هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: القاضي في الحضارة العربية: "أخبار القضاة" لوكيع أنموذجا
الكاتب: حنان بالشاوش
الناشر: مجمع الأطرش لنشر الكتاب المختص وتوزيعه، تونس 2021
عدد الصفحات: 231 صفحة
1 ـ بين يدي الكتاب:
يُعتبر القضاء سلطة ضرورية لصلاح الأمم. فبصلاحه يصلح أمر العباد ويُقاوم الفساد ويقع إنفاذ القانون.
ولكن كيف تشكّل هذا الجهاز في الحضارة العربية ولماذا أشار ابن خلدون منذ الثامن للهجرة إلى أنّ العدل أساس العمران؟ لا يسع الباحث إلا أن يتساءل عن تاريخ هذه المؤسسة، عن نشأتها وعن عوامل تطورها بتحوّل العمران عند العرب من حياة البداوة إلى التمدّن. فلا شكّ أن الأمر مثّل مسارا كاملا من جهة الملامح والمدارس والممارسة. ويمثل كتاب "أخبار القضاة" لمحمد بن خلف البغدادي المعروف بوكيع ت 306 ه وصاحب المؤلفات عديدة التي تكشف عميق ثقافته وتوزعها بين فقه ونحو وقضاء ومعرفة بالحساب ونظم للشعر، إجابة مهمة عن هذا التساؤل. فهو ينقل إرهاصات ظهور خطة القاضي ويكشف جهد جيل الرواة والمحدثين في تتبع مسارها. ولأهميته هذه جعلته الباحثة حنان بالشاوش مدونتها التي عملت من خلالها على إعادة تشكيل صورة القاضي باعتباره "من له الحق والسلطة وهو الشخص المفوّض من السلط الرسمية لجعل العدالة تسود".
2 ـ ظهور خطة القاضي في الحضارة العربية وتطورها
من البديهي أن يتقاضى الخصوم قبل ظهور الإسلام. فالاجتماع البشري سواء تجسّد في شكل قبيلة أو فخذ أو عائلة يقتضي تنظيما معينا ويستوجب سلطة تضمن استمراره. فتشير الباحثة إلى أن فض النزاعات في المجتمع الجاهلي كان يستند إلى "قضاء تحكيمي" يفتقر إلى سلطة تشريعية تسنّ قوانينه. فقد كانوا يحتكمون إلى الكهان. فتكون أحكامهم ما ورائية دينية أو إلى أهل الشرف والأمانة. وتنقل عن اليعقوبي قوله "وكان للعرب حكّام ترجع إليها في أمورها وتتحاكم في منافراتها ومواريثها ومياهها ودمائها، لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه".
وكان المتخاصمون يختارون الحكم بحرّية. ولهذا للمحكَّم أن يرفض المهمة. وعامّة لم يعرف الجاهليون خطّة القاضي كما ستضبط لاحقا باعتباره موظفا عند المجموعة يسهر عن فض نزاعاتها ويتقاضى أجرا لما يقوم به. ولم يتمثلوا القضاء باعتباره مهمة ذات طابع إلزامي "تتولى الحكم في الشيء والبت فيه والفراغ منه" أو "باعتباره فعلا واقعا يقوم به القاضي ويعطي لصاحبه صفة القضاء بعد ممارسته، فإذا لم يباشره لا يتصف به" وفق التعريفات التي تنقلها الباحثة عن مصادرها المختصة. ومن الطبيعي أنّ نظاما مائعا كالذي نذكر سيخلف الحيف. فيجحف في حق الفئات الضعيفة خاصة في المنافرات بين السادة والعبيد.
3 ـ تطور مؤسسة القضاء في مرحلة الإسلام المبكّر
مع ظهور الديانة الإسلامية التي بشرت بمقاومة الظلم ونشر العدل بين الناس بدأت معالم خطة القضاء تتضح شيئا فشيئا وأخذت تقطع مع العفوية التي حكمت قضاء الجاهلية. فقد بعث الرسول عليا واليا على اليمن وأقطعه القضاء. وفي كتب الإخباريين إشارات إلى أنه قد بعث برجاله إلى الأصقاع البعيدة وأنه كلّفهم بالفصل بين المتخاصمين. ولكنها وفي الآن، نفسه تنفي اختصاصهم بهذه الخطّة دون غيرها. فقد كان القضاء وظيفة من بين جملة من الوظائف التي تعهد إلى الولاّة أو العمّال. وهذا بديهي فالمرحلة هي مرحلة نشر الدعوة وتأمين الدولة الناشئة في محيط مناهض أكثر من كونها مرحلة التنظيم الداري الدّاخلي. وخبر استقضاء الرسول لمعاذ ابن جبل وابن سعد في اليمن غير ثابت.
والرّاجح أنهما أرسلا في مهام كان الفصل بين المتخاصمين من بينها. ولعلّ قوله لمعاذ "بم تقضي إن عرض قضاء؟" يبرز أن الجلوس للفصل بين المتخاصمين لا يمثل المهمة الوحيدة. ثم لمّا استخلف أبو بكر "قال لعمر ولأبي عبيدة الجراج: إنه لا بدّ لي من أعوان. فقال عمر: أنا أكفيك القضاء، وقال أبو عبيدة أنا أكفيك بيت المال". ففرضت التحولات الجديدة تدعيم القضاء "ولكن ذلك لم يكن وليد التفكير والوعي بالحاجة إلى تخصيص خطة القاضي مستقلة عن تدخّل الجهاز السلطوي، بل تمخّض عن ظروف جديدة اقتضت التخلي عن نظام التحكيم واستبداله بآخر أكثر نجاعة عمليا".
4 ـ القضاء زمن الدولتين الأموية والعباسية
آل الحكم بعد الفتنة الكبرى إلى معاوية وتحولت الدولة الناشئة في عهده إلى إمبراطورية تنافس الإمبراطورية الفارسية في الشرق والبيزنطية في الغرب وتتوسع على حسابهما. وكان على الأمويين أن يبلوروا نظاما قضائيا ناجعا لفرض التعايش بين الشعوب المختلفة والثقافات المتباينة. فحرصوا على الاهتمام به في جميع الأمصار واستقضاء الأصلح. وغدا القاضي نائبا للخليفة يقوم مقامه. فيجلس للنظر في جل أصناف الدّعاوي، في الأحوال الشخصية والحدود والجنايات والنوازل المالية ويصدر الأحكام باسمه. والخليفة بدوره نائب عن صاحب الشرع. وقد ويحدث أن ينتصب الخليفة بنفسه لهذه المهمة في سياقات بعينها. وينتهي الاستقراء بحنان بالشاوش إلى ضبط صنفين من القضاة. فيعيّن بعضهم مباشرة من قبل الخليفة. ويعدّون نوابا مباشرين ويعين بعض آخر من قبل الوالي. فيعتبرون نوابا غير مباشرين. ولكن سواء عُينوا من قبل الخليفة أو من طرف الوالي أو قاضي قضاة، يظلون متصلين بالجهاز السياسي بمقتضى هذه النيابة ومرتبطين بالمجال الديني الذي يستندون إليه لتبرير أحكامهم.
وانبثقت في العهد العباسي "ولاية المظالم" فرغم الارتباك أول قيام الدولة وبقاء الخطة شاغرة لفترة من الزّمن تدارك العباسيون أمرهم. فمشروعيتهم مرتبطة بمدى إرسائهم لمفهوم الخلافة الحقيقية الذي كانوا يبشرون بها بعد وصفهم لحكم بني أمية بالملك ومدى إشاعتهم للعدل بين الناس. لذلك أصبح القاضي يخضع لمراقبة أكبر من قبل السلطة المركزية. ولانشغال الخليفة بالشأن السياسي المباشر فُوّض أمر القضاء إلى الولاة فكانوا وفق وكيع "يولون من أرادوا، وكان لا يركب القاضي مركبا، ولا يذهب في حاجة إلاّ استأذن أمير البلد".
لقد تطورت الممارسات القضائية مقارنة بما كان عليه في فترة الإسلام المبكر. فظهر، على سبيل المثال، مفهوم التجريح في ممارسة الحسن البصري الذي تولى القضاء في عهد عمر بن عبد العزيز. فكان يرفض شهادة الولد للوالد وشهادة الزوج لزوجته والأخ لأخيه. ولكن بعض المشاكل ظلت قائمة. فقد كانت الأحكام تختلف من قاض إلى آخر. ولئن جسّدت الظاهرة حريّة القاضي في اتخاذ قراراته فإنها فتحت المجال للبعد الذاتي في استصدار الأحكام. والموقف من المتعة (النفقة) عينة جيّدة لهذا المؤثر.
فالقاضي توبة بن نمر لم يكن يراها ملزمة وإنما هي مظهر من مظاهر الورع والدين فيما يقرّ القاضي ابن حجيرة بإجباريتها. أما القاضي خير بن نعيم فيؤكد وجوبها وضرورة معاقبة من تعدى عليها. وعملَ العباسيون على تجاوز هذه الهنات وتشكلت المذاهب الفقهية من جهة ثانية. فأسهم العاملان في إنضاج مؤسسة القضاء. فيما أسهمت التحولات السياسية في تضخّم جهازه.. ولكن مع موت هارون الرشيد واشتداد الخلاف بين أبنائه تأثرت هذه المؤسسة وفقدت الكثير من مقوماتها.
5 ـ شروط تولي خطة القضاء
كان لا بدّ أن تضبط جملة من المقاييس يتم تولي خطة القضاء على أساسها. منها "شروط أولية" لابدّ من توفرها في المُستقضَى أوّلها الإسلام وثانيها أن يكون من فئة العلماء "ورثة الأنبياء" واسع المعرفة بالعقيدة الإسلامية عارفا بالقرآن مطلعا على تجارب الرسول حتى تكون أحكامه مستندة إلى الشريعة الإسلامية بالأساس مرتبطة بالفقه والفتوى. ومنها البلوغ والعقل والذكورة والعدالة وسلامة الحواس. ومنها شروط ينبغي توفرها في القاضي بعد تكليفه للقيام بوظيفة القضاء كالقوة والحزم والورع والتقوى والنزاهة والعفة والهيبة.
لا تتيح المراجع المتوفرة للباحثة أن تعرف هل كان القاضي يتقاضى أجرا في مرحلة الإسلام المبكر أم لا. ولكن الثابت لديها أنه تحوّل إلى مكلّف يقوم بعمله مقابل رزق يحصّله منذ خلافة عمر بن الخطاب وأنّ الأدبيات استكرهت الهدايا التي تقدم إليه دون مقابل أو شرط.
ولعلّ هذه السمات ما جعل وكيعا ينزع إلى إضفاء صبغة دينية على وظيفة القضاء. "فالمقسط العادل في الحكم من الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمان وكلتا يديه يمين، يعدلون في حكمهم وما ولوا". ولحساسية هذه الخطّة اُستكرِه سعي المرء إليها وتؤكد الباحثة أنّ"مجرّد طلب القضاء يحول دون التقليد حتى ولو توفّر السائل على جميع الشروط التي تؤهله لذلك". وشاع عزوف المحسنين عليها لما تمثل من عظيم المسؤولية. ولا ينفك وكيع يذكّر بذلك مستندا إلى ما رواه أبو هريرة عن الرسول "فمن جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكّين".
ولأنّ القضاء تحوّل إلى مؤسسّة قائمة الذات كان من الضروري دعم القاضي بأعوان مساعدين كالكاتب والحاجب والترجمان ووضع صاحب الشرطة تحت تصرّفه لضبط الأمن وأهل الشورى رهن إشارته، في بعض القضايا، للمساعدة في ضبط الأحكام. وفي الأثر شروط أخرى تتعلق بلباسه ومركوبه. فتحوّل القضاء إلى جهاز من أجهزة الحكم جعل السلطة تتدخل في مظهر القاضي لتصلح ما لا يعجبها منه. ولا عجب فهو، حسب لويس ميّو "شخص مفوض ذو طابع قدسي، وله زي القضاء الشرفي، واضعا على رأسه عمامة راكبا بغلة".
ولا تتيح المراجع المتوفرة للباحثة أن تعرف هل كان القاضي يتقاضى أجرا في مرحلة الإسلام المبكر أم لا. ولكن الثابت لديها أنه تحوّل إلى مكلّف يقوم بعمله مقابل رزق يحصّله منذ خلافة عمر بن الخطاب وأنّ الأدبيات استكرهت الهدايا التي تقدم إليه دون مقابل أو شرط. واعتمادا على أخبار ابن وكيع تورد جدولا لرواتب القضاة تتفاوت مقاديرها صعودا ونزولا بين فترة وأخرى.
6 ـ القاضي في الحضارة العربية.. وبعد؟
لقد جاء كتاب الباحثة حنان بالشاوش وصفيّا تحليليا يعرض صورة القاضي في الحضارة الإسلامية من خلال مؤلف "أخبار القضاة" وكيع. فأفضى بها الاستقراء إلى الكشف عن تدرّج هذه الحضارة في الوعي بخطورة خطة القضاء. وعرضت مسار تحولاتها. ولا يغرب عن القارئ المتيقظ أن ينتبه إلى صلة الجهاز القضائي بالسياسة وبالمعارف، فتطور الفقه أسهم في تنظيم القوانين وإلى تلك الموازاة بين مسار تركيز مؤسسة القضاء ومسار تركز الدولة القائمة والإدارة الواضحة وأن يجد في تاريخ هذه المؤسسة في الحضارة العربية شيئا من تاريخ دولة الإسلام بداية من الدولة الفتية التي أسسها الرسول إلى الإمبراطورية المترامية الأطراف التي فرضها العبّاسيون. فكان القضاء يزدهر بازدهار العمران ويسوء حاله بتدهوره.
ولكن انطلاق الباحثة من كتاب واحد ضيَّقَ الأفق أمام مبحث هام. فمن شأن توسيع المدونة والبحث في الجدل الذي أثارته بعض النوازل أن يؤرّخ لرحلة تطور العقل العربي من الحياة القبلية إلى العيش في ظل الدولة ومن حياة البداوة التي تقوم على المسؤولية المعنوية وعلى الأعراف إلى المدنية التي تدعم المسؤولية المادية. ومن شأن دراسة مقارنة تنفتح على واقع العدالة اليوم في البلاد العربية أن تبرز أنّ هذه الرحلة التي لا تزال طويلة وأنّ الوصول إلى العدالة لن يتحقق إلاّ بتحقّق شرطين متلازمين هما استقلالية القضاء وضمان نزاهة القضاة بخلق جهاز رقابي صارم متولد من رحم القضاء نفسه.