لم يكن انقلاب الجيش بقيادة الفريق "عبد الفتاح
البرهان"، ضد
الرئيس
السوداني المخلوع "عمر حسن البشير"، عام 2019، بشيء جديد أو
مستغرب على دولة السودان، فتاريخ السودان منذ أن انفصل عن مصر بعد زوال الحكم
الملكي في مصر الذي كان ينطوي تحت تاجه وقيام انقلاب مصر عام 1952، وحصوله على
استقلاله قانونياً في الأول من يناير عام 1956، حافلاً بالانقلابات العسكرية والتي
تعكس دائماً صراعاً على السلطة، ككل الانقلابات العسكرية في عالمنا العربي والأفريقي..
لقد شهد السودان العديد من الانقلابات العسكرية، كان من نتيجتها أخذ البلاد
إلى الحكم العسكري الصرف، حيث تولى العسكريون السلطة لأكثر من 58 سنة، أي بما
يعادل ما يقرب من 90 في المئة من سنوات استقلالها، تخللتها فترات انتقالية عابرة
بين العسكر ومجالس سيادة قصيرة العمر تتراوح بين عام واحد وأربعة أعوام!
كان أول هذه الانقلابات بعد عام واحد من الاستقلال وتشكيل أول حكومة وطنية
برئاسة "إسماعيل الأزهري"، الذي أعلن مولد جمهورية السودان الديمقراطية
المستقلة أمام البرلمان، ولكن الأزهري استطاع مواجهته وإحباطه ففشل الانقلاب. ولم
يهدأ الجيش ويستكين بل عاود الانقلاب مرة أخرى بعد عام وقاده الفريق "إبراهيم
عبود" عام 1958، وتمكن من الاستيلاء على السلطة وإقصاء حكومة الأزهري المدنية،
واستمر حكم الديكتاتور "عبود" الذي حكم السودان بالحديد والنار إلى أن
أسقطه الشعب السوداني في ثورة شعبية في عام 1964، تولى بعدها "سر الختم
الخليفة الحسن" رئاسة الحكومة الانتقالية، تلتها حكومة الصادق المهدي عام
1966، والتي لم تستمر أكثر من عام؛ حيث قام الفريق "جعفر النميري" بانقلاب
عسكري ضده واستولى على السلطة. ولقد نجح الطاغية "النميري" في الإفلات
من أربعة انقلابات عسكرية متوالية أعوام 1971، و1973، و1975، و1976، إلى أن قام
الجيش السوداني بقيادة الفريق "عبد الرحمن سوار الذهب"، وزير الدفاع
ورئيس أركان الجيش السوداني بانقلاب ضده، وتم عزله تماماً تزامناً مع عصيان مدني
شامل اجتاح كل البلاد..
ووعد "سوار الذهب" بإدارة مرحلة انتقالية لمدة عام واحد فقط، إلى
أن تستقر الأوضاع في البلاد ويسلم حكم السودان إلى القوى المدنية لينتخب الشعب مَن
يريده، وأوفى الرجل بوعده وسلم بعدها السلطة ومقاليد الحكم لحكومة مدنية، وتنحى
طواعية ليكتب اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ الانقلابات العربية، حيث تعد سابقة هي
الأولى من نوعها في عالمنا العربي، إذ لم يسبق لحاكم عسكري عربي أن سلم السلطة
طواعية لحاكم آخر مدني..
تسلم السلطة زعيم حزب الأمة "الصادق المهدي"، عام 1986، ولم
يستمر في الحكم أكثر من ثلاثة أعوام إذ قاد المشير "عمر حسن البشير" انقلاباً
عسكرياً ضده عام 1989، وعزله وأقصى حكومته ليتولى هو حكم السودان.
ولقد نجا الطاغية "البشير" من محاولتي انقلاب عسكري ضده قبل
إطاحة الجيش به في نيسان/ أبريل عام 2019، بعدما استمرت انتفاضة الشعب السوداني
ضده ما يقرب من خمسة أشهر، وتولى الفريق "عبد الفتاح البرهان" رئاسة ما
سمي بـ"المجلس السيادة الانتقالي" و"محمد حمدان دقلو" الملقب
بـ"
حميدتي" نائباً، وقد أعلن المجلس عن إحباط محاولتي انقلاب عسكري عام
2021، والقبض على الضباط المتمردين..
كان واضحاً منذ إنشاء "المجلس السيادي الانتقالي" بجناحيه
العسكريين أن هنالك صراعاً كامناً تحت الرماد بين طرفي الانقلاب سيشتعل، حينما تحين
له الفرصة أو الظروف المواتية، وأعد كل منهما العدة لتلك اللحظة الحاسمة لينقضّ
على الآخر ويقضي عليه لينفرد هو بالسلطة وحكم السودان. ولهذا لجأ كلا الطرفين
المتصارعين إلى دول إقليمية ودولية تدعمه، فكانت دولتا الإمارات وإثيوبيا والكيان
الصهيوني من نصيب "حميدتي"، ومصر والسعودية أكبر الداعمين للبرهان الذي
لم يفقد الأمل في تحويل البوصلة الصهيونية تجاهه والوقوف معه في معركته مع
"حميدتي".
فالرجل لم تنقطع صلته وتودده للكيان الصهيوني، فبينهما علاقات قديمة وحديثة
أيضا، فقد سبق للبرهان عندما تولى الاستخبارات العسكرية السودانية أن أعاد نشاط
مكتب الموساد السري في الخرطوم الذي كان فاعلا في نهاية فترة النميري، وتم من
خلاله نقل اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى فلسطين المحتلة، كما مكنه من القيام
بغارات على السودان لضرب مراكز صناعية لحماس في فترة البشير..
أما حديثاً وبعد انقلابه فحدث ولا حرج، فقد سعى البرهان لتثبيت حكمه من خلال
التقرب إلى الكيان الصهيوني، فهو يدرك تماماً أنه الداعم الأساسي لأنظمة الحكم في
العالم العربي، ولولا رضاؤه عن الحكام العرب ما وصلوا قط إلى سدة الحكم، وما مكثوا
لحظة على كرسي العرش. وقد سعى للقاء رئيس وزراء الكيان الصهيوني "بنيامين نتنياهو"
في أوغندا عام 2020، بترتيب من دولة الإمارات التي تلعب دور الوسيط لتضم السودان
إلى اتفاقيات "أبراهام" التطبيعية، واتفقا على بدء حوار من أجل تطبيع
العلاقات بين السودان ودولة الاحتلال، ووصف نتنياهو اللقاء بأنه لقاء "تاريخي"!!
وبعد أن أخذ البرهان بركاته من أبو ظبي والدعم الكامل من الكيان الصهيوني، زار
وفد من كبار ضباط الجيش السوداني دولة الاحتلال قبل أسبوعين من قيام البرهان بانقلابه
الثاني الذي أطاح فيه بحكومة "حمدوك" عام 2021. ومما يؤكد هذا ما ذكره
موقع "والا" العبري، من أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن طلبت من تل
أبيب استغلال علاقاتها المتميزة مع الجنرال "البرهان"، لكي يعيد حمدوك
ووزارته ويطلق سراح المعتقلين..
وجدير بالذكر أن جميع الحكومات الغربية أدانت الانقلاب العسكري، لكن الكيان
الصهيوني لم يمش في ركابها، ما أعطى انطباعا بأن قادته يدعمون انقلاب البرهان..
ولقد زار الخرطوم أيضا وفد من الموساد عقب الانقلاب واجتمع مع نائب المجلس
العسكري "حميدتي"، وتوافد عليها بعد ذلك الكثير من المسؤولين والشخصيات
الصهيونية من مدنيين ورجال مخابرات، كان آخرها زيارة وزير خارجية الكيان الصهيوني
"إيلي كوهين"، منذ حوالي شهرين، والذي أعلن بعد اجتماعه مع البرهان أن "السودان
وافق على تطبيع العلاقات مع إسرائيل وأنهما سيوقعان اتفاق سلام في واشنطن في غصون
أشهر"، وكان قد سبقه لزيارة الخرطوم العام الماضي، وزير الخارجية السابق،
وقال متهكماً: اليوم فيه صلح واعتراف وتفاوض، إيحاءً أو كما يقال شعبياً "تلقيح"
على اللاءات الثلاثة "لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض" مع الكيان الصهيوني،
التي انطلقت من الخرطوم عقب اجتماع القمة العربية عام 1967 بعد هزيمة حزيران/
يونيو..
إنه لشيء مؤسف ومشين حقاً أن يكون جيش السودان، بلد اللاءات الثلاثة، هو
الصديق والحليف والعقل المدبر لحكم العسكر!!
وكما نرى فإن الكيان الصهيوني يلعب على الطرفين، فهما مجرد أدوات يستخدمهما
لينفذ مخططه الشيطاني لزرع الفتن في البلاد وصولاً لتقسيم الشمال السوداني، كما
نجح من قبل في الجنوب، فقد لعب دوراً خبيئاً وقذراً في مساندة انفصال جنوب السودان
عن شماله، لتمتد رياح التقسيم إلى ليبيا واليمن وباقي البلاد العربية!!
وكان طبيعياً ألا يترك "حميدتي" الساحة لبرهان ليلعب فيها بمفرده
ويستفرد بالصهاينة وحده، فأرسل بسرعة شقيقه عبد الرحيم ومستشاره "يوسف عزت"
إلى الكيان الصهيوني لمساندته عسكرياً وسياسياً، كما أشارت وكالات الأنباء..
يدرك الكيان الصهيوني أهمية دولة السودان جغرافياً ويعلم ما لديها من ثروات
طبيعية هائلة، ويدرك أهمية أن يظل تحت الحكم العسكري لحدوث التطبيع وتوقيع اتفاقيات
أبراهام، وأن وصول المدنيين للحكم قد يعرقل التوقيع رغم اختراقه لبعض الشخصيات في
القوى المدنية داخل قوى الحرية والتغيير، فالأفضل لها هو تعطيل نقل السلطة إلى
القوى المدنية التي تعترض على التطبيع تمشياً مع المناخ العام للشعب السوداني الذي
يرفض بشدة التطبيع مع الكيان الصهيوني..
ولهذا سيبقى
الصراع الدموي بين قطبي الانقلاب مستمراً وساعراً ليحرق الأخضر
واليابس وتعم الفوضى في البلاد ويكون الشعب السوداني ضحيته، إلى أن يقضي أحدهما
على الآخر، فالمعركة بينهما صفرية لا رجعة فيها ولا تفاوض ولا مناصفة في الحكم كما
كان في السابق، فإما منتصر وإما مهزوم، يُصبح فيها إما مقتولاً أو مطارداً يهيم
على وجهه في أرض الله، والتي من المؤكد ستكون الإمارات إذا انهزم حميدتي أو مصر
إذا انهزم البرهان!
twitter.com/amiraaboelfetou