من أهم الدروس التي تعلمتها من العمل والاهتمام بالحقل
المفاهيمي، ومن تلك المقالات المئة أو تزيد والتي تتبعنا فيها مفهوم المواطنة ضمن محاولات الـتأصيل وارتباطها بالواقع ومقامات التنزيل والتطبيق؛ هي القدرة على الكشف عن عمليات التلبيس المفاهيمي ومسالكها؛ وأدواتها وأهدافها؛ وأغراضها ونتائجها وتأثيراتها.
فرغم ما تشكله المفاهيم كقاعدة أساسية في التواصل والحوار الإنساني، بيد أن طابعها الذاتي يجعل منها حمالة لوجوه من المعاني والمضامين تبعاً لقصد المتحدث وفهم المتلقي. وذلك يستدعي توافر قدر كافٍ من الثبات والاستقرار لمعانيها ومضامينها، حيث أن انعدام المعاني المشتركة في المفاهيم يفضي إلى انعدام التواصل الواعي والمنتج والفاعل بين الناس في تواصلهم وعلاقاتهم ومقتضيات تعارفهم. وهذا الاستقرار الدلالي للمفاهيم والمانع من مداخل الانحراف الدلالي في الفهم والإدراك في عالم المعاني؛ يستوجب وجود رؤية تأسيسية كلية تصوغ دلالتها العامة وتمنحها صفة الاطراد، وتحمل قدراً مشتركاً ومستقراً من المعاني والدلالات في أذهان الناس.
فالمفهوم كسائر مدركات العقل الإنساني ينتابه الوهم والاضطراب، والتحريف والاغتصاب؛ وقد يضل ويتيه في إدراك ماهيات الخير والشر والحق والباطل والخطأ والصواب، ولذلك فإن للمرجعية والوعي بارتباط عالم الأفكار والمفاهيم بالمرجعية، مستندا في كثير من قواعده الكلية وضوابطه وأصوله العامة.
ومن المعلوم أن السعي في تحديد المفاهيم وضبطها يشكل جدلاً التصورات المختلفة، والمستندة إلى الخلفيات الدينية والمذهبية والأيديولوجية المتنوعة، والمتأثرة بالمصالح والأهواء الذاتية، والمرتبطة بوسائل أصحابها وغاياتهم. لكن تلك الإشكالات لا يمكن لها أن تحول دون اعتماد منهجيات قويمة يتم بها ترجيح المفاهيم وكشف مداخل الزيف فيها ومسالك التلبيس والتزوير عليها، وهو أمر يفرض السعي البصير إلى مقاربته في ظل التحديات التي تتعرض لها الأمة لقضية بناء المفاهيم في واقعنا المعاصر، إيمانا بما تمثله المفاهيم من أهمية كبرى في تكوين الوعي الجمعي وتشكيل العقول كمقدمات للتأصيل ومداخل الالتزام في التفكير، وتوجيه مسيرة العمل نحو الترشيد والتسديد.
المفاهيم تعد من أعظم مكونات البنية الفكرية، والحاكمة لمنظومته المعرفية والتطبيقية، بما تقوم به من دور محوري وحيوي في البناء العقدي والمعرفي والفكري، وبما تستبطن من ذاكرة حضارية تاريخية وثقافية، توجب العناية وبذل كل رعاية بلوغا للغاية استقامة وسدادا، كون ذلك يمثل مطلباً تستلزمه صحة الإدراك والوعي البصير والمعتقد والتصور السليم، وتقوم عليه مترتبات السلوك والحركة والممارسة، ومن ثم وضع الركائز التي تحتكم إليها تلك المفاهيم وصوغها في الإطار الأشمل.
وعلى هذا فإن بناء المفاهيم يمثل اليوم أهمية كبيرة تنبثق من الأولوية التي منحها الواقع الفكري المعاصر للعقل، وجعله مرتكزاً في مسيرته نحو التغيير والإصلاح والنهضة، فتسابقت إليه الجهود حواراً ونقداً وتجديداً للخطاب. وقد حظيت المفاهيم بنصيب وافر من تلك الجهود، التي أدركت ما تمثله المفاهيم باعتبارها موجهات للفكر ومنطلقات للحراك، تشكل أطراً حاكمة لتوجهات المرء ومواقفه، فيتحرك مدفوعاً بتوجيه من مفاهيمه، وتتحدد في ضوئها طبيعة ممارساته.
ومسألة العبث بالمفاهيم قضية قديمة قدم الإنسانية، ترتبط بالوصاية التي قام بها الضالون المضلون عبر تاريخ الفكر الإنساني، فلم يكن ذلك فعل عصر دون آخر، وقد عززته طبيعة المفاهيم البشرية التي لا يمكنها أن تنتهي إلى حتميات ثابتة، فتعددت أسباب ذلك التزييف المفاهيمي، فكانت حيناً نتاج ما تنطوي عليه النفس البشرية من العجز عن الإحاطة التامة أو الإدراك الكامل لكثير من تفاصيل الحياة من حولها، وفي أحيان أخرى كثيرة كانت بدافع من الأهواء والمصالح الآنية، حيث تغدو المفاهيم مسلكاً رابحاً في استغلال الآخرين وانقيادهم، ودفعهم باتجاه ما يطمح إليه الزعماء والمستبدون في المكان والزمان.
وقد كان لهذا التزييف ضحايا كثر عبر التاريخ، لم يشفع لهم فرط ذكائهم، ولا صدق نواياهم في طلب الحق، فها هو فرعون يستبد بمفاهيم قومه، فيجعل من موسى عليه السلام مفسداً، ويجعل من نفسه هادياً إلى سبيل الرشاد، كما قال تعالى: ".. قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ: (غافر: 29)، ومثله أولئك الذين وجدوا في تزييف المفاهيم وسيلة نافذة في الحفاظ على مصالحهم والإبقاء على مكانتهم المترفة، فاستغفلوا أممهم ووجهوها لقلب عالم المفاهيم في نطاق مصالحهم الآنية والأنانية، وفي امتداد تاريخي للنوازع البشرية في الحرص على تحصيل المصالح الذاتية.
والمتأمل في الواقع اليوم يجد أن المفاهيم تقع في قلب التدافع الإنساني والصراع الحضاري للأمة الإسلامية، في ظل سعي القوى الغالبة إلى نمذجة مفاهيمها وتنميطها وترويجها بل وفرضها بين الأمم، متجاوزة كل مظاهر التمايز الثقافي والحضاري لتلك الأمم ومقتضيات تميزها ومستلزمات ترسيخ هويتها واختصاصها، ومحاولاتها مصادرة في سبيل ذلك؛ مكونها الديني والمعرفي، حيث فطن هؤلاء لما تمثله المفاهيم من مركزية فكرية تدفع باتجاه تحقيق سياسة الانقياد وفرض التبعية بكل أشكالها، مما يحفظ لهم مصالحهم ويبقي على سيادتهم في العالم واستمرارية العلاقة على سنن العلاقة بين الغالب والمغلوب.
وفي احتفاء منبهر بذلك النموذج الغربي والذي عززته المنجزات الحضارية المادية، سعى عدد من منظري التحديث النهوض الحضاري في الأمة إلى التقليد للحداثة الغربية، فقصروا الفعل الحضاري على احتذاء ذلك النموذج الغربي، وأغلقوا عقولهم دونه، وتخاذلوا عن تصور فعل حضاري مغاير، فسعوا في سبيل تحقيق ذلك إلى إنشاء مقاربة شاملة مع ذلك الغرب معرفيا وسياسيا واقتصاديا. ونتج عن ذلك قيامهم بإحداث مراجعات نقدية لمقاربة مفاهيم كبرى تمثل قواعد أساسية في الفكر وتشكيل العقول والفهوم؛ لمفاهيم حضارية كبرى مثل الدين والنص والحقيقة والعقل والتراث والهوية والتجديد ونحوها، الأمر الذي ألحق ضرراً بالغاً بالكيان العقدي في النفوس، وأفقدها مكامن قوتها وفاعليتها الحضارية.
ومن ناحية أخرى فقد أدى الوهن الذي اعترى الفكر الإسلامي لعدة قرون إلى إحداث تراجعات على أصعدة شتى، وقد كانت المفاهيم من أبرز متمثلات وشواهد ذلك التراجع، حيث تم إهدار الكثير من معاني الوحي، وضعف حضورها الفاعل في حياة الأفراد والمجتمعات، فكانت أول متأثر بذلك التراجع، حيث أن "أول ما تصاب به الأمم في أطوار تراجعها الفكري والمعرفي والثقافي مفاهيمها، وأول ما يتأثر بعمليات
الصراع الفكري والثقافي مفاهيمها كذلك".
وقد كان من نتائج ذلك أن ضعفت كثير من المفاهيم عن الاستجابة لحاجات اللحظة الراهنة، كما وهنت عن تبديد التناقضات الفكرية المفتعلة، وتراجعت عن تصدر مسيرة التقدم والنهوض كونها من أعظم المقدرات الذاتية، الأمر الذي جعل البعض يعلن زهده فيها واحتقاره لها، مستبدلاً إياها بالمفاهيم الغربية لما شاهدوه من واقع تلك المفاهيم في الفعل والإنتاج، فاحتفوا بمفاهيم في الفكر الغربي؛ وخذلوا علم كلماتهم.
ومن هنا، إذا توفرت الإرادة الداعية والبصيرة الواعية للخروج من حل الالتباس المفاهيمي سيشكل ذلك داعيا أساسيا للاهتمام بعالم المفاهيم والضرورات المعرفية والعملية المتعلقة به.
twitter.com/Saif_abdelfatah