كتب

جمعية الشبان المسلمين بتونس والمشروع الإصلاحي في كتاب

كتاب يعرض لدور جمعية الشبان المسلمين التونسيين في دعم الحركة الوطنية ضد الاستعمار
كتاب يعرض لدور جمعية الشبان المسلمين التونسيين في دعم الحركة الوطنية ضد الاستعمار

عنوان الكتاب: جمعية الشبان المسلمين بتونس والحركة الوطنية
الكاتب: د. عبد الرحمن الهذلي
الناشر: مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية
الطبعة الأولى: 2022
عدد الصفحات: 490


عرفت المنطقة العربية خلال الثلث الأوّل من القرن العشرين مرحلة خصب سياسي واجتماعي، بوّأ نسيجها الجمعياتي لأداء دور طليعي في تأطير شبيبتها، ودفع حركتي التجديد والإصلاح السياسي داخلها. إصلاح لم تعطّله مرحلة الكفاح الوطني الذي انتهى إلى تحرير الأوطان المفتتة مع مطلع خمسينيات القرن.
  
في تونس، وبفضل ما راكمته نخبتها الفكرية والسياسية طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر من إرث إصلاحي، مثّل تطوّر وعي مشتلة الجامعة الزيتونية وحسن تفاعلها مع تحوّلات التاريخ، القادح الأبرز لشعلة التنظم الأفقي وتشبيك علاقات التعاون مع بقيّة المنظمات والجمعيات الأهلية العربيّة والإسلامية. وعي زيتوني متقدّم ارتبط في أساسه وجوهره بقضايا الحريّة والتحرر، يؤكّده الدكتور جمال الدّين دراويل مؤلف كتاب "النخبة والحريّة: تونس في الثلث الأوّل من القرن العشرين".

على هذا الأساس، واستثمارا لما تكتنزه الثقافة العربية الإسلامية من روح التحرر التي تحضّ على المدنيّة وأنماط التقدّم من جهة، بادر التونسيون منذ نهاية العشرينيات إلى محاولة تأسيس جمعية تحت اسم "الشبان المسلمين"؛ تأسيا بالجمعية التي ظهرت في مصر سنة 1927، بدافع من الحزب الحر الدستوري. وضمت الهيئة التأسيسية الأولى خليطا من الشخصيات الوطنية، على رأسها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ المختار بن محمود. لكنها وجدت الصدّ من الاحتلال الفرنسي.

وتكررت المحاولة سنة 1934 مع مجموعة شبابية مدرسية (صادقية) وزيتونية، على رأسها الشاب الرشيد إدريس والشيخ الصادق بسيس. ولضمان النجاح، انضوت تحت الجمعية الخلدونية فكانت فرعا لها؛ تأسيا بالشبيبة المدرسية التي كانت فرعا لجمعية قدماء الصادقية.

واقتناصا لما وفّره قانون 6 آب (أغسطس) 1936 الاستعماري من فرصة ثمينة تُتيح تكوين جمعيات غير دينيّة بدون رخصة مسبقة، بادرت تلك المجموعة الشابة إلى تقديم ملف الجمعية، فحصلت على الرخصة القانونية في أيلول/سبتمبر 1936، وبذلك استقلت عن الخلدونية.

أما المحطة الأخرى المصيرية في تاريخ الجمعية التي تعتبر تأسيسا ثانيا، فهي تولي الشيخ محمد الصالح النيفر لرئاستها في كانون الأول/ديسمبر 1940 أي في ظل الحرب العالمية الثانية. وقد اعتبرت الجمعية نفسها منذ محاولة التأسيس الأولى فرعا للجمعية المصرية الأم، رغم غياب الترابط الهيكلي.

استطاعت الجمعية في فترة وجيزة من تأسيسها، تطوير هياكلها وخوض معركتي الاستقلال ضد الاحتلال الفرنسي والاستقلالية ضد الحزب الدستوري التونسي الجديد، الذي تزعمه الحبيب بورقيبة منذ 1934، على خلفية الخيارات الهووية. كما كانت مساندتها لافتة للقضية الفلسطينية في بواكيرها.
 
وبالرغم من أنّ "المقاومة الثقافية التونسيّة كانت الرافد الأوّل للمقاومة الوطنية بعد فشل المقاومة المسلحة الأولى (1881 ـ 1882)، فإنّ البحوث الأكاديمية التونسية لم تفرز اختصاصا في التاريخ الثقافي حتى تسعينيّات القرن الماضي، واقتصرت بحوث الجمعيات فقط على بعض الدّراسات التي طغى على مجملها التاريخ السياسي"، وهو ما عدّ فلجة كبيرة في البحث التاريخي والاجتماعي. في هذا الإطار، يتنزّل الكتاب-الأطروحة "جمعية الشبان المسلمين والحركة الوطنيّة التونسيّة 1936-1959"، للدكتور الباحث عبد الرحمن الهذلي الحائز على شهادة الدكتوراه في التاريخ من الجامعة التونسية. 

فكرة الكتاب

يجمع كتاب "جمعية الشبان المسلمين والحركة الوطنية التونسية 1936 ـ 1959" الصّادر حديثا عن مركز الدّراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعيّة بتونس، بين حقلي بحث تاريخي، هما: التاريخ الثقافي وتاريخ المجتمع المدني، الذي يتناول تأسيس أهم الجمعيات المدنية وأدوارها الحضارية خلال حقبة مفصلية من تاريخ تونس المعاصر. ويقدّم الكتاب "دراسة مونوغرافيّة لجمعيّة سجّلت حضورها بوضوح في التاريخ الوطني، لكنها لم تحظَ بالاهتمام المناسب لذلك الدّور في الدراسات التاريخية.

 

تجسّد الدور المقاوم والطليعي لجمعية الشبان المسلمين في اتجاهين اثنين؛ في اتجاه المحتل الأجنبي من خلال تقديم مشروع ثقافي بديل، ثم في اتجاه أبناء المخيّم الوطني ذاته، حيث انبنى الصراع في الاتجاه الثاني على "خلفية الموقف من النموذج الغربي نفسه، رفضا أو انبهارا.

 



وطوال المرحلة المفصليّة التي تناولها الكتاب بالدّرس والتمحيص وحتى الاستقصاء بمعناه الصحفي، مثّل المجال الثقافي والاجتماعي ميدان صراع حاد بين الاحتلال الفرنسي الساعي إلى إدماج المستعمرة التونسية، والحركة الوطنية الساعية إلى إثبات الهوية الوطنية وإفشال سياسة الإدماج. وتمتد فترة الدراسة على قرابة ربع قرن، يبتدئ سنة 1936، وهي السنة التي سنّ فيها الاحتلال الفرنسي قانونا جمعياتيا قائما على التصريح، إلى حين إلغائه من قِبل دولة الاستقلال سنة 1959. ومن المفارقات أن تعمد دولة الاستقلال إلى إصدار قانون جديد يقوم على الترخيص، ظلّ ساري المفعول إلى حين قيام الثورة التونسية في كانون الثاني (يناير) 2011.

وقد تجسّد الدور المقاوم والطليعي لجمعية الشبان المسلمين في اتجاهين اثنين؛ في اتجاه المحتل الأجنبي من خلال تقديم مشروع ثقافي بديل، ثم في اتجاه أبناء المخيّم الوطني ذاته، حيث انبنى الصراع في الاتجاه الثاني على "خلفية الموقف من النموذج الغربي نفسه، رفضا أو انبهارا. كما أنّ تصوّر العهدة المناطة بالعمل المدني في علاقته بالعمل السياسي، بين التبعيّة والاستقلالية، لم يكن دائما محلّ إجماع وطني".

محاور الكتاب

قسّم الدكتور عبد الرحمن الهذلي كتابه إلى ثلاثة أبواب: عنون الباب الأوّل بسياقات تأسيس جمعيّة الشبّان المسلمين وأرصدتها، فيما اعتنى الباب الثاني بأنشطة الجمعيّة التأطيرية، وخصص الباب الثالث من الكتاب لانخراط الجمعية في الشأن الوطني، من خلال نسجها لشبكة من العلاقات، سواء مع القوى الوطنيّة داخل البلاد (الأحزاب والمنظّمات)، أو مع بلدان المغرب العربي وبعض البلدان الإسلامية والغربيّة.

شملت دراسة سياقات تأسيس جمعيّة الشبّان المسلمين وأرصدتها، التطرّق للظروف الملائمة التي ساعدت على نشأتها تشريعيا وثقافيّا، خصوصا بعد إصدار قانون 6 آب (أغسطس) 1936، الأمر الذي كان وراء ولادة الجمعيّة، التي لم تلبث أن طوّرت هياكل إداريّة على المستويين المركزي والجهوي، فضلا عن بعثها للعديد من الهياكل الوظيفية من خلال العديد من الفروع (السيدات المسلمات (1945)، الفرع الكشفي (1946)، فرع حماية الطّفولة (1954)، إلخ)، إلى جانب إلحاقها للعديد من الجمعيات (الرابطة الرياضية الزيتونية (1941)، المحافظة على القرآن الكريم (1943)، المؤدّبين، إلخ)، الأمر الذي يكشف عن القدرة التعبوية والتّأطيرية لجمعيّة الشبّان المسلمين تبعا لما أصبح لها من إمكانيّات ماليّة، تأتّت لها من موارد ذاتيّة وأخرى جادت بها عليها جهات رسميّة، كلّ ذلك إلى جانب رصيد بشري متنوّع، ساده التعايش بين عناصر تباينت عمريّا، اجتماعيّا.

أمّا الباب الثاني، فقد أتى على المجهود الكبير الذي قامت به جمعيّة الشبان المسلمين؛ بهدف تكريس الهوية الإسلامية ودعمها بالاعتماد على المحاضرات (أنجزت 36 محاضرة وزّعت على 32 ندوة)، النشاط الفرجوي من خلال المسرح والسينما، بعث مكتبة، فضلا عن توظيفها للعديد من العناوين الصحفية والإذاعة، كوسيلة لإبلاغ صوتها وإيصال تأثيرها لأغلب الشرائح الاجتماعية، مع إيلائها الاهتمام الخاص بمسألة تعليم الناشئة من الجنسين، من خلال تأسيسها للعديد من المدارس التي انتشرت في مختلف جهات البلاد (كمدارس: ميدون، طبلبة، ماطر، تالة، باجة، إلخ).

وانتهى المؤلف إلى تخصيص الباب الثالث من كتابه لانخراط الجمعية في الشأن الوطني من خلال نسجها لشبكة من العلاقات، سواء مع القوى الوطنيّة داخل البلاد (الأحزاب والمنظّمات)، أو مع بلدان المغرب العربي وبعض البلدان الإسلامية والغربيّة، الأمر الذي مكّنها من خدمة القضيّة الوطنيّة في إطار متميّز، راوحت فيه بين تكريس جهودها لتمكين البلاد من استقلالها وحفاظها على استقلاليتها تجاه الدّيوان السياسي خاصّة، تلك الاستقلالية التي ستكون مكلفة لها. ذلك أنّ ما قامت به لصالح البلاد طيلة حوالي عشرين سنة لم يشفع لها عنده، إذ ما إن حصلت البلاد على استقلالها، حتى بدأت جمعيّة الشبّان في الانحسار والضمور؛ جرّاء سياسات بدأت بتحييدها ومحاولة احتوائها، وانتهت بتصفيتها وتيه عناصرها جرّاء العزل والإقصاء.

قفزة تشريعية بديلا عن السياسة القمعية الفاشلة 

بالرغم من استثنائه للجمعيات الدينية التي أبقيت لقانون 1888 والجمعيات المهنية المسيرة بقانون تشرين الثاني (نوفمبر) 1932، فإنّ صدور قانون 6 آب (أغسطس) 1936 مثّل قفزة في السياسة التشريعية الاستعمارية؛ فقد اعتبر القانون الأخير ليبراليا مقارنة بالقانون السابق لما تضمّنه من مزايا، ومنها أنه "يمكن تكوين كلّ جمعيّة بدون رخصة"، أي أنّه ألغى الترخيص المسبق، وربط الوجود القانوني بتوقيع الكتابة العامّة على النظام الأساسي للجمعيّة في أجل لا يتجاوز الشهر، وإمكانيّة التظلّم لدى الإقامة العامّة في صورة عدم التوقيع.
 
وعلى أهميّة هذه القفزة التشريعية الاستعمارية، فإنّ الدكتور عبد الرحمن الهذلي، يؤكّد أنّ جمعية الشبان المسلمين لم تكن وليدة قانون آب (أغسطس) 1936 مثلما هو الحال بالنسبة إلى عديد الجمعيّات الأخرى. بل هي مشروع سبق ذلك القانون بثماني سنوات عرف خلالها جهودا من الوطنيين لاستحداثه. وجاء هذا القانون ليضفي عليه الشرعية القانونية التي طالما تلكّأت الحماية في إسنادها له تحت ذرائع متعددة ويفتح أمامه آفاقا جديدة، ليتطوّر ويتوسّع متفاعلا مع واقع وطني وإقليمي ودولي متحوّل.

 

الاحتلال الفرنسي وفّر بمختلف الأوامر العليّة الإطار التشريعي لنشأة مجتمع مدني عصري وتطوره. لكن هذا التطوّر لم يكن رهين ذلك الإطار فحسب، بل كان متأثرا كذلك بتفاعل التونسيين معه في سياق تفاعلهم مع واقعهم الشامل.

 



في ذات السياق، ولئن مثّل قانون آب (أغسطس) 1936 تطوّرا تشريعيّا مهمّا نفذت من خلاله جمعية الشبان المسلمين وغيرها من الجمعيات الأخرى، فإنه لم يفت المؤلف التذكير بأنّ الاحتلال الفرنسي كان قد وفّر الإطار التشريعي المؤسس للمجتمع المدني العصري بسن قانون الجمعيات الأوّل في 15 أيلول (سبتمبر) 1888، وأنّه لم تكن غايته من إدخال الجمعيّات العصرية إحداث مدارس للديمقراطية على شاكلة ما يوجد في المجتمع الأوروبي، ولا تربية الأجيال على اختيار المسؤولين داخل الهياكل المسيّرة، بل كانت الغاية الأولى من إدخال هذا النوع من التنظيمات الاجتماعية، إرساء ازدواجيّة أخرى من أشكال الازدواجية التي فرضها الاحتلال من خلال منظومات موازية للمنظومات التقليدية المؤطّرة للمجتمع التونسي. ويضيف بالقول؛ إنّ الاحتلال الفرنسي سعى من خلال هذا القانون إلى التحكّم في الجمعيّات عبر ربط تكوينها بالترخيص، وبمن ثم استعمال سلاح الترخيص في التقتير على التونسيين في التنظم؛ خوفا من تطوّر تلك الأطر إلى بؤر مقاومة، وهو ما جعل البعض يصفه بالقانون الوقائي.

في هذا الإطار، يذكّر المؤّلف بما حصل للمدرسة الخلدونية والصادقية، وهما اللتان أراد الاحتلال أن يجعل منهما نموذجا للدعاية إلى مهمته التمدينية بالبلاد؛ فقد بدأتا جمعيتين ثقافيتين تناضلان من أجل إصلاح التعليم والثقافة العربية الإسلامية، لكن ما لبث الوعي الثقافي أن انزلق إلى الوعي السياسي، فانزلقت الممارسة الوطنية من النشاط الثقافي بالمحاضرات والندوات والمقالات الصحفية إلى الممارسة السياسية، بظهور حركة الشباب التونسي وخوض تحرّكات معارضة لسياسات الاحتلال، بلغت أوجها في أحداث الزلاج التي شهدتها تونس العاصمة على خلفية احتلال طرابلس من قبل إيطاليا، وبسبب مقبرة الجلاز أو الزلاج في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1911، ثم مقاطعة الترامواي سنة 1912. ولذلك، يشير المؤلف إلى أنّ قانون 6 آب (أغسطس) 1936 هو نتاج مباشر لفشل السياسة القمعية التي اعتمدها المقيم العام الفرنسي "بيروطون"، ممّا تطلّب الاستعاضة عنه بمقيم عام جديد، هو "أرمان قيون" الذي تزامن مع صعود الجبهة الشعبية إلى حكم فرنسا في نيسان (أبريل)- أيار (مايو) 1936.

ويخلص المؤلف إلى أنّ الاحتلال الفرنسي، وفّر بمختلف الأوامر العليّة الإطار التشريعي لنشأة مجتمع مدني عصري وتطوره. لكن هذا التطوّر لم يكن رهين ذلك الإطار فحسب، بل كان متأثرا كذلك بتفاعل التونسيين معه في سياق تفاعلهم مع واقعهم الشامل.

الحزب الحر الدستوري وتأسيس جمعية الشبان المسلمين 

بعد الحرب العالمية الأولى وإيمانا منها بأهمية العامل الجماهيري في التعبئة للمعركة الوطنية، سارعت النخبة التونسية بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، عرف بداعية الإصلاح والتجديد والمقاومة، في تأسيس "الحزب الحر الدستوري التونسي" سنة 1920.

وبدوره، انتبه الحزب الحر الدستوري التونسي إلى دور الجمعيّات كأذرع في تأطير المجتمع لصالح الحركة الوطنية، خاصّة بعد صدور الأوامر الزجرية في كانون الثاني (يناير) 1926 والتضييق على النشاط الصحفي والسياسي. ومن هنا، جاء قرار مؤتمره المنعقد في كانون الأول (ديسمبر) 1927 بتأسيس جمعية للشبان التونسيين، تعمل على نشر الروح الوطنية في أوساط الشباب التونسي كما كان الأمر في البلدان الأخرى، فظهرت محاولة تأسيس هذه الجمعية في آذار (مارس) 1928. لكن برفض السلطات الاستعمارية لملف "جمعية الشبان التونسيين"، حاول الحزب تأسيس "جمعية الشبان المسلمين" في تشرين الأول (أكتوبر) 1928.

جمعية الشبان المسلمين وتحدّيات الهوية العربية الإسلامية

لقد دفعت سياسة الاحتلال الفرنسي القائمة على تحدّي الهوية العربية الإسلامية للبلاد التونسية التي بدأت مع الاحتلال، بفرض ثقافته وتهميش الثقافة الوطنية، وأهمّ رموزها: اللغة العربيّة والتعليم الزيتوني، قد احتدّت بعد الحرب العالمية الأولى. ويذكر المؤلف في هذا السياق السلوك الصليبي للاحتلال الفرنسي، الذي قام بتنصيب تمثال الكاردينال "لافيجري" في مدخل المدينة العربية الإسلامية سنة 1925 والمؤتمر "الأفخارستي" سنة 1930، وسياسة التجنيس من خلال سن قانون التجنيس الفرنسي سنة 1923. وقد أثارت هذه السياسات مخاوف التونسيين الذين بادروا إلى أشكال مختلفة للتصدّي لها ومنها تأسيس الجمعيات. ولعل هذا ما يفسر أنّ أكثر الجمعيات التي تشكّلت في الثلاثينيات من القرن العشرين كانت ذات صبغة ثقافية.

إذن، جملة هذه العوامل كانت القادح لمحاولة تأسيس جمعية الشبان المسلمين مسعى إلى التصدّي للسياسة الفرنسية، من خلال التقوّي بالظّهير الإسلامي؛ تأكيدا لوحدة العدو ووحدة الضحيّة، ولم تترك فرصة إلّا وانتهزتها لتوسّع نشاطها في مقاومة مخلفات الاستعمار الفرنسي على الأوضاع الثقافيّة والاجتماعية للتونسيين. واستفادت في ذلك من شبكة علاقاتها التي أعطتها حماية في مواجهة مضايقات الاحتلال الفرنسي، ووفرت لها الموارد الضرورية لخوض تلك المعركة؛ سواء منها الماديّة أو البشريّة، يضيف الدكتور عبد الرحمن الهذلي.

جمعية الشبان المسلمين والمشروع الإصلاحي الإسلامي

لئن أدت السياقات الدّاخلية التونسية التشريعية والسياسية دورها في نشأة جمعيّة الشبان المسلمين، فإن المؤلف لم يغفل السياقات السياسية العربية والإسلامية كأحد العوامل المؤثرة في نشأة جمعية الشبان المسلمين وتطوّرها. وهو ما جعله يدرج مشروع الشبان المسلمين عموما، ضمن المشروع الإصلاحي الذي ظهر في العالم الإسلامي، نتيجة الصدمة المتولدة عن الهجمة الاستعمارية منذ نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابارت على مصر، مرورا بمختلف الوقائع التي فرضت على الدول الإسلامية المعاهدات غير المتكافئة، وانتهت بإرساء الاحتلال الأوروبي المباشر على عدد من تلك الدّول. فبرزت فكرة الجامعة الإسلامية مع السلطان عبد الحميد الثاني وتبناها دعاة الإصلاح، باعتبارها إطارا جامعا للمسلمين في مواجهة الهجمة الغربية. 

وسرت الفكرة إلى المغرب العربي ضمن سياق عام نفسي وواقعي اتسم بالشعور بالخوف من الغرب والبحث عن التقوّي بالمشرق لمواجهته. وهذا ما يفسر عمل فرنسا بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وإعلان السلطان العثماني الجهاد على تجذير القطيعة بين الأتراك والعرب، ومن ضمنهم التونسيون، بتشويه الأتراك من ناحية وتثوير العرب ضدهم من ناحية ثانية، يضيف الدكتور عبد الرحمن الهذلي.

 

لقد دفعت سياسة الاحتلال الفرنسي القائمة على تحدّي الهوية العربية الإسلامية للبلاد التونسية، التي بدأت مع الاحتلال بفرض ثقافته وتهميش الثقافة الوطنية، وأهمّ رموزها: اللغة العربيّة والتعليم الزيتوني، قد احتدّت بعد الحرب العالمية الأولى.

 



وقد دفعت تلكم الظروف الشعوب الإسلامية إلى البحث عن وعاء جامع لحركات التحرر والمقاومة؛ فظهرت جمعيات عبر قطرية ذات نزعة عالمية، كجمعية الشبان المسلمين (1927)، والإخوان المسلمين (1928). أو إقليمية كنجم شمال إفريقيا (1926)، وجمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين بفرنسا (1927). ومن بين تلك الجمعيات، يهمنا التوقف عند جمعية الشبان المسلمين باعتبارها الأصل الذي تنتسب إليه الجمعية التونسية. فقد تأسست بمصر سنة 1927 نظيرة ونقيضة لجمعية الشبان المسيحيين التي تأسست منذ 1844 بلندن. في ركاب أكبر دولة استعمارية، وفي سياق الموجة الاستعمارية الغربية التي أفرزتها الثورة الصناعيّة، مما يؤكد العلاقة بين العولمة الاستعمارية الإمبريالية، وعولمة هياكل هذه الجمعية ونشاطها التبشيري المغلف بالأنشطة الاجتماعية، يؤكد المؤلف.

تأسست إذن جمعية الشبان المسلمين في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 1927 على نموذج نظيرتها المسيحية وعلى نقيضها في الوقت نفسه. وتوسعت بتأسيس فروعها في الأقطار العربية والإسلامية، إذ كان الإعلان عن تكوين الجمعية المصرية بمنزلة إشارة تلقفتها بقية الشعوب العربية والإسلامية، فبادرت إلى تأسيس جمعياتها على شاكلة الجمعية المصرية، وبالاسم نفسه وعلى أساس أنها امتداد لها، في العراق ودمشق والهند وإندونيسيا وفلسطين والجزائر وألمانيا وأمريكا. وفي الوقت نفسه، جاءت المحاولة الأولى لتأسيس جمعية الشبان المسلمين التونسية.

الجمعية ودعم القضية الفلسطينية 

علاوة على دورها في معركة الهوية التي أفشلت المشروع الاستعماري الاندماجي الذي أتينا عليه أعلاه، فقد أدت جمعية الشبان المسلمين أدوارا وطنية وقومية. في هذا الإطار، يشير الدكتور عبد الرحمن الهذلي إلى أنّ الجمعية انخرطت منذ تأسيسها في دعم القضية الفلسطينية منذ النصف الثاني من الثلاثينيات، الذي شهد اندلاع الثورة العربية الفلسطينية (1936 ـ 1939) ضدّ تنامي التهجير اليهودي إلى فلسطين. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، تزايدت المخاطر على فلسطين وتوّجت بالتقسيم الفعلي وقيام الكيان الصهيوني في أيار/ مايو 1948، ثمّ اتساع الصراع ليشمل الأقطار العربيّة.

وقد تضمّنت محاضر الجلسات الأولى للجمعية صدى لكل تلك التطورات، فمنذ أول جلسة كان لافتا، يؤكد الدكتور عبد الرحمن الهذلي، انخراط الهيئة في هذه القضية، إذ "تُلي النداء المرسل من قبل فلسطين لإغاثة منكوبيها". ونوّعت الجمعيّة في أشكال تفاعلها مع تلك التطوّرات من الدّعم الإعلامي إلى التحرّكات الشّعبيّة والتبرّعات الماليّة والاحتجاج لدى المؤسسات الرّسمية، بل وحتّى التعبئة للجهاد في فلسطين. وفي هذا الإطار يذكّر الهذلي بجملة عرائض المساندة والتضامن عبر البريد الجوّي، التي بادرت الجمعية إلى إرسالها إلى كلّ من جمعيّة الشبان بمصر واللجنة العربية العليا بالقدس التي كان يتزعمها الحاج أمين الحسيني، والاحتجاج لدى السفارة الإنجليزية بتونس، وذلك على خلفيّة تكوين بريطانيا في حزيران/ -يوليو 1937 لجنة تزعّمها اللورد روبرت بيل، واقترحت تقسيم فلسطين بين العرب واليهود. كما تواصل الدعم الإعلامي لنصرة القضية الفلسطينية، من خلال إصدار عرائض الاحتجاج ومقالات بالصحف بمشاركة الفروع.

من رديف للحركة السياسية الوطنية إلى منافس لها

يؤكّد الدكتور عبد الرحمن الهذلي، أنّ التطوّر السريع والتوسّع في هياكل جمعية الشبان المسلمين وازدياد نفوذها لم يكن من فراغ. بل كان حصيلة تضافر عوامل موضوعية تتعلق بظرفيّة التأسيس والتطوّر، وأخرى ذاتيّة وخاصّة برصيدها البشري، فقد نجحت الجمعية في استقطاب نخبة تتمتع بشبكة علاقات ممتدّة وناجحة، فتحت أمامها أبواب الفعل والتأثير وحوّلتها إلى معطى رئيسي ضمن القوى الوطنيّة، فقد بدأت الجمعيّة محليّة، لكنّ إشعاعها لم يلبث أن تجاوز حدود الوطن إلى الإقليم مشرقا ومغربا ثمّ العالم. وقد استفادت الجمعية في هذا الإشعاع من الوشائج الحضاريّة التي تربطها بالمنطقة، لكن سياق تدويل قضيّة التحرّر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية، كان الحامل الأساسي لذلك الإشعاع.

في المقابل، فإنّ التوسّع الأفقي لجمعية الشبان المسلمين داخل جهات عدّة للبلاد التونسية، نقلها من وضعيّة رديف للحركة السياسية الوطنية إلى وضعيّة الشريك، بل أحيانا المنافس؛ إذ يؤكد الدكتور عبد الرحمن الهذلي أن تضخّم المشروع مع طبيعة تفكير قياداته، جعلها تشعر بالغيرة عليه وتخطط وفقا لمصلحة المشروع ذاته وليس لغيره. فإذا تقاطعت مصلحة المشروع الحزبي مع مصلحة مشروع الجمعية، التقى الطّرفان، وإذا افترقتا افترقا. وهو ما لم يقبله قادة الديوان السياسي، فراحوا يخططون لترويض المشروع من جديد واسترداده، الأمر الذي انعكس توترا في العلاقة بين الطرفين وتقلبا بين التصالح والصراع، حتى انتهى إلى حلّ الجمعيّة نفسها بعد قضم أطرافها شيئا فشيئا بمصادرة مشاريعها لصالح الدّولة الجديدة طيلة ثلاث سنوات. 

وقد انتهت الجمعية قانونيا مع مطلع الاستقلال بعد صدور قانون الجمعيات لسنة 1959 وواقعيا منذ 1956 باستقالة رئيسها صانع أمجادها، الشيخ محمد الصالح النيفر، بعد أن وجد نفسه ومشروعه خارج السياق الجديد، قبل أن يساهم لاحقا في تأسيس الجماعة الإسلامية، ثمّ حركة الاتجاه الإسلامي.


التعليقات (0)