هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تتباين سياسات إصدار الفتاوى المعتمدة من قبل دور الإفتاء في كثير من الدول العربية والإسلامية، بين اعتماد مذهب فقهي واحد، تصدر في فتاويها عنه، وتتقيد بالمقرر والمعتمد فيه، وبين انتهاج سياسة التعددية الفقهية، بالاختيار من مجموع المذاهب الفقهية بما يحقق مصالح العباد ضمن مقاصد الشريعة وتعاليمها.
ومن المعلوم أن اعتماد مذهب فقهي واحد، يأتي في إطار اتباع منهجية الفقه المذهبي، التي يرى دعاتها أنها تضبط الصناعة الفقهية ضمن تراث المذاهب الفقهية الأربعة، التي تتابع على خدمتها وتنقيحها آلاف العقول من الفقهاء والمحدثين والأصوليين والمفسرين، عبر المراحل التاريخية المتعاقبة.
لكن ثمة من يرى أن الاقتصار على مذهب فقهي واحد، يحجر ما جعله الشرع واسعا، ويضيق مساحات الاختيار بين اجتهادات المذاهب الفقهية المعتبرة والمحترمة، وهو ما يثير تساؤلات حقيقية حول المنهجية الأصلح لدور الإفتاء في قيامها بواجباتها الدينية، وأدائها لمهامها الإفتائية، أتكون بالالتزام بمذهب فقهي واحد، لا تخرج عنه ولا تتعداه، أم باعتماد التنوع الفقهي بالأخذ من كل المذاهب، بما يضمن مصالح البلاد والعباد؟.
في هذا السياق لفت مدير وحدة العلاقات العامة والتعاون الدولي بدائرة الإفتاء الأردنية، الدكتور حسان أبو عرقوب إلى أن "مسائل الفقه الإسلامي كثيرة ومتنوعة ومتعلقة بجميع ميادين الحياة، وممارسات البشر، وقد ترك لنا علماء الإسلام ثروة هائلة من الأحكام والتشريعات التي تنير حياة الناس بأنوار الحكمة الربانية، وتبني اختياراتها الفقهية والتشريعية على أساس متين من مصادر التشريع المعتبرة، التي هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصالح المرسلة".
حسان أبو عرقوب.. مدير العلاقات العامة بدائرة الإفتاء الأردنية
وأضاف: "وقد استقر هذا التراث الفقهي في أربعة من المذاهب الفقهية المعتبرة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، ووقع الإجماع على اعتمادها واعتبارها طرائق موصلة إلى تحقيق رضوان الله عز وجل، وإلى حفظ مصالح البلاد والعباد".
وتابع: "ولما كانت دائرة الإفتاء العام حلقة من حلقات المسيرة العلمية للحركة الفقهية العامة، فقد اختارت أن تعتمد واحدا من المذاهب الفقهية الأربعة منطلقا وأساسا للاختيارات الفقهية المفتى بها، كي يتحقق من خلال هذا الاعتماد ما حققته الحركة الفقهية عبر التاريخ الإسلامي كله من فوائد ومصالح عظيمة".
وعن المنهجية التي تتبعها دائرة الإفتاء الأردنية، قال أبو عرقوب لـ"عربي21": "وقد وقع اختيار دائرة الإفتاء العام على مذهب الإمام الشافعي أساسا ومنطلقا للفتوى في بلادنا المباركة؛ لأنه المذهب الأكثر انتشارا في بلادنا عبر التاريخ، ومراعاة الغالب مقصد شرعي".
وأردف: "والتزام دائرة الإفتاء بالفتوى على مذهب الإمام الشافعي لا يعني التقليد التام لاجتهادات فقهاء المذاهب، بل إن للدائرة رؤية متقدمة في طريقة الاستفادة من جميع مفردات المذاهب الفقهية ضمن المعطيات التالية: إذا كان اجتهاد المذهب الشافعي في مسألة معينة لا يناسب تغير الزمان والمكان والظروف المحيطة بسؤال المستفتي، كأن يؤدي إلى حرج شديد، أو مشقة بالغة، أو اختلفت العلة التي من أجلها نص فقهاء الشافعية على ذلك الاجتهاد".
وتابع: ".. أو استجد من المعلومات والحقائق العلمية ما يدعو إلى إعادة البحث في الاختيار الفقهي: ففي جميع هذه الحالات تقوم دائرة الإفتاء بإعادة دراسة المسألة في ضوء القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية، وتستفيد من اجتهادات جميع المذاهب الإسلامية للوصول إلى الحكم الشرعي الأقرب إلى تحقيق مقاصد الشريعة".
ووفقا لأبي عرقوب فقد "بلغت تلك المسائل حدا أن قامت إحدى الطالبات بعمل رسالة ماجستير بعنوان ’المسائل التي خالفت فيها دائرة الإفتاء العام الأردنية المذهب الشافعي في العبادات: دراسة فقهية مقارنة‘".
أما في ما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية، كالنكاح والطلاق والحضانة والميرات، فذكر أن "الدائرة تعتمد في الفتوى (قانون الأحوال الشخصية الأردني) ولا تخرج عنه، وذلك حتى لا يحدث تضارب بين الإفتاء والقضاء الشرعي في المملكة، والقانون مستمد من اجتهادات وأقوال فقهاء المسلمين، تم اختيارها وفق أسس وضوابط شرعية، من قبل لجان مختصة".
من جهته قال الباحث المصري في الفكر الإسلامي، علاء إسماعيل: "إن اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية ـ في الأغلب الأعم ـ هو من باب السعة والرحمة، وقد ألف بعض أصحاب الإمام أحمد كتابا في الاختلاف، فقيل له: لا تسمه الاختلاف، وإنما سمه كتاب (السعة)".
علاء إسماعيل.. كاتب وباحث مصري
وواصل: "ولهذا نقول إن الإفتاء على مذهب واحد جائز، بل وأحيانا قد يُمنع الإفتاء بغيره في حالة القوانين الشرعية التي اعتمدتها الدولة في القضاء الشرعي كالدماء والأعراض والزواج والطلاق، حتى لا يحصل تضارب في الأحكام" مستدركا بالقول: "بيد أننا لسنا هنا في مقام الجواز من عدمه، بل في مقام بيان الأصلح، فمما لا شك فيه أن الأفضل والأصلح انتهاج التعددية الفقهية واختيار ما يُحقق مصالح العباد ضمن مقاصد الشريعة وتعاليمها".
وتابع: "وهو منهج علماء التجديد والإصلاح وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتبعه زعماء الإصلاح منذ عصر النهضة، ومن غريب ما يذكره التاريخ أن بعض المفكرين في القرن السابق قد حمَّل جمود المتذهبة تبعة إلغاء الحكم بالشريعة الإسلامية استخلافها بقوانين الفرنسيس، وحكى السيد محمد رشيد رضا أن الخديوي إسماعيل أراد أن يجدد القوانين الشرعية بما يتوافق مع مذاهب الشريعة الإسلامية بسبب مستجدات العصر، فامتنع أهل الجمود من الأزهر آنذاك".
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "وسأل الخديوي، رفاعة الطهطاوي، فطلب منه أن يعفيه من ذلك حتى لا يكفره علماء الأزهر، ما اضطر الخديوي في آخر المطاف إلى إدخال القوانين الفرنسية شيئا فشيئا، وهذا الجمود ليس خاصا بالمتأخرين فحسب، بل إننا لو تأملنا ما كان يقوله الفقهاء قديما سنجد عجبا عجابا".
وأورد إسماعيل بعض ما قاله الفقهاء المتقدمون في هذا الإطار، فنقل عن الفقيه والأصولي الجويني الشافعي قوله: "نحن ندَّعي أنه يجب على كافة العاقلين وعامة المسلمين شرقا وغربا، بعدا وقربا، انتحال مذهب الشافعي، ويجب على العوام الطَّغّام، والجهال الأنذال أيضا انتحال مذهبه، بحيث لا يبغون عنه حولا، ولا يريدون به بدلا".
وذكر أن "الفقه الإسلامي كان يسير نحو الجمود الشديد، لولا أن تداركه الله بالمصلحين، ولا شك أن الله لم يتعبدنا بمذهب معين، وما قيل من متعصبة الفقهاء من وجوب الجمود على مذهب لا ينبغي التعويل عليه.. علما بأن منهجية التعددية الفقهية معمول بها في دار الإفتاء المصرية، وكذلك في المملكة العربية السعودية، وعدد من دول العالم العربي والإسلامي".
وفي ذات الإطار بيَّن الأكاديمي الأردني، المتخصص في الفقه وأصوله، الدكتور محمد الطرايرة، أن "الطرفين المختلفين حول قضية اتباع مذهب واحد أو الأخذ بالتعددية الفقهية، هما على النقيض، فمنهم من يرى عدم اتباع أي مذهب من المذاهب، وهذا فيه إجحاف وظلم، ومنهم من يشدد على الجمود على مذهب بعينه وعدم الخروج عنه، واعتبار أن الدين كله فيه، وهذا مقلق كذلك، وينعكس سلبا على الحالة الدينية برمتها، وثمة طرف ثالث توسط بينهما، تمثل رأيه وسلوكه بالنظر في المذاهب والترجيح بينهما، والأخذ بالأقوى دليلا".
محمد الطرايرة.. متخصص في الفقه الإسلامي وأصوله
وتابع: "وجمهور الأصوليين من أتباع المذاهب ذهبوا إلى عدم وجوب تقليد أحد المذاهب، ولهم في ذلك سند، من أقوال أئمتهم الذين تواترت كلمتهم على النهي عن تقليدهم إذا ما وجدوا أن اجتهاداتهم تخالف الدليل الصريح الصحيح، لذا فإنه حينما يطل علينا قوم يريدون أن يلزموا الأمة بمذهب واحد دون غيره، فهذه منقصة للمذهب نفسه، لعدم التزام أصحابها بما قرره أئمة المذاهب ودعوا إليه".
ونبه في حواره مع "عربي21" على أهمية "تدريس الفقه وفق الفقه المذهبي، بأن يربى طلبة العلم على أحد المذاهب أصولا وفروعا، وهو ما يساعد على تكوين الملكة الفقهية، من غير تعصب لذلك المذهب، ومن أراد بعد إتقانه لمذهب من المذاهب التوسع في دراسة المذاهب الأخرى فله ذلك، وهو مما يوسع مداركه وأفقه، ويطلعه على مسائل الاختلاف، ومناهج الاستدلال المعمول بها".
أما بخصوص التزام دور الإفتاء الرسمية بمذهب واحد، فقد أبدى الطرايرة تحفظه على ذلك، لافتا إلى أنه "لا ينصح بذلك، فالأصلح لدور الإفتاء هو تبني التعددية الفقهية، حتى نتمكن من تقديم الإسلام بوجهه الحضاري الشامل، بالنهل من كل المذاهب الفقهية، والمدارس الدينية المختلفة، بما يظهر كمال الإسلام وجماله الحضاري".
بدوره أوضح الباحث المصري، المتبني لفكر المعتزلة، معتز شطا أن "من شروط المفتي من وجهة النظر الاعتزالية: أن يكون من أهل الاجتهاد، ومن كان هذا حاله فلا يصح أن يقلد مذهبا محددا، ولا أن يلتزم في فتاواه بمذهب واحد، إلا في حالة أن يوافق اجتهاده الذاتي قول ذلك المذهب، فيكون أشبه بالمتابعة أو المطابقة لا التقليد".
معتز شطا.. باحث مصري
وتابع: "وعليه، فلا أرى أن توجهات الالتزام بمذهب فقهي واحد، تنسجم مع المقررات التي ذكرها الأصوليون، فالالتزام بمذهب واحد أشبه بالتقليد"، متسائلا: "فكيف يكون المفتي مقلدا؟.. نعم لو كان الإفتاء مذهبيا فلا بأس، كأن يستفتيه المستفتي عن حكم المسألة في المذهب الفلاني بعينه، أما لو لم يحدد له ذلك فاللائق بالمفتي أن يفتي باجتهاده هو، حتى لو خالف مذهبه إن كان متمذهبا".
وردا على سؤال "عربي21" بشأن الأصلح لدور الإفتاء، رأى شطا أن "الأصلح هو الانفتاح على جميع المذاهب، لا المذاهب الأربعة فقط، بل على المذاهب والآراء المتاحة في المذاهب الأخرى، ثم تخيّر القول الذي يعضده الدليل الأقوى: الكتاب، السنة المتواترة، السنة المشهورة.. الخ، فإن انعدم النص أفتى بموجب الأحكام العقلية عموما، كالقياس، والاستحسان، والاستصلاح.. وهكذا".
وخلص إلى القول إن "المستحسن من وجهة نظري عدم الالتزام بمذهب فقهي واحد في دور الإفتاء الرسمية، وإنما الانفتاح على جميع أو معظم المذاهب والآراء، وتخّير القول الأقرب للنص والعقل ومبادئ الشرع وروحه".