أبدع الأسرى
الفلسطينيون والعرب في نسج حياة جميلة داخل
السجون الصهيونية ولو كره السجّانون،
وقد يظنّ البعض أن من يدخل السجن وينقطع عن الحياة الواسعة ليزجّ به بين جدران
زنازين ضيّقة وحركة لا تتعدّى المسافة الواقعة بين ساحة السجن والزنزانة وخلف
جدران عالية وعاتية، وتحيط به الأبواب الحديدية الثقيلة والنوافذ المقطّعة بالحديد
الغليظ، وحتى الساحة الخارجية مسقوفة بشبك حديدي متين لا ترى منه زرقة السماء
وغيومها إلا مقطّعة مشرّحة، فحالما يخرج الأسير من سجنه يسارع في النظر إلى السماء،
حيث حرم من رؤيتها قطعة واحدة طيلة فترة سجنه. قد يظنّ البعض بأنه بحكم الميّت أو
هو الأقرب إلى الموت من الحياة.
كلّ هذه الظروف
المعيشية القاسية والكئيبة لم تمنع الأسرى من اجتراح حياة فيها من البهجة والسعادة
والمرح والمزاح والنكتة، وهذا دليل على عظمة هذه الروح الساكنة في أعماقهم، والتي
تصرّ على الحياة وتنجح في إخراج تجلّياتها الجميلة، وتفتح مساحات تنطلق فيها هذه
النفوس بفسحة من السعادة والهناء. تجد نسيجا اجتماعيا طيبا وتجد حضنا دافئا يتشكّل
ويتعالى على الجدران والحديد، ويظهر من خلال تيّار يسري في القلوب فينعشها وينشر
الإيجابية والتفاؤل والأمل، ويرسم ابتسامة بديعة على وجوههم.
تجد النكات
والنهفات والألقاب والمقالب والأفلام، وتجد في كلّ غرفة من يجيد استخراج الضحكات
والقهقهات من أعماق الصدور المكبوتة ومن تحت أثقال ما تحمل من أحكام عالية
ومؤبدات. فالديناصور "عماد فاتوني" اسم على مسمّى من حيث التاريخ والفعل،
ولكنه من حيث الحجم فإنّه قليّل صغير الحجم، فكانت المفارقة الجميلة أن يلقّبه إخوانه
بالديناصور، ليبتسم كلّ من يراه عندما ينظر إلى حجمه فيقارن هذا الحجم بهذا
المسمّى "ديناصور".
الظروف المعيشية القاسية والكئيبة لم تمنع الأسرى من اجتراح حياة فيها من البهجة والسعادة والمرح والمزاح والنكتة، وهذا دليل على عظمة هذه الروح الساكنة في أعماقهم، والتي تصرّ على الحياة وتنجح في إخراج تجلّياتها الجميلة، وتفتح مساحات تنطلق فيها هذه النفوس
الديناصور
الفلسطيني ينجح في تجاوز الثلاثين سنة في باستيلات هذا العدوّ المجرم دون أن يتزحزح
قيد أنملة عن انتمائه الديني والوطني وعن مبادئه ومواقفه التي سُجن من أجلها. ونحن
هنا لا نتحدّث عن رقم عاديّ رغم أن هذه الأرقام أصبحت عاديّة في الواقع الفلسطيني
المرّ.. لم تضعف عزائمه، بل بقي راسخا ثابتا كالجبال. في الحبسة الأولى كان بناء
الذات الثورية وكانت حبسة قوامها سنة لمزيد من الإعداد والتأهيل النفسي، فخرج منها
لينضم مباشرة إلى العمل العسكري وليشارك بكل ما أوتي من قوّة وجهد.
اعتقل وحكم
ثلاثين سنة فما وهن وما ضعف وهو يمخر عباب هذه السنوات الثقال، بل كان محرّكا
للروح الثائرة وحاديا لمسيرتها ومعول بناء للنفوس الأبيّة، تمكن مع من كانوا معه
ليحوّلوا السجون إلى أكاديميات سياسية وعسكرية بمنهجيّة عالية.
الديناصور
الفلسطيني يمكث في السجن ثلاثين سنة وهو يبني وينجز، يدفع باتجاه أن تكون الكفاءات
فريق عمل منظّم وممنهج لتسير المسيرة الثقافية والاجتماعية والإدارية وحياة السجن
بشكل عام نحو الأمام، ونحو أن لا يكون وقت السجن عدوّا بل صديقا وحقل استثمار يحسن
الأسرى استثماره وتحويله من موقع عقوبة وقتل للروح إلى موقع صناعة للرجال ومعقل
للأحرار.
الديناصور
الفلسطيني كما يصنع الحياة داخل سجنه فإنه نجح أيضا في صناعة الحياة خارج السجن،
فنجح في تحرير نطفة صارت سفيرا من سفراء الحريّة. وهذا عمل عظيم لم يسبق فيه الأسير
الفلسطيني أحد.
لقد أثبت الأسير
الفذّ عماد فاتوني بأن كلّ أسير من أسرانا الأحرار يجب أن لا يكون أبدا مجرّد رقم
كما يريده السجّان أو أنه كائن يذوي ويتلاشى تحت سياطهم وفي مخالبهم، بل هو
ديناصور يستعصي على سياسة القتل الممنهجة ويُخرج من عمق الجدران الإسمنتية الغليظة
والمسلّحة بالحديد من كلّ جانب، حياة عظيمة بروحه الحرّة العزيزة الكريمة العالية.