ما هي البيئة التي هيأت لنشأة التيار القومي في مصر؟ الجغرافيا والتاريخ

لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم يفتح الكاتب والباحث المصري محمد سالم ملف التيار القومي في مصر، ظهوره ونشأته ورموزه وأطروحاته..

التيار القومي في مصر.. ما قبل النشأة

الحديث عن التيار القومي في مصر حديث يختزل آمال أمة في النهضة والتحديث والتغيير والتحرير، ويختزل أيضا تاريخ إخفاقاتها وعثراتها، ويروي تاريخ التآمر على ماضيها وحاضرها ومستقبلها. حديث يكشف عن حقيقة تاريخية مرة وهي أن أحد أسباب إخفاق المشروع القومي في مصر والمنطقة هي سعي كل مكون من الاتجاهات المختلفة للتيار القومي لتحقيق رؤيته ولو على حساب الآخرين. وكان ذلك أيضا هو الباب الذي يدخل من خلاله الأعداء لتمزيق أوطاننا وإفشال مشروعات النهضة. حديث يوجز سبيل انتشال الأمة من وهدتها، وتحقيق ما بذلت فيه سبيله الجهود منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن.

حديث ذو شجون

أما لماذا قلنا في صدر المقال أن الحديث عن التيار القومي في مصر هو حديث ذو شجون؟! ذلك لأننا نتحدث عن مصر التي تمر اليوم بأصعب فترة تاريخية في تاريخها الحديث. مصر: الوطن والهوية، القيادة والريادة، الحضارة والتاريخ، الحلم والأمل، الماضي والحاضر والمستقبل، ورحم الله حافظ إبراهيم إذ يقول:

وقف الخلق ينظرون جميعا               كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناة الأهرام  في  سالف الدهر          كفوني الكلام عند التحدي
أنــــــــا  تـاج  العـلاء  في  مفرق       الشـرق  ودراتــه  فرائـد  عقـدي
إن مجدي في الأُوليات عريق             من له مثل أُولياتي ومجـدي
أنا إن قـدر الإله مماتي لا تـرى           الشـرق يرفـع الرأس بعدي

مصر الدولة والأمة

عندما نتحدث عن مصر فإننا نتحدث عن: "أمة في دولة" بتاريخها وأمجادها وانتصارتها وانتكاساتها. نتحدث عن دولة لها إمكانيات بشرية ومادية ومعنوية وحضارية قل أن تتوافر لغيرها. وهي إمكانيات أهلتها لدورها البارز في التاريخ الإنساني، وتاريخ الحضارة الإٍسلامية، والتاريخ السياسي والعسكري للمنطقة بأسرها. إمكانيات أوجزها عمرو بن العاص بقوله: "خلافة مصر ولاية جامعة".

عندما نتحدث عن مصر، فإننا نتحدث عن بلد صنع أول إمبراطورية في التاريخ، وكانت عاصمتها طيبة ـ الأقصر حاليا ـ هي عاصمة العالم القديم. أما في العصر الوسيط، فكانت القاهرة هي "عاصمة الكون، وجنة الدنيا، وعرش الملكية" وفق ما نسبه ول ديورانت لابن خلدون في قصة الحضارة. مصر التي كانت قبلة الطلاب والعلماء من كافة الأصقاع لينالوا شرف التعلم في أزهرها ومستشفياتها الجامعة ومدارسها العلمية.

النيل شريان الحياة لمصر

عندما نتحدث عن مصر، فلا بد أن نذكر نيلها الذي هو نهر من أنهار الجنة، يقول ول ديورانت عن مصر: "جنة يرويها النيل حتى ليبدو أن الأرض تقدم ثمارها للناس على سبيل الهدية والتحية". هذا النيل العظيم الذي أضاعه نظام السيسي، ولا نستطيع أن نتصور أبدا مصر بدون نيلها وشريان حياتها والشاهد الذي لايكذب على عظمتها وتفردها. ولا يمكن أن نتصور فداحة ما ينتظر مصر في قادم الأيام إذا جف نيلها وغارت مياهه. فإن اختلفت مكونات التيار القومي في مصر، فلا يمكن مطلقا أن تختلف على النيل وما يمثله من أساس للوجود والبقاء، والحرية والسيادة، ولا يمكن أن تختلف أيضا على ما يمثله مصطلح "وادي النيل" من ذكريات في الوجدان المصري والسوداني يوم أن كانا دولة واحدة، تسبب العسكر بحماقتهم وسوء تدبيرهم في انفصال السودان على مصر في عهد عبد الناصر، وانفصال جنوب السودان عن السودان في عهد مبارك الذي أوكل ملف السودان وحركة جون قرنق ليوسف والي أحد أعمدة التطبيع مع إسرائيل.

مصر وعلاقة استراتيجية وتاريخية مع الوطن العربي

عندما نتحدث عن مصر، فإننا نتحدث عن علاقة استراتيجية ومصير واحد وتاريخ مشترك بينها وبين بلاد الشام، وفي القلب منها فلسطين منذ عهد الفرعنة حتى اليوم. علاقة تحطمت على صخورها أحلام التتار والصليبيين والمشروع الإمبراطوري لنابليون. نتحدث عن تاريخ مخضب بالدماء ومائة ألف شهيد سالت دماؤهم على مذبح الصراع مع اليهود. وتشعر مصر بالفخر بعظم هذه التضحية. مع إقرارنا  أن العدد الأكبر من الشهدا سقط دفاعا عن مصر وبسبب أخطاء العسكر في إدارة الصراع مع إسرائيل.

وعندما نتحدث عن مصر، فإننا نتحدث عن تاريخ مشرف في نصرة ثورات التحرر في الوطن العربي وأفريقيا والعالم الإسلامي، واحتضان قادة حركات التحرر وتوفير الملاذ الآمن لهم. ونتحدث عن عشرات الآلاف من العمال والمدرسين والأطباء وأساتذة الجامعات وأصحاب المهن الأخرى الذين ساعدوا في نهضة بلاد المنطقة.

مصر وتاريخ من النضال والثورة

عندما نتحدث عن مصر، فإننا نتحدث عن كفاح شعب، شهد تاريخه ثورات شعبية كبرى منذ عهد الفراعنة، فكانت مصر هي صاحبة أول وأطول ثورة اجتماعية في التاريخ، وصاحبة أول اضرابات عمالية أيضا. واستمر ذلك طوال تاريخها القديم، يفور المرجل، ثم يهدأ إلى موعد فوران جديد. حتى في العصر الإسلامي إلى بدايات العصر الحديث، حدثت ثورات شعبية شارك فيها المسيحيون والمسلمون في الحالات الصارخة لجور الولاة خصوصا في عصر المماليك والحكم العثماني. وكان الأزهر والزعماء الوطنيون هم قادة هذه الثورات، وصولا إلى تلك الثورة التي آتت بمحمد على إلى حكم مصر، وانتهاءً بثورة 25 يناير 2011؛ لكنها كانت ثورات منقوصة غير مكتملة، إذ ما تلبث أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه من قبل، بل وأسوأ أحيانا، وما انقلاب 3 يوليو 2013 الذي آتى بالسيسي عنا ببعيد.

مصر وانطلاق المشروع القومي في المنطقة

عندما نتحدث عن مصر، فإننا نتحدث عن حجر الزواية لانطلاق المشروع القومي في المنطقة، والذي بدأ إسلاميا مصريا خالصا، قبل أن يكون عربيا أو عروبيا. وقد تأثرت الشام بأفكاره وبالأحداث التي صنعته في وقت ضَعُفت فيه الخلافة العثمانية، واجتمعت القوى الكبرى والمشاريع الاستعمارية لتنهش المنطقة، وتُعمل فيها سكين التمزيق والتغريب، فانطلق المشروع القومي العروبي من الشام، وهذا ما يؤكده هاني الهندي أحد المؤسسين لحركة القوميين العرب في كتابه الحركة القومية في القرن العشرين: "يقول عبد العزيز الدوري: في مصر ظهرت أفكار الوطن والوطنية والحرية والمساواة قبل مناطق الوطن الكبير. وكان دور  مصر رياديا. أما ساطع الحصري، فرأى في مصر ما هو أكثر، إذ كان أبناء العرب الخاضعين للحكم العثماني المباشر، قبل الحرب العظمى، يرنون بأبصارهم نحو مصر، ويعلقون عليها أوسع الآمال، لأن مصر كانت آنذاك الملاذ العربي الوحيد للغة العربية والأدب العربي".

التيار القومي المصري وصراع الهوية

عندما نتحدث عن مصر والتيار القومي فيها، فإننا نتحدث عن صراع الهوية التي هي إحدى المكونات المهمة في تعريف التيار القومي. صراع رأى فيه غلاة التيار الليبرالي أو بعض دعاة الوطنية المصرية أن مصر مبتوتة الصلة بالعرب والعروبة، بل والإسلام، وأنها إذا أرادت أن تنهض فعليها أن تتجه إلى الغرب، فتأخذ من حلوه ومره، وعليها أن تتحرر من لغتها العربية وتوجهها الإسلامي، وأن تفعل ما فعله أتاتورك باللغة التركية ومظاهر الحياة الإسلامية في تركيا.

وكان هناك صراع أيضا بين رواد التجديد القومي والإٍسلامي الذين رأوا أن العروبة والإسلام لا يفترقان، وبين من يرى أن المشروع القومي مشروع عروبي بحت مبتوت الصلة بالإسلام. لقد كان ومازال صراعا بين الأصالة والمعاصرة. وكذلك الصراع بين الاعتدال والتوسط في الفكر والتصرفات السياسية، وبين التطرف سواء أكان ليبراليا أو إسلاميا أو عروبيا. ولا حل لهذا الصراع إلا أن يجلس الجميع ليصلوا إلى أرضية فكرية وسياسية مشتركة تنهض بالوطن وتنتشله من وهدته.

مصر قاطرة التغيير

وأخيرا، وليس آخرا، عندما نتحدث عن مصر، فإننا نتحدث عن بلد كان وسيظل قاطرة التغيير في المنطقة، وهذا مايؤكده عيران ليرمان نائب رئيس مركز القدس للدراسات الاستراتيجية والأمنية في مقال له عنوانه "حجر الزاوية: السيسي واستقرار مصر" إذ يقول: "ما يحدث في مصر لا يبقى في مصر، فهي:

ـ حجر الزاوية في أي هيكل إقليمي، وأحد مفاتيح تطور الشرق الأوسط اليوم. وقد كان هذا هو الحال طوال التاريخ الحديث للمنطقة.

ـ مصر هي الدولة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم. وهي أكبر دولة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وتتفوق على كل من تركيا وإيران من حيث عدد السكان.

ـ تمتد مصر بين أفريقيا وآسيا، وبالتالي فهي لاعب رئيسي في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا اليوم.

ـ لسيادتها على قناة السويس، فإنها تسيطر على أحد ممرات الاتصال البحرية الرئيسية في العالم.

ـ نظرا لأنماط التنمية الاقتصادية العالمية اليوم والأهمية الاستراتيجية المتزايدة لشرق المتوسط، فلا تزال مصر لاعبا رئيسيا في الشؤون العالمية.

ـ مصر مسرح لمعركة أفكار حول دور الإسلام وطبيعته في المجتمع والسياسة، وهو تحد إيديولوجي حاسم في عصرنا في جميع أنحاء العالم.

ـ أظهر نظام السيسي القدرة على التمسك بالسلطة. لذا، فقد تضاءل القلق الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن اعتبار الاستقرار المصري أمر مفروغ منه قد يتحول إلى قرار خطير".

يكشف كلام عيران ليرمان عن الأهمية الاستراتيجية لمصر، وأسباب تكالب القاصي والداني على مصر لمنع أي مشروع تحرري ونهضوي إسلاميا كان أو عروبيا أو وطنيا أو ليبراليا. ويفسر أيضا لماذا قُزمت مصر، وأوهنت قواها، واُستلبت مقدراتها عقب انقلاب يوليو 2013؟!

ويقتضي كلام عيران ليرمان من كافة مكونات التيار القومي في مصر أن تغير نظرتها إلى مفهوم القومية والوطنية، والتعارض المصطنع بين الإسلام والعروبة. وأن تراجع أيضا ثوابتها الفكرية في ضوء التحديات الإقليمية والدولية. فعالم اليوم لا مكان فيه للأقزام والكيانات الهزيلة والضعيفة، وموازين القوى تتغير بسرعة، وهناك نظام عالمي وآخر إقليمي يتشكلان أمام أعيننا، فأين موقعنا نحن فيه؟!

وأخيراً، فإن كلام عيران ليرمان يبين أن واجب الوقت الآن على كافة القوى والتيارات المشكلة للتيار القومي بخصوصياته المصرية أن تتداعى إلى كلمة سواء تصون الوطن، وتحقق حرية المواطن، وتقدم للأمة نموذجا نهضويا استكمالا لدور مصر الريادي، دون التدخل في شئون الآخرين، فلكل دولة خصوصياتها، ولكل شعب من شعوب المنطقة أفكاره ومقاييسه وعناصر رضاه عن أوضاعه، وألا نقع فيما وقع فيه الربيع العربي في بداياته من محاولة إحداث تغيير جذري في ظروف غير مواتية، ودون امتلاك أدوات ووسائل التغيير، أو امتلاك لأدوات إدارة الدول والتعامل مع التعقيدات الداخلية والخارجية، ودون قراءة جيدة للوضع الداخلي بتشابكاته أو الوضع الإقليمي والدولي ومدى تقبل كل منها لنتائج هذا الربيع.

موضوع هذه الورقة

في ضوء ما سبق، فإن هذه الورقة سوف تتناول التيار القومي في مصر وما يتميز به من خصوصيات من خلال عدة نقاط مهمة، نرد فيها على بعض الشبهات المثارة، ونبتعد فيها قدر المستطاع عن نكأ الجراح، ولكن دون إخلال بالحيادية والموضوعية. كما نبتعد أيضا عن الاتهام بالتخوين، فلكل فرد أو تيار الحق في التعبير عن رأيه وذاته وتطلعاته في إطار الحد الأدنى من التوافق الوطني والفكري. كما سيكون تركيزنا في هذه الورقة منصبا على  المستقبل من خلال عرض التاريخ، وكيفية التعامل مع تشابكات وتعقيدات الوضع الحالي، وذلك من خلال الموضوعات التالية:

ـ نشأة التيار القومي في مصر ومراحل تطوره وتنوعه.
ـ ثنائيات مهمة في التاريخ الفكري والسياسي المصري.
ـ محاولة لتفكيك الوضع الحالى والانطلاق إلى المستقبل.