ظل مبنى وزارة الداخلية
المصرية وسط مدينة
القاهرة، وبداخله "جهاز أمن الدولة" السابق، والمعروف باسم "سلخانة
لاظوغلي"، أو "غوانتانامو مصر"، المقر الأبشع لانتزاع الاعترافات
والتعذيب والتنكيل في أغلب القضايا السياسية، لتأتي نهاية المبنى بعد نحو 211 عاما
من التاريخ الأسود.
ذلك المبنى الذي يقع بأحد أشهر ميادين القاهرة،
على مساحة ضخمة قرب "ميدان التحرير" الأشهر بالعاصمة المصرية القاهرة،
طالته يد "الصندوق السيادي" المصري، الذي آلت إليه أغلب مباني القاهرة
التاريخية والتراثية ومباني الوزارات والهيئات التي جرى نقلها للعاصمة الإدارية
الجديدة.
وصار مبنى "لاظوغلي"، ضمن مبان هامة
مثل "الكلية الحربية"، و"كلية الشرطة"، و"مجمع
التحرير"، و"الحزب الوطني" وبعض الهيئات والوزارات وغيرها، رهن
تصرف الصندوق إما بالبيع أو التطوير والتأجير، وذلك رغم ما أثير عن تحويل المبنى
إلى متحف تاريخي وتسليمه لوزارة "الآثار"، إثر نقل مقر وزارة الداخلية
منه إلى شرق القاهرة عام 2016.
"من سلخانة لمنطقة ابتكار"
وأُعلن الثلاثاء الماضي، عن تعاقد صندوق مصر
السيادي مع شركة "إيه ديفلوبمنتس"، لتطوير المشروعات العقارية،
لبدء المرحلة الأولى من تطوير مبنى المقر القديم لوزارة الداخلية في آيار/ مايو
المقبل، باستثمارات 150مليون جنيه، من بين 3 مراحل تتكلف جميعها 800 مليون جنيه
وتنتهي عام 2025.
اظهار أخبار متعلقة
وتشمل خطة تطوير المبنى تحويل مقر الوزارة إلى
أول منطقة معنية بالابتكار وريادة الأعمال لتضم محلات تجارية، ومكاتب إدارية، وفرعا
لإحدى الجامعات الفرنسية (جامعة إيباج لإدارة الأعمال)، ومركزا عالميا لخدمات
التعهيد، وفندقا سياحيا.
"الداخل مفقود"
مهندس مصري خمسيني يعمل الآن بمركز مرموق في
قطاع حكومي، بمجرد محادثته عن تطوير مبنى لاظوغلي، أثار الأمر سخريته، رغم أنه
استذكر الأحداث الأليمة التي رافقت المكان.
وبعد تردد في الحديث عن ذكرياته مع "سلخانة
لاظوغلي"، قال لـ"عربي21"، إنه ينطبق عليه المثل القائل
"الداخل مفقود"، موضحا أنه جرى اعتقاله ليلا من المدينة الجامعية عام
1991، بعد مشاركته في مظاهرات بجامعة القاهرة، ليدخل أول مرة مبنى لاظوغلي.
وأضاف: "دخلته معصوب العينين وخرجت منه
بنفس الحالة"، مشيرا إلى أنه وزملاءه تعرضوا للتعذيب "بداية من السب
بأبشع الألفاظ والضرب في جميع الجسد، والسحل، ومنع الطعام"، موضحا أن
"الأشد قسوة كان هو سماع أنين لا ينقطع، ما كان يوحي بأن الدور قادم لا محالة".
ولفت إلى أن "الصعق بالكهرباء والتعليق من
الأرجل والأيدي في الأسقف كان من نصيب الإسلاميين وخاصة من الجماعة الإسلامية،
وكذلك الشيوعيين، وجميعهم كانوا أكثر تعذيبا من الطلاب، الذين كانوا على الأغلب
يقضون أقصى فترة وهي 45 يوما"، مبينا أنه لم ير وجوه من عذبوه ولكن صوتهم
ما زال يتردد في أذنيه، وفق تعبيره.
"مقبرة الأحياء"
وفي شهادته، قال السياسي والصحفي المصري خالد
الشريف، إن "مبنى وزارة الداخلية كان يطلق عليه في زمن
مبارك (بيت الأصنام)،
فهو المبنى الذي شهد حالات
التعذيب البشعة، وانتهاك آدمية مصريين طوال عقود ممتدة،
وكم مات فيه الشباب من وطأة التعذيب، فهو سيء السمعة بكل المقاييس ورمز للظلم
والطغيان".
القيادي في حزب "البناء والتنمية"
المصري، أضاف في حديثه لـ"عربي21": "لي معه ذكريات بشعة مثلي مثل
كثير من الأحرار الذين عانوا من الاعتقالات والتعذيب في عهد مبارك، وكان الدور
الرابع تحديدا مركزا للتعذيب".
وأوضح أنه "عام 1990، تم تعذيبي طوال 13
يوما بعد اختطافي من سجن الاستقبال (في مجمع سجون طرة)، وظللت معلقا من يداي،
محروما من النوم، فضلا عن التعذيب بالكهرباء والضرب".
ووصف الشريف، تلك الأيام بأنها "عصيبة؛
ولكن كان هناك هامش من الحرية فانتفض زملائي بنقابة الصحفيين، وعلى رأسهم النقيب،
وتم الإفراج عني بعد أن عشت أهوال التعذيب في مقبرة الأحياء بلاظوغلي".
ويرى أن "تأجير أو بيع هذا المبنى
التاريخي الشاهد على تغيب وقتل المصريين هو محاولة لتبييض سمعة الطغيان، ومحاولة
لبيع مصر أيضا بالجملة والقطاع للوبي الصهيوني".
وختم حديثه بالقول: "مصر تباع الآن، ويجب
على جميع الأحرار أن يقفوا ضد بيع الأصول المصرية وعلى رأسها مقرات الوزارات".
"حكاية لاظوغلي"
البداية كانت من "ديوان الوالي"،
الذي أنشأه محمد علي باشا، عام 1805، والذي سيطر من خلاله على أرجاء القاهرة،
ليتحول الديوان إلى "نظارة الداخلية"، في عهد الخديوي سعيد عام 1857، ثم
إلى وزارة يرأسها تحسين باشا رشدي، أول وزير داخلية بتاريخ مصر.
كان لتلك المنطقة من القاهرة سمعة طيبة خاصة
وأنها حملت في بداية عهد محمد علي باشا، اسم "ميدان الدواوين"، كما ذكر
علي باشا مبارك، في كتابه "الخطط التوفيقية"؛ إلا أن تلك السمعة تلوثت
لاحقا، إذ استخدم الباشا، تلك المنطقة كنقطة انطلاق لتأديب كل من خالفه الرأي.
وتحولت المنطقة إلى اسم "لاظوغلي"،
في عهد الخديوي إسماعيل (1830- 1895)، الذي قرر إطلاق اسم "محمد لاظوغلي
باشا" على أحد ميادين القاهرة، ووضع تمثالا يحمل هيئته عام 1872، كونه كان
رئيسا لوزراء والده، محمد علي باشا منذ عام 1808، ولمدة 15 عاما.
الرجل الذي جاء مع محمد علي، عقب الحملة
الفرنسية (1798- 1801)، كان صاحب فكرة "مذبحة القلعة" التي ارتكبها محمد
علي، عام 1805، ليتخلص نهائيا من المماليك بقتل نحو ألف أمير وجندي وكشاف ومملوك.
وفيما يبدو أنه كان من سوء الطالع أن يوضع تمثال
"لاظوغلي" صاحب إحدى أبشع المذابح البشرية في التاريخ الحديث
"مذبحة القلعة"، بهذه المنطقة التي تحولت إلى مسلخ بشري بحق المصريين
لاحقا.
"مذبحة القلعة وسلخانة مبارك"
ومع وجود جهاز "مباحث أمن الدولة" في
عهد الرئيس أنور السادات، والرئيس حسني مبارك، بها، ارتبط اسم "لاظوغلي"
بجرائم الإخفاء القسري والاعتقال والتعذيب بحق الطلاب والعمال والسياسيين
والمعارضين، والذين ظل حلم الخلاص من ذلك المبنى أملا لهم.
وفي هذا الإطار، كان أول تهديد
لـ"لاظوغلي"، هي انتفاضة المصريين ضد قرارات السادات، برفع الأسعار، في
كانون الثاني/ يناير 1977، أو ما أطلقوا عليه اسم "انتفاضة الحرامية"
بعد اكتشافهم تجمعات شعبية تخطط لاقتحام وزارة الداخلية وسلخانة أمن الدولة بشكل
خاص.
وفي عهد مبارك، شهدت القاهرة في حزيران/ يونيو
2005، مظاهرة نادرة في ميدان "لاظوغلي" ضد انتهاكات "جهاز أمن
الدولة"، لكن التحصينات القوية للمبنى منعت وصول المتظاهرين.
تلك المظاهرة، كانت نذير خطر كبير على نظام
مبارك ومؤشرا على قرب نهايته، وإشارة إلى أن ذلك المبنى هو الهدف الأهم لدى
الغاضبين من سياسات مبارك ووزير داخليته لاحقا حبيب العادلي، الذي كرس جهوده في
تدشين أبنية ومقرات جديدة للجهاز بجميع المحافظات، أخطرها مقر "مدينة
نصر" شرق القاهرة.
لكن، ومع ذلك ظل "لاظوغلي" مقرا
لأخطر جرائم التعذيب والانتهاكات بحق حقوق الإنسان، وسيف السلطة المسلط على رقاب
كل من يعارض نظام حسني مبارك.
تلك الجرائم دفعت عشرات النشطاء والمتظاهرين
لاجتياح مقرات ومباني جهاز أمن الدولة خلال ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011،
والتي كان من مطالبها تصفية جهاز أمن الدولة ومحاكمة قادته، ليتم تغيير اسمه لاحقا
إلى اسم "جهاز الأمن الوطني".
وعلى الرغم من اقتحام مقرات "جهاز أمن
الدولة"، بمدينة نصر بالقاهرة، والسادس من أكتوبر بالجيزة، وبمحافظات
الإسكندرية، والشرقية، ومطروح، إلا أنه لم يتمكن أحد من الاقتراب من مبنى
"لاظوغلي" المحصن بالكتل الخرسانية وحماية الجيش حينها.
اظهار أخبار متعلقة
ليظل "لاظوغلي"، قلعة البطش الحصينة
الحافظة لملفاتها السرية، ولمبانيها المرعبة بعيدا عن الكاميرات ووسائل الإعلام،
التي نقلت من مبان أخرى وخاصة بمدينة نصر، صورة الزنازين الضيقة وآثار التعذيب،
وآلاف المستندات المحترقة والممزقة.
لكن "لاظوغلي" الذي أرعب المصريين
مدة 3 عقود خلال حكم مبارك، وخاصة بسنوات وزير داخليته الأخير حبيب العادلي، ظل
هدف النشطاء والصحافة، ما دفع القوات المسلحة التي تسلمت المبنى كغيره من آلاف
المباني بالقاهرة يوم 28 كانون الثاني/ يناير 2011، للسماح لـ12 شخصا بدخوله في
حضور النيابة العامة دون هواتفهم أو تصويره.
ووفق مشاهدات صحيفة "المصري اليوم"،
في آذار/ مارس 2011، بمقر مباحث أمن الدولة في "لاظوغلي"، فإنه يتكون من
مبنيين أحدهما يحتوي على الوثائق، وسجن مغلق من 3 أدوار تحت الأرض، وزنازين عبارة عن
قبور خرسانية نحو مترين، والمبنى الآخر، يضم مكاتب إدارية، وسجنين فوق وتحت الأرض.
فيما أشارت الصحيفة إلى حجم أكوام الورق
المفروم التي كانت تملأ مقر الجهاز لإخفاء أنشطته وممارساته، ولفتت إلى ما سجله
المعتقلون من كتابات على جدران الزنازين.
وأكدت على "غلبة الطابع الإسلامي على تلك
الكتابات، التي حفلت بآيات قرآنية وأقوال مأثورة عن الظلم وعاقبة الظالمين،
كـ(دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة)، ورسائل كتبها المعتقلون لمن
سيأتون بعدهم تدعوهم إلى الثبات والصبر".
"لاظوغلي في الصندوق"
منذ ذلك الحين، توارت أدوار
"لاظوغلي"، إلى حد ما، خاصة خلال عام حكم الرئيس محمد مرسي، (2012-
2013)، حتى جرى نقل مقر وزارة الداخلية إلى منطقة التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة
شرق العاصمة في 25 نيسان/ إبريل 2016.
وذلك على الرغم من تشييد مبنى ضخم لوزارة
الداخلية في حي الوزارات بالعاصمة الإدارية الجديدة التي يبنيها رئيس النظام
عبدالفتاح السيسي، ليصبح لوزارة الداخلية وأجهزتها الأمنية 3 مقرات.
وفي نيسان/ إبريل 2016، ناشد الكاتب عبد الرحمن
فهمي، بموقع "المصري اليوم"، الحكومة لهدم مبنى "لاظوغلي"،
وتحويل الأرض إلى حدائق، إنقاذا للقاهرة من التكدس المروري، مع دعوات أخرى
بجعله متحفا مفتوحا للمصريين.
وبالفعل؛ وفي تموز/ يوليو 2016، حسمت إدارة
الأملاك بمحافظة القاهرة ملكية أرض مبنى وزارة الداخلية القديم بمنطقة لاظوغلي لصالح المحافظة، وأصبح يحق لها التصرف فيها، لكن الأمر لم يصمد طويلا وجرى لاحقا
ضم المبنى وغيره من مباني الوزارات إلى "الصندوق السيادي".
وفي 3 أيلول/ سبتمبر 2020، نشرت الجريدة
الرسمية المصرية قرار السيسي، (رقم 459)، القاضي بزوال صفة النفع العام عن أرض
"الحزب الوطني"، ومبنى "مجمع التحرير"، وأرض المقر الإداري
لوزارة الداخلية "المبنى القديم" وملحقاته، وذلك إلى جانب مبان أخرى
بالقاهرة والجيزة ومحافظة الغربية.
وجاء القرار معلنا عن نقل ملكية تلك المباني
التراثية والهامة لـ"صندوق مصر السيادي"، الذي أسسه السيسي، عام 2018،
بهدف استغلال الأصول والشركات العامة غير المستغلة بعد نقل ملكيتها إليه.
اظهار أخبار متعلقة
متحدثان لـ"عربي21"، أجمعا في
تعليقهما على مفارقة تحويل المبنى سيء السمعة إلى مراكز تجارية ومالية وتكنولوجية
وجامعة فرنسية وفندق، على أهمية انتهاء جريمة التعذيب من سجل مقرات الأمن
المصرية، ومنح الشعب المصري حقه في الحرية والعيش دون خوف من البطش الأمني، مؤكدين
أن لاظوغلي لم يفلت من بطشه أغلب الإسلاميين والشيوعيين.
الكاتب الصحفي سمير العركي، قال
لـ"عربي21"، إن "الأهم من تحويل مقر أمني إلى مبنى خدمي أو ترفيهي
لأسباب اقتصادية هو اختفاء ثقافة التعذيب من حياة الشعب المصري".
وأضاف: "فليس ثمة فائدة ستعود على
المصريين من هدم مبنى في المنطقة (أ) لينتقل التعذيب إلى مبنى آخر في المنطقة (ب)".
وأعرب عن أمنيته في أن "يكون ذلك التطوير
(في لاظوغلي) مقدمة لتطوير إنساني أكبر يقضي على ثقافة التعذيب، ويحترم حقوق
الإنسان، حتى ولو كان موقوفا متهما في أي قضية".
"إزالة الطغيان"
وفي السياق، قال السياسي المصري عادل الشريف:
"الحقيقة أنه ما ينبغي أن يعنينا تداول الأمكنة بقدر ما يعنينا إزالة الطغيان
نفسه والتحرر من ظلمه وظلماته"، مبينا أنه "هنا سيكون عهد جديد على كل
حبة رمل في أوطاننا".
القيادي بحزب "العمل الجديد" أكد
لـ"عربي21"، أن "السلطات التي توالت على لاظوغلي كلها (ذرية بعضها
من بعض)، وكلها أنظمة حقيرة مستبدة"، مستثنيا عام حكم الرئيس محمد مرسي.
وأشار إلى أن "سلطة مرسي لم تمكث حتى
تتمكن من التغيير"، وموضحا أن "لاظوغلي ربما شهد منذ ثورة يناير 2011،
وحتى انقلاب 2013، تهدئة بهذه الفترة فقط".
وأكد أن هناك الكثيرين ممن جرى تعذيبهم في
سلخانة لاظوغلي، يعرف بعضهم بالاسم، لكنه فضل عدم ذكر أسمائهم، حتى لا يطالهم أي
ضرر، مبينا أنه جرى اعتقاله "في سلخانة وزارة الداخلية الجديدة بالحي السادس
بمدينة نصر".
ومن أشهر من قضوا تحت التعذيب في لاظوغلي،
القيادي في الجماعة الإسلامية والمحامي المصري عبد الحارث مدني، الذي مات من شدة التعذيب
بعد نحو ساعتين من اعتقاله في نيسان/ أبريل 1994، في عهد الرئيس محمد حسني مبارك،
في واقعة أخفتها السلطات الأمنية مدة شهرين ما أجج غضب المحامين المصريين ودفعهم
لتنظيم مظاهرة من النقابة إلى قصر عابدين واجهها الأمن المصري بالقمع.