هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم تتح لي فرصة مقابلة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وكان لي شرف الحديث معها مرة بالهاتف، لكنني أعرف أكثر من خمس طفلات في فرنسا، اسمهن: شيرين، محبة وتيمنا بهذا الأنموذج للصحفية الفلسطينية الحرة.
جمعت شيرين بين شرف المهنة وشرف الدفاع عن الحق المشروع، لذا فرضت احترامها على الخصم والصديق، ولعل ما حُرمت شيرين من رؤيته، هو الفصل الأخير من كتاب حياتها، الذي احتضن جثمانها فيه مئات الآلاف ممن يقارع الظلم والتعسف.
في هذا الفصل، حمل نعش شيرين، نعش 48 صحفيا فلسطينيا سعى الاحتلال لتغييب ملفاتهم وقصصهم، حمل نعش كل طفل سقط برصاص الاحتلال، وكل امرأة قتلها المحتل. هذا الرمز يشكل اليوم تحديا لكل الحقوقيين والأحرار، بأن معركة العدالة يجب أن تذهب إلى آخر الشوط، فاستمرار غياب المحاسبة في الجرائم الإسرائيلية، هو انتصار للأبارتايد على المساواة بين الناس، وللقوة على العدل، ولازدواجية المعايير على التكافؤ في حكم القانون.
قدمت لنا شيرين هدية حضارية في مشهد إنساني واحد، امرأة من عائلة مسيحية فلسطينية، هي ابنة القدس، وهي تحمل، دون عقدة نقص أو زيادة، الجنسية الأمريكية إلى جانب الجنسية الفلسطينية؛ أي إنها تستجوب كل أمريكي حول مفهوم المواطنة في بلده، ومفهوم القيم والعدالة في الولايات المتحدة: كيف يمكن أن يكون الدفاع عن شيرين ـ الضحية، أقل أهمية من الدفاع عن مقاتل أمريكي في أفغانستان متهم بجريمة حرب موصوفة؟
بعد المواجهة المفتوحة بين الرئيس الأمريكي السابق ترامب والمحكمة الجنائية الدولية، في حزيران/يونيو 2020، أصدر دونالد ترامب أمرا تنفيذيا سمح للولايات المتحدة بحظر أصول موظفي المحكمة الجنائية الدولية، ومنعهم وعائلاتهم المباشرة من دخول البلاد. في أيلول/سبتمبر 2020، قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو؛ إن فاتو بنسودا ومسؤول كبير آخر في المحكمة الجنائية الدولية، فاكيسو موشوشوكو، ستتم معاقبتهم بموجب هذا الأمر، وأن أولئك الذين "يدعمون هؤلاء الأفراد ماديا يخاطرون بالتعرض للعقوبات أيضا".
لدينا المئات وأكثر من التقارير التي قدمتها الفقيدة شيرين أبو عاقلة، والتي يمكن أن يعاد عبرها التعريف بمهنية وأمانة شيرين، ولكن أيضا إيضاحات توثيقية للمناسبة والحدث، والجرائم والضحايا.
منذ تلك اللحظة، تسعى الحكومة البريطانية لانتزاع منصب المدعي العام، خوفا من صرخات ضمير تخرج عن هذه المؤسسة الدولية للعدالة الجنائية. وكان اختيار كريم خان مدروسا من كل النواحي، فهو من عائلة أحمدية مسلمة، ومن أصول باكستانية، وخلال ثلاث سنوات من عمله في ملف داعش، تجنب بحنكة موضوع تسليم أو عودة المقاتلين الأوروبيين لأوروبا وفق توجيهات الخارجية البريطانية. يعرف الخطوط الحمراء للولايات المتحدة الأمريكية، وكان أول تصريح له قرارا بعدم إعطاء أولوية للولايات المتحدة الأمريكية في التحقيق في جرائم الحرب في أفغانستان. هذا حتى لا نتحدث عن سوابقه كمحام عن شخصيات دموية وقمعية ارتكبت جرائم جسيمة في بلدانها، باعتبار ذلك، كما يقول المحامي لوكلرك: "عندما تفتح مكتبا للمحاماة، مهمتك أن تدافع عن الزبون؛ عاهرا كان أو قاتلا". الأمر الذي لم يمنع عشرات المنظمات الحقوقية والقضائية من الوقوف ضد اختياره "مدعيا عاما"؛ لأنه سيكون أسير من اختاره وفرضه على المحكمة الجنائية الدولية، رغم هزالة ملفه الشخصي.
هنا تنتصب شيرين أبو عاقلة أمام كريم خان، تحديا كبيرا يحمل أبعادا دولية، سياسية ومدنية وقانونية جنائية بآن معا: لقد هرول السيد كريم خان إلى كييف لفتح التحقيق في جرائم حرب في أوكرانيا، وانهال عليه 250 مليون دولار للمساعدة في التحقيق، في وقت لم تتوقف فيه الانتهاكات الجسيمة بحق الفلسطينيين، وفي ذمته قرار ملزم من الغرفة الابتدائية في المحكمة الجنائية الدولية، باعتبار الجرائم الواقعة في دولة فلسطين ضمن الولاية القضائية للمحكمة. ليس بإمكانه التراجع، ولكن بإمكانه المماطلة وكسب عنصر الوقت. الأمر الذي يتطلب من المنظمات الحقوقية ونقابات حماية الصحفيين وقناة الجزيرة والسلطة الفلسطينية والمحامين، ما نسميه القدرة على التعبئة المستمرة لإبقاء ملف شيرين والانتهاكات الإسرائيلية في واجهة المشهد.
إن أية حملة حقوقية تحتاج إلى مواصفات خمس؛ هي البساطة والترتيب المنهجي والوضوح والدقة والصدق. وفي كل هذه العناصر تعطينا قضية شيرين نقاط الارتكاز الضرورية للنجاح.
لا تنقص الحماسة والقناعة بعدالة القضية، على العكس من ذلك، ثمة شعور جماعي بالظلم من الضروري ترجمته بروح المتابعة والإصرار.
تعطي قضية شيرين لمنظمات حقوق الإنسان فرصة نادرة للتعريف بمختلف الانتهاكات الجسيمة في فلسطين، خاصة أن المنظمات الحقوقية الفلسطينية، من أكثر المنظمات في المنطقة والعالم قدرة على التوثيق الدقيق والموثق، وأذكّر بجملة قالها لنا القاضي غولدستون: "الملفات التي قدمت لي من فلسطين، من أكثر الملفات مهنية وأهمية في تجربتي القضائية".
إن عدم فتح المحكمة الجنائية الدولية للملف الفلسطيني بعد قضية شيرين، يعني أنه قد قرر منذ اليوم، ليس فقط وضع بصمة الطاعة لمن حرص على أن يصبح مدعيا عاما تحت السيطرة، وإنما وصمة عار في سجله الشخصي، ونقطة تشكيك في سمعة ومكانة المحكمة الجنائية الدولية.
من الضروري أن تشمل قضية شيرين مجموعة الانتهاكات الموصوفة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية والبيئية. وأن تضع على الطاولة التدمير المنهجي لإنسانية الإنسان من قبل الاحتلال، سواء كان ذلك على صعيد الأشخاص أو المجتمع أو مؤسسات السلطة. فأهم مكسب في حملة ناجحة، يكمن في رصد المكاسب العائدة على الضحايا، أي ربط المبادئ بالمصالح الإنسانية العميقة.
من المهم أيضا، متابعة وتقييم مختلف المواقف من القضية، وتحديد الأطراف السلبية أو المحايدة ومدى أهمية استقطابها والعمل على ذلك.
لا يمكن كسب معركة أخلاقية وحقوقية دون الإتقان في وقائع الميدان، الأمانة في الطرح والتوثيق والقدرة على استمرار دينامية التنشيط عبر التنوع. لدينا المئات وأكثر من التقارير التي قدمتها الفقيدة شيرين أبو عاقلة، والتي يمكن أن يعاد عبرها التعريف بمهنية وأمانة شيرين، ولكن أيضا إيضاحات توثيقية للمناسبة والحدث، والجرائم والضحايا. مع ضرورة التواصل المعلوماتي وتعدد الأطراف المستهدفة. والحرص، كل الحرص على التجديد المستمر في الشكل والمضمون، والتذكير بالمواقف المتميزة للنواب والسياسيين والصحفيين والنقابيين من كل أنحاء العالم، مع الاستنفار الدائم للطاقات الجديدة.
إن ما يسمى "حسن النية" أو "سوء النية"، يتهاوى بالضرورة أمام الجهد المركز والعمل الدؤوب للنضال من أجل العدالة. نحن نعرف أن السيد خان، يتمنى لو ابتلع التاريخ خمسين ساعة من الزمن بين جنين والقدس، ولم يضطر للوقوف أمام قضية اغتيال شيرين، وعلينا أن نقول له، ولغيره: هناك قضايا تاريخية وملفات روتينية، إن عدم فتح المحكمة الجنائية الدولية للملف الفلسطيني بعد قضية شيرين، يعني أنه قد قرر منذ اليوم، ليس فقط وضع بصمة الطاعة لمن حرص على أن يصبح مدعيا عاما تحت السيطرة، وإنما وصمة عار في سجله الشخصي، ونقطة تشكيك في سمعة ومكانة المحكمة الجنائية الدولية.
*مفكر وناشط حقوقي