"محمد منير" في ذكراه!

لا أنسى محمد منير، لكي أتذكره، فهو يعيش معي منذ أن أستيقظ من نومي، ولهذا لم أنتبه إلى ذكرى وفاته الثالثة (13 تموز/ يوليو 2020)، إلا من خلال تذكير الأصدقاء بهذه الذكرى الحزينة، عبر منصات التواصل الاجتماعي!

عندما أذهب لصناعة قهوة الصباح، أهتف "الله يرحمك يا منير"، هكذا بدون أي ألقاب أخرى أسبق بها اسمه، فلا أذكره مسبوقاً بشيء منها إذا تحدثت عنه مثل لقب "المرحوم" ونحو ذلك. فلا زلت أتذكر الأيام التي قضيتها في بداية غربتي، التي لم تكن على البال أو الخاطر، وأنا أتصل به لعدة أيام ليعلمني كيف أصنعها، وهو الماهر في أعمال المطبخ جميعها، بينما أنا أعاني من أخطاء تربية الابن الوحيد، إذا كان هذا الابن ذكراً، وكان الذكر في الصعيد (أميل لتفسير أن الولد في القرآن الكريم يقصد به كل مولود بغض النظر عن نوعه)!

من سمات منير أنه "طويل البال" في مسألة التعليم، وقد ظللنا أياماً طويلة يعلمنا خطوة خطوة، وفي كل مرة تفسد التجربة، وعندما يئست ولم ييأس، قال إنه لا فائدة إلا أن يزورني في الدوحة لتعليمي عملياً، لكن من التجارب المعملية تمكنت من الأمر إلى حد ما، فكثرة البكاء تعلم النوح كما يقولون!

لم أعرف محمد منير في مرحلة مبكرة من وصولي للقاهرة، وهي مسقط رأسه هو، أو من بداية عمل كلينا في الصحافة، فالصداقة بدأت منذ ربع قرن فقط، كان هو يعمل في "الأهالي" منبر اليسار، بينما أعمل أنا في "الأحرار" منبر اليمين، وحدث أن دخل صديق لي يعمل في "الأهالي" في مشكلة مع الإدارة، ولم يكن قد تم تعيينه، وأعلن الزميل الإضراب في مقر الجريدة، وعندما اتصل بي الصديق ليخبرني بالأمر، أخذ منه منير الهاتف ليهمس لي بأن الزميل يضر بموقفه بما يفعل، في حين أنه حصل على وعد من رئيس مجلس الإدارة الذي كان خارج القاهرة بمناقشة الأمر حال عودته، على أن يفك الاعتصام، ونصحني بالقدوم لإقناعه بذلك، حتى لا يعطيهم فرصة للتربص به، لا سيما وأن رئيس التحرير "نبيل زكي" في مكتبه مستاء مما يجري!

كان منير يتحدث كأب أو أخ أكبر للزميل الشاب، وكان في هذا الوقت يشغل موقع عضو مجلس إدارة "الأهالي" عن العاملين بالانتخاب، وفي "الأهالي" أمكنني أن أتعرف على محمد منير عن قرب، وكنت وقتئذ أعرف شقيقه الصحفي أيضاً "حازم منير"!

أزمة مع وزير الصحة

بعد هذا الموقف بأيام اتصل بي الشقيقان "محمد" و"حازم" لينقلا لي أزمتهما مع مدير مستشفى تعامل معهما بجلافة وهما يحملان ابنة أحدهما للطوارئ، كان محمد منير هو المحرر الطبي لـ"الأهالي" ومندوبها بوزارة الصحة، وفي اليوم التالي كان هذا التعنت من جانب مدير المستشفى موضوعاً لزاويتي اليومية في "الأحرار"، وقامت قيامة وزير الصحة حينذاك الدكتور إسماعيل سلام، الذي دعا محمد منير لمكتبه، وكان الوزير ابن بلد، فاتصل بمدير المستشفى ووبخه ثم أصدر قراره بنقله، فلما فرغ من هذا، راع منير أن الوزير مهتم في هذا الجو المشحون بـ"من أبلغ فيكما سليم عزوز، أنت أم حازم؟"، وضحك منير بكل قدرته على تحويل أقسى المواقف إلى فكاهة تليق بهيلمانه الجسدي، وهو يدخل مع الوزير في مقايضة؛ أن يعرف ما هي مشكلته مع "عزوز" مقابل أن يخبره بمن اتصل به فيهما وأخبره بالأزمة مع المستشفى.

وقد اعترف صاحبي على نفسه، ولم يوف الوزير بالوعد وخرج منير من مكتبه ليسألني: ماذا بينك وبين إسماعيل سلام؟ وهو مستغرق في الضحك لأن يختزل الوزير المشكلة في من أبلغني بالواقعة، أكثر من انشغاله بالواقعة نفسها!

كنت أكتب ضد "الحفاوة" من جانب الوزارة برجل الأعمال ذائع الصيت رامي لكح، والذي منحوه عملية بناء مستشفيات اليوم الواحد على مستوى الجمهورية بالأمر المباشر، ولم أعرف أن رامي تربطه علاقات ود بمحرري وزارة الصحة، وكان سخياً مع كثيرين، لكن منير لم يكن منهم، ولم يستفد منه ولو علبة شوكولاتة، طلبها منه في فترة هروب رامي من مصر، بعد إلحاح مبالغ فيه من رامي عندما التقيته في مدينة الضباب ذات شتاء!

بعد موقف الوزير هذا بدا كل منا كما لو كان يبحث عن صديقه وقد عثر عليه، ومنذ هذا الوقت كان بيننا اتصال يومي صباح كل يوم، وقد نختتم اليوم بلقاء في كافتيريا نقابة الصحفيين، ثم ننتقل إلى مقاهي وسط القاهرة، وقد يصحبني مساء في سيارته إلى حواري لم أكن أعرفها، لكنه يحفظها كاسمه، فهذا المكان يوجد فيه أحسن محل في القاهرة لبيع البسبوسة، وهذا فيه أفضل من يبيع المخلل، أما هذا ففيه أفضل من يبيع الجبنة الرومي، وهكذا!

وكان يساعده على هذا قدرته على قيادة السيارة في أضيق الشوارع وأكثرها ازدحاماً، مع أن سيارته القديمة ليس فيها من الإمكانيات ما يساعد على قبول هذه المغامرات، لكن يكفي أن تكون مع منير ولو في أتعس المناطق وأضيق الشوارع!

الشهم أبداً:

إنه حكّاء، لديه مخزون من الذكريات، ويتمتع بخفة الظل وهو يرويها، وقبل هذا وبعده هو ابن بلد، شهم، وصاحب صاحبه، ويعرف الأصول، فإذا غضب فأنت أمام طفل كبير، يغضب على أحد الرفاق، فتقول إنه لن يتحدث معه أبداً، وعندما يطلبه من اختلف معه أن يقف معه في موقف نقابي أو ما إلى ذلك، يناصره بكل قوة، ويتولى ليقنعني بضرورة أن أنحاز له في نصرته، وكان هذا مفيداً لأمد حبل الجدل معه.

- لقد أساء لك من قبل؟

- من قال لك هذا؟

- أنت؟

- وأنا أقول لك إنه لم يسئ إلي.

- كيف تقول لي من قبل إنه أساء لك فأصدقك، وتقول لي الآن إنه لم يسئ ويكون مطلوباً مني أن أصدقك؟

- لأنك صديقي ولا بد أن تصدقني!

- أنت عاطفي يا منير!

- أنا برميل عواطف!

كنت أقول له إنك لو كتبت بروحك التي تتحدث بها، لصرت أفضل كاتب ساخر في الوطن العربي!

- ومن قال لك إنني أريد أن أكون أفضل كاتب في الوطن العربي؟!

في تقديري أن عدم مصاحبة هذه الروح له في الكتابة يعود للأيديولوجيا. ومنير ماركسي متقاعد، اشترك في تنظيمات يسارية، وله تجارب عدة مع الاعتقال، يتحدث عنها بفكاهة، ولا ينسى شخصية والده الذي كان غير مبال بنشاطه السياسي هو وشقيقه حازم!

داهم البوليس ذات مرة منزلهم في زمن الشباب، بينما الوالد رحمه الله رحمة واسعة يجلس في مدخل الشقة في الصالة يشاهد فيلما قديماً يعرضه التلفزيون، ومن جلسته غير المكترثة بالضيوف يسألهم: تريدون محمد أم حازم؟ ولا ينتظر إجابتهم؛ إن أردتم محمد في الحجرة اليمين، أما حازم ففي الحجرة على يدك الشمال!

ويُدهش الأمر ضابط المأمورية، فيطلب من محمد منير أن يجلس بجواره في "كابينة السيارة" وليس مع المقبوض عليهم في الخلف، ويقول في دهشة إن هذه أول مرة مأمورية لي لا أواجه ببكاء الأهل، وربما اشتباكهم مع القوة، ويسأله: لماذا يكرهكما هذا الرجل؟!

ويضحك منير وهو يشرح له الأمر، إنه لا يكرهنا ولكنه غير مكترث، سيأتي في اليوم التالي، ويمدني بالطعام والمال، لكنه لن يطلب مني أن أمتنع عن نشاط أو أواصل نشاطاً!

الشيوعي المتدين:

ومع ماركسيته، فقد كان منير شديد التدين، يحرص على أداء الصلاة لوقتها، لا سيما صلاة الفجر، وقد يتوقف بسيارته بجوار أحد المساجد وقت الأذان، وكنت أداعبه أحياناً بضرورة أن يطلق لحيته ليحتل موقع "الشيوعي الملتحي"، الموقع الشاغر بوفاة الشيخ خليل عبد الكريم، الذي كان ينعته التيار الإسلامي بهذا اللقب: "الشيوعي الملتحي"!

ذات يوم اتصل بي: سرقوا حذائي؟! فقد ذهب للصلاة في مسجد بجوار نادي الزمالك، فلما فرغ منها لم يجد حذاءه. ودخلتُ في نوبة من الضحك:

- "حبكت.. انتظر حتى تعود للمنزل"!

- "ممكن السر الإلهي يطلع وأنا في الطريق يا جدع"!

- "ستبعث على النية، والنية أنك ستصلي"!

كنت أضحك وأنا أتخيله في هذه الحالة، وقطع الحوار، وهو يسأل: هل هذا وقت فلسفة، أقول لك أنا الآن بلا حذاء!

- وما المطلوب مني؟ آتي لك بحذاء؟!

الحقيقة في مثل هذه المواقف، من المفيد لمثلي أن يعرف كيف يتصرف محمد منير، لا أن أخبره كيف يتصرف، ولفت انتباهي على حل بدا لي اختراعا وقتها!

قال إنه فقط يريد أن يخبرني بالخبر، وليس طلب النجدة فسوف يتصرف، بأن ينتعل شبشباً من "الشباشب" المخصصة للوضوء!

يا لها من فكرة عبقرية، ففي أيامي الأولى في القاهرة سرق لص "ابن حرام" حذائي من المسجد، وكنت في موقف لا أُحسد عليه، فلا أعرف كيف يتصرف الناس في هذا البلد الغريب في هذه الحالة، ولم يكن الهاتف النقال قد ظهر لأستعين بصديق، فوجدت أن الخيار الأفضل هو سرقة حذاء الإمام، لأنه يسكن بالقرب من المسجد، ولان أنصاره سيهتمون بأمره، ولو أدى الأمر إلى شراء آخر له على وجه السرعة، فخدمة فضيلة الإمام من علامات التدين، فمن يهتم بأمري أنا! وفي الصعيد نقول "قليل الحظ يعضه الكلب في السوق"، أي أنه يختاره من بين هذا الزحام، وكذلك فعل اللص!

يا له من حل؛ "شبشب الوضوء"، صحيح أن منير سيخرج من المسجد على سيارته ولن ينتبه لحاله أحد، لكني كنت حديث عهد بالقاهرة ولا يعرفني الناس بهذا الحل التوافقي الذي هو أفضل من سرقة حذاء الإمام!

مناضل حقيقي:

لقد كان منير لديه مسحة تصوف، تدفعه لأن يكون أقرب إلى الزهد، فليس لديه طموح في ثروة أو وجاهة، وقد أقنعني بضرورة صلاة الفجر في مسجد السيدة نفيسة، واتفقنا على أن يأتي إلي ويأخذني إلى هناك، لكن الثورة داهمتنا، تلك الثورة التي شارك فيها منير بإخلاص شديد ومنذ اليوم الأول، وقد لاقاها بعد يأس وكأنه لقي بها الشباب.

فمنير مناضل حقيقي، بدأ نضاله ضد نظام الرئيس السادات، واعتُقل أكثر من مرة، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، والتظاهر ضد العلاقات المصرية الإسرائيلية، وأخطأ المحقق وهو يوجه له ولرفاقه الاتهام بمعاداة إسرائيل، وقبل أن يعترف بجريمته، كان فريق المحامين وهم بالعشرات من أساطينهم يتقدمهم الشيوعي النبيل أحمد نبيل الهلالي، ونقيب المحامين أحمد الخواجة، يطلبون منه أن يسجل في محضر التحقيق انضمامهم للمتهمين في هذا الاتهام، فهم شركاء فيه وليسوا مجرد هيئة دفاع، وارتج على مدير النيابة، وخرج مسرعاً إلى رئاسته، وعاد من هناك فلم يدوّن اتهاماً، وأخلى سبيل المتهمين!

ويروي منير قصة هروبه مع أحد الطلاب الرفاق، وقد كان مطلوباً القبض عليهما، وظلا في الحقول ينتقلان بينها، ويعيشان على الخبز الناشف لأسابيع، وبعد أن تعبا في رحلة الهروب، قاما بتسليم نفسيهما للشرطة، ليكتشفا المفارقة المضحكة، أنهما ليسا مطلوبين على ذمة أية قضايا، ويتم سؤالهما: من قال لكما إنكما مطلوبان؟!

وإذ ميّع مبارك الحالة السياسية، وكفّ اليسار عن تشكيل التنظيمات والانخراط فيها، وباع منهم من باع، فإن منير لم يكن من الذين باعوا، فلما بدأ الحراك السياسي شارك فيه بحماس وإخلاص، ومع الثورة كان حاضراً منذ اليوم الأول لم ينقطع عنها.

ومن سماته أنه كان وفياً للحقيقة، وللإنصاف، ولأصدقائه القدامى، ولعلي كنت من الذين اقتحموا هذه الدائرة وأنا الذي تعرفت عليه في منتصف العمر، وغرامه بالإنصاف والدفاع عن الناس جعله يتخذ مواقفه دون التفكير فيها!

حدث ذات انتخابات برلمانية، أن تم تكليفه بتغطية الانتخابات في محافظة المنيا، ولأن مرشح حزب التجمع في إحدى دوائرها كان مسيحياً، فقد قرر الدعاية بادعاء أن المرشح الإخواني المنافس له يعمل على إفشاله، ورفض منير أن يكتب تقريراً للنشر يتضمن هذه الأكاذيب، وأصر على موقفه، ورفض أن يساير رئيس حزب التجمع الذي يصدر "الأهالي" في هذا الاتجاه، وعندما اتصل به د. عصام العريان ليسأله عن صحة الاتهام باعتداء أنصار المرشح الإخواني على دعاية مرشح التجمع ومسيرة أنصاره، وأنهم مفتوحون على تقديم الاعتذار اللازم، إن صحت الوقائع، قال إنه كان في المسيرة، وأنها لم تتعرض للاعتداء من جانب الإخوان!

و"منير" لا يدلي بشهادته ويبرئ ذمته وينتهي الأمر، لكنه يدافع عن الحقيقة في كل المنابر المتاحة، وكذلك فعل في هذه الواقعة، وبسببها وبسبب مجمل أعماله في الوقوف مع زملائه تم فصله من جريدة "الأهالي"، ودخل معركة مع نقابة الصحفيين من أجل اتخاذ موقف ضد رفعت السعيد رئيس حزب التجمع ورئيس مجلس إدارة "الأهالي"، مع هذا الفصل التعسفي!

كان النقيب حين ذاك هو الناصري جلال عارف، والسكرتير العام هو الناصري أيضاً يحيى قلاش، وهم من أصدقائه لا سيما قلاش، وتمت إحالة رفعت السعيد للجنة تحقيق بصفته عضواً فيها، وتم إخطاره بالحضور، إلا أنه تعالى على النقابة ولم يهتم بالأمر، وتكرر الاستدعاء بدون رد، ووقف مجلس النقابة عاجزاً عن التصرف معه. وفي السوابق فإن الإجراء هو لفت النظر، لكن حتى هذه الخطوة بدت النقابة لا تريد أن تتخذها، لكن منير كان يريد للمجلس أن يذهب بعيداً في القرار، وكنت أقول له إنه لا توجد سوابق تؤيد رغبته!

وكنت أهدئ من غضبه، بأنه حتى لو فصلوا رفعت السعيد، فهل تعتقد أنه مشغول بعضوية نقابة لمهنة انتمى إليها في ظرف تاريخي معين، عندما دفع عبد الناصر اليسار لاحتلال المواقع المتقدمة في المؤسسات الصحفية، وكان هو مدير مكتب رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم خالد محيي الدين! والرجل الآن هو عضو في مجلس الشورى، وهو قبل هذا وبعده رئيس حزب، فماذا تعنيه عضوية نقابة الصحفيين؟ بيد أن منير كان مصرّاً على اتخاذ النقابة قراراً بفصله!

وجاء مكرم محمد أحمد لموقع النقيب، والتقيت به مع منير في مكتبه بالنقابة، وقد غضب وهو يدرك أن رفعت السعيد هو أكبر من النقابة بعلاقاته بالسلطة، وهاج مكرم محمد أحمد وماج، بما عُرف عنه من سرعة الغضب، والعجز عن التحكم في أعصابه إذا غضب، والذي دعم موقف منير هو ما أجج حالة الغضب عند مكرم عندما سأل السكرتير العام الجديد حاتم زكريا عن قرار الإحالة للجنة التحقيق، فادعى عدم وجوده، فاتهمه مكرم بالتواطؤ، لأسباب مرتبطة بعلاقة رفعت السعيد بالأجهزة الأمنية!

وإزاء هذا الغضب قالوا إنهم عثروا على القرار، ليحيل مكرم محمد أحمد؛ رفعت السعيد إلى لجنة التأديب ليكون القرار هو فصله من النقابة، وتملكتني الدهشة!

بعد عامين، كانت الانتخابات على مقعد النقيب وقد خاضها ضياء رشوان ضد مكرم محمد أحمد، لكن منير كان ضمن حملة ضياء، وفي يوم الانتخابات كان يعلق صورته على صدره كدعاية له، وتحدث معه مكرم بعصبية يحاول أن يكتمها وهو يضرب على صدره برفق لا ينفي الغضب: لقد وقفت معك وفصلت رفعت السعيد من أجلك! وقال له منير: لقد نفذت القانون!

وكنت أرقب الموقف عن كثب، وبعدها قال لي منير إنه لم يرد عليه بحسبانه رجلا كبيرا في السن، وأن مكرم يعتدي عليه، وقلت له ليس هناك اعتداء، الرجل يعبر عن حالة عشم!

وكنت أقول له إن كل أصدقائه من اليسار لم يكن ليستطيعوا أن يتخذوا هذا القرار ضد رفعت السعيد، لكنه كان يدافع عنهم، ومع هذا فبعد الثورة وعندما تعرض مكرم محمد أحمد للإهانة من جانب إخوان منير من اليساريين في بهو النقابة، ارتفع صوته مهاجما إياهم للخروج على قيم المهنة، وتقاليد العمل النقابي، وكانت غضبته مدوية في هذا اليوم!

منير بعد الانقلاب:

لقد قامت الثورة، ووقع الانقلاب، وبعد سنوات من فصل رفعت السعيد، اتصل بي وأنا في الدوحة يخبرني بجريمة كبرى من وجهة نظره، لقد حدث التواطؤ مع رفعت السعيد في النقابة، فأقام دعوى لإلغاء قرار فصله وحصل على حكم بالعودة، كان ثائراً جداً، وحاولت أن أخفف عنه، فالأمر لا يستحق والموضوع انتهى، وأن صحته بالدنيا، وماذا ستفيد عضوية النقابة لرفعت السعيد إذا رُدت إليه، وماذا أضره إن سحبت منه؟!

ولم أنجح في أخفف عنه شيئا من هذا، وبعد أيام اتصل بي وبنفس طريقته عند إبلاغي بخبر مهم، فما كدت أن أرد عليه، حتى جاءني صوته بنفس الجدية السابقة:

- سليم..

- أهلا يا منير..

- لقد مات رفعت السعيد!

كان صوته حزيناً ومتأثراً بنفس درجة غضبه من حكم إلغاء قرار إسقاط عضويته من النقابة، واحتبس صوتي، بينما هو يردد اسمي ليطمئن إن كنت لا زلت موجودا معه على الخط، فقد شك لهذا أن يكون الاتصال قد انقطع بينما داهمتني نوبة من الضحك، مع أن خبر موت أي أحد يهزني كثيرا.

آه يا منير لو صبر القاتل على المقتول؟.. هكذا قلت له! لقد مات رفعت السعيد قبل أن ينفذ الحكم الذي حصل عليه بالتواطؤ!

الطفل محمد منير:

لقد خاض منير معارك الحق، بدون حسابات، وباندفاع طفل بريء.

ذات يوم أقام الدنيا وأقعدها، لأن رئيس تحرير صحيفة يعمل فيها براتب كبير، قد دخل في تحد مع صحفية متدربة لأنها شهدت بالحق في موضوع ضد إرادة رئيس التحرير. كان رئيس التحرير قد أرسل ملفها للقيد بالنقابة، فلما غضب عليها سحب الملف قبل انعقاد اجتماع لجنة القيد.

وفي مثل هذه المواقف يكون النقاش مع منير جميلا في حد ذاته.

- ما المطلوب مني يا منير؟!

- أن تقف معها؟!

- أنا لا أعرفها..

- ولو..

- رئيس التحرير معرفة قديمة، وعندما أصدر صحيفته طلب مني الكتابة فيها، فكيف تقبل أن نتكتل ضده ونهزمه أمام الجميع!

- الحق لا يعرف "المعرفة القديمة"، وإذا هُزمت هذه الفتاة فسوف تكون درساً للشباب في الجريدة!

- مرة أخرى: أنا لا أعرفها يا منير!

- ولكنك تعرفني أنا!

هذا يكفي ويفيض، ورسمت له السيناريو، ترفع دعوى أمام "دائرة التظلمات" بمحكمة الاستئناف، وهي محكمة من تشكيل خاص، لا تنعقد غالباً لأن عضوي مجلس النقابة ضمن التشكيل، وهما غالباً يتغيبان، عليك بإبراهيم منصور، وهو يساري مثلك، ودع لي رفعت رشاد وهو يميني مثلي، ولأنه ولي من أولياء الله الصالحين كما تقول زميلتنا إكرام يوسف، فقد تم إعلان موعد الجلسة في ظرف أسبوع!

وفي الصباح الباكر جداً، كان يوقظني من النوم، ويخبرني بأنه وصل أسفل منزلي!

- أنا مالي يا منير؟!

- انزل بس، كله في ميزان حسناتك!

- شيوعي ويتحدث عن ميزان الحسنات، تعرف يا منير أنك تذكرني بصديق نحس، عندما تعرّف على سعودي كان هذا السعودي فقيراً يقترض منه، وكنا نتندر عليه بذلك، وأنا عندما أصادق شيوعياً يحدثني ولا الشيخ يوسف البدري عن ميزان الحسنات!

مبكراً وقفنا أنا وهو أمام باب القاعة في انتظار الزميلين، ليعلما أن موقفهما تحت الرقابة المشددة، وحضرا بالفعل، جرى العرف على أنها جلسة إجراءات، أي الحكم سيكون في جلسة تالية في أحسن الأحوال، لأنه في الأسوأ تظل الدعوى سنوات طويلة دون الفصل فيها.

لقد حلت كرامات محمد منير، وتم الحكم بقيدها في النقابة، وكانت فرحته في هذا اليوم لا توصف، ولتقيّد الزميلة قبل قيد زملائها بشكل طبيعي من نفس المجموعة بعدة شهور!

وكان هذا تحدياً لرئيس التحرير الذي يعمل منير في صحيفته، وكان مشروع إمبراطور يتشكل، لكنه تقبّل الهزيمة بروح رياضية، فليس لمثله أن يعادي منير، وإن فعلها بعد ذلك، بعد أن ثقلت موازين منير في الانحياز لحقوق زملائه، الصغار منهم على سبيل التحديد!

جمعني بمنير العمل في صحيفة واحدة، كان قد سبقني إليها بشهر أو أكثر، وبعد أيام من حلولي وجدت مسؤولا بها يهمس في أذن اثنين من الزملاء لم تكن لي بهما سابق معرفة، وما أن يفعل حتى يصفرّ وجه من همس في أذنه، وسألتهما عن السبب، وقالا إنه يبلغهما بالذهاب للحسابات واستلام رواتبهما مع إبلاغهما بخبر الاستغناء عن خدماتهما!

ولم أقل سوى عبارة واحدة: هي طابونة؟ سأغادر هذا المكان!

واستفسر مني منير عن السبب فلما أخبرته به، ظل يدور في طرقات الصحيفة ويهتف بصوت جهير ضد هذا الأسلوب في التعامل مع الزملاء، ثم أعلن أنه لن يعود أيضا للعمل مرة أخرى!

وبلغ الإدارة الأمر، وارتبكت لذلك، وبدأت في الاتصال بنا لكننا قررنا إغلاق هواتفنا، وذهبنا للنقابة، وقررنا عدم العودة لهذه "الطابونة" مرة أخرى، ولم تكن "طابونة" لكننا كنا متعسفين في أحكامنا، ولم يكن أمام الإدارة إلا أن تسترضي الزميلين، وقد عادا للعمل، لكن مع هذه العودة قاطعانا لسنوات، وإن تذكرني أحدهما بعد سنوات من السفر، فاتصل بي ليطمئن علي ولم يقل شيئا!

الانقلاب على 30 يونيو:

إن الفتنة التي حدثت بين الأصدقاء بسبب الدعوة إلى 30 يونيو، كان لها أثرها في أن تتقطع علاقات الكثيرين من الأصدقاء، وكنت غاضبا على أصدقائي الذين يخرقون السفينة، وتسليم الثورة للاستبداد العسكري، وكانوا هم غاضبون علي ويرون مثل موقفي قوة للطرف الآخر، بعد أن تقرر حصارهم بالقول إن كل خصوم 30 يونيو هم من الإسلاميين، وموقفي من شأنه أن يضعف هذا الادعاء!

بيد أن علاقتي بمحمد منير لم تتأثر بذلك، وقد توافقنا دون اتفاق على عدم التطرق لمواقفنا، كنا نتحدث يومياً أكثر من مرة، لنتكلم في العام من الأمور دون تحديد المواقف، لكن كان رأيي فيه أنه تاب من قريب، فبدأت مشكلاته مع كمائن الجيش التي تعترضه بعد أن ينتهي من العمل مساء في ظروف فرض حظر التجول!

وبدأ موقفه يتبلور مبكراً ضد ما يجري وضد مجمل السياسات، وسألته مرة كيف يمكن له أن يوفق بين انحيازه لثورة يناير، ومشاركته فيها بإخلاص، وبين انحيازه لدعوات 30 يونيو؟!

وقال لي: شوف؛ 30 يونيو ثورة، أما 3 يوليو فهي انقلاب عسكري على ثورة 30 يونيو!

وأدهشتني هذه القناعة، وكان هذا مبكراً، وإن كان هناك من علمت منهم بهذه الرؤية فيما بعد مثل عمرو حمزاوي، كما أن هناك من نفضوا أيديهم من 3 يوليو بعد تأييدهم ظنا منهم أنها مجرد تأييد من الجيش لإرادة الشعب، اعتماداً لحالة التضليل التي جرت بانحياز الجيش لثورة يناير، وهي قناعة كثيرين من كل التيارات للأسف الشديد ومن هنا تم إدخال الغش والتدليس على الناس!

لقد بدأ محمد منير يتخذ مواقف شجاعة من الحكم القائم في مصر، ويعلن هذا بشجاعة، وكنت أدرك أن الأمور لن تنتهي عند هذا الحد، وكلما سأل أحدهم لماذا لا يعتقلون محمد منير؟ ازددت قلقا عليه. لكن من يملك إقناع منير بأن يصمت أو يتوقف، لقد حزم أمره بأنه لن يمتنع عن الجهر بما يعتقد أنه صواب، وذلك ببساطة وبدون عنتريات فارغة أو نعرات كاذبة!

وتم اقتحام منزل له لا يقيم فيه، وكنت أدرك أنها رسالة تخويف، لكنه لم يخف وأذاع ما حفظته الكاميرات، ثم كان اعتقاله، واتصل بي من سيارة القوة التي اعتقلته لكني كنت نائماً، وفي الصباح علمت بخبر اعتقاله، وبعد خروجه من المعتقل تحدثنا في مكالمة طويلة عن ملابسات هذا!

كان قد نُقل لمستشفى السجن، وكان ممتنا لأحد شباب الإخوان كان معه فيه وهو يقوم على خدمته، تفضلاً واحتراماً، وأردت أن أتجاوز معه انفعاله العاطفي بما فعله معه هذا الشاب، بأن فكرته عن الإخوان تدور حول من عرفهم من الصحفيين، ونقطة ضعف القوم هي في صحفييهم ومحاميهم.

وكانت له شكوى من أن "المروحة" تقلب هواء ساخناً يشوي الوجوه، رغم اتساع العنبر، وقد تم استدعاؤه لمكتب المأمور، فإذا بضابط بالأمن الوطني جالس، في حضور شقيقه وزميلنا حازم منير، وقبل عرض الشكوى قال الضابط إن استدعاءه لإبلاغه بقرار الإفراج عنه.

لم يعرض عليه الضابط شروطاً، وقلت له لقد كفاه "حازم" ذلك. وكان حازم يقول له بقطع علاقته بالجزيرة، وقال لي إنه نظر للضابط ليرى آثار هذا الطلب على وجهه، فعلق عليه: لا شأن لنا بالأمر من يكلمك هو الأستاذ حازم، ولست أنا.

إذن من اعتقلك يا منير ولماذا والقوم ليست لديهم شروط يريدون إلزامك بها؟

حاولت إلزام منير بالشرط، وحاول منير كذلك، لكنه في النهاية لم يلتزم بشيء، وتبين أنه أصيب بكورونا، وتم احتجازه في المستشفى، وسيطر حازم على الوضع، وأخبر أسرته أنه المتحدث باسم شقيقه، فلا يتواصلون مع أجهزة الإعلام، ومن جانبه لم يرد هو على وسائل الإعلام، وحتى حالته الصحية كان هو الوحيد الذي يتحدث عنها، ولا معلومات لدى بناته إلا ما يقوله "عمو حازم"، لقد سحبوا منه هاتفه النقال واعتقدت أن هذا لأسباب صحية، ولم أعلم أنه قرار شقيقه بالحفاظ عليه، وهو لن يمتنع عن التواصل مع الإعلام أو عبر البث المباشر.

واتصل نقيب الصحفيين السابق وصديق منير التاريخي، "يحيى قلاش"، بمديرة المستشفى التي أخبرته أن حالته ساءت من جراء سحب الهاتف منه، وطلب منها على سبيل الأمر أن تمكنه من الاتصال به وأن تعيد إليه هاتفه، فلما وصلتْ إلى هناك كان قولها: "للأسف الموت كان أسبق مني"! فهل كان هذا الكرم الحاتمي ليموت خارج السجن؟!

لقد قرأتُ أكثر من تفسير لمعنى "وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً"، ولم أقتنع بشيء مما قرأت، لكني بوفاته شعرت معنى "الفؤاد" ومعنى أن يكون "فارغاً"، لصديق مثّل تعبيراً من لحم ودم للحكمة البالغة: "رب أخ لك لم تلده أمك".

فقد فقدتُ صديقاً، وأخاً، احترم كلانا موقف الآخر، وفقدت الأسرة ابناً وأباً شهما، واكتملت المأساة بفقد شقيقه حازم قبل أقل من عام، في 18 نيسان/ أبريل 2021، بكورونا أيضاً.

عندما جرى ما جرى، وغادرت مصر إلى الدوحة، وجاء منير ضيفاً على الجزيرة، تصرف كما لو كان في القاهرة، لقد دعاني لأماكن اكتشفها لم أكن أعرفها وأنا الأقدم منه فيها، الأمر نفسه عندما سافر إلى إسطنبول لفترة قصيرة وسافرتُ له خصيصا، إنه يتحدث مع الناس الذين لا يعرفون العربية ويتفاهم معهم ويتماهون معه وقد حفظ بضع كلمات بالتركية، ويذهب إلى المقاهي ويتصل بالصحفيين ممن التقاهم في مصر ومن لم يلتقهم، وكنت أخبره بأن هذه الحشود ستكون عبئاً على من يغامر بدفع الحساب، وقد لا يسمحون لي وله بذلك لأننا ضيفان، وكان لا يبالي بكل هذا.

إنه إنسان أحبته الشوارع، والأزقة، والبنايات، كما أحبه البشر!

twitter.com/selimazouz1