف الاختيار وجب عليه أن يرى ويشاهد، ويستمع إلى كل ما يقال له في مشاهد ومواقف حتى لو كان زائفا مزورا، ولا يتكلم من بعد ناقدا أو ناقضا لأن مصيره قاع السجن الذي ليس له من قرار
المواطن في عرف المستبد لا يتكلم؛ إلا بما أراده المستبد، وإعلامه الذي يزيف الحقائق إذا تحدثت أو كتبت ما يخالف شأن المستبد فأنت إلى غياهب السجن مدفوع؛ وليس فقط الكلام عليك ممنوع ولكن مجمل الأمر عن الحياة مقطوع، مسجونا في زنزانة انفرادية، أو في حشد من البشر لا يتحمله مكان، ولا يتصوره إنسان، فعليك ألا تتكلم عن غلاء الأسعار، ولا فساد الحاكمين، ولا تدعو على الظالمين، وضمن ذلك يخرج علينا وزير الأوقاف فيقيد صلاة القيام، ويمنع الاعتكاف في المساجد في شهر رمضان، وإلا، ما هذا الذي يتدخل فيه هؤلاء حتى في شأن يتعلق بالعبادة، هكذا تبدو لنا الأمور في حالة غير مسبوقة بتكميم الأفواه عن كل حق، وإذاعة الباطل من كل بوق.
وهنا يبدو أن سردية الاختيار قد جمعت تلك المواصفات في مسلسل المخابرات فحتى الذي سجلوه ليكون سرًا أشاعوه في مسلسلهم الدرامي تحت دعوى المصداقية لا يهمهم في ذلك تخريب مجتمع أو تمزيق بقية من جماعة وطنية، المواطن في عرف الاختيار وجب عليه أن يرى ويشاهد، ويستمع إلى كل ما يقال له في مشاهد ومواقف حتى لو كان زائفا مزورا، ولا يتكلم من بعد ناقدا أو ناقضا لأن مصيره قاع السجن الذي ليس له من قرار، مثله مثل المحامي الذي علق على واحدة من حلقات هذا المسلسل عبر مواقع التواصل الاجتماعي فكان مصيره الإحالة إلى النيابة التي قضت بسجنه، المستبد إذا يريد ذلك المواطن الذي يسمع فقط ما يسمعه، ويرى فقط ما يريه إياه، ويتكلم فقط بما أراده، ولا خروج على نص المستبد وهواه، إنسان المستبد أن يكون صمًا بكمًا عميًا لا يعقل، إنها "عقلية القطيع" التي يريد.