عبارة لطالما ترددت خلال الحروب، وهي أن الحقيقة أول
ضحايا الحروب، ولكن عشنا اليوم لنرى أن الإعلام نفسه يقدم نفسه طواعية كضحية
مجانية تطوعية لصالح الرواية والسردية
الإسرائيلية مما أفقده توازنه، وأفقده معه
شعبيته، وما تبقى له من مصداقية وسط الشارع العربي وحتى الغربي، فمن كان يظن أن
مؤسسات إعلامية عريقة ستتلقف رواية الإسرائيلي دون أي تمحيص أو تدقيق، عن قطع حركة
المقاومة الإسلامية (حماس) لرؤوس
أطفال رضع، وتروج لها على أنها الحقيقة الكاملة، ليعتذر بعضها عن تلك الروايات،
ويصر البعض الآخر على التمسك بها، والأدهى من ذلك أن يتلقف الرئيس الأمريكي جو
بايدن الرواية التي لقنه إياها نتنياهو، فيعتذر البيت الأبيض بعد ساعات عنها،
ويعلن بأنها غير حقيقية.
وحين أصر الصحافي الإسرائيلي على ترديد رواية قطع رؤوس
الأطفال الرضع على شاشة قناة الجزيرة، أحسن المذيع المتألق محمد كريشان بإيقافه
عند حده، قائلا له لسنا مستعدين لسماع أكاذيب وافتراءات، وهو الموقف الذي ينبغي أن
يتمسك به كل إعلامي صادق ومنحاز لمهنته في وجه من يكذب على الجمهور، ويسعى إلى
ترويج الأكاذيب والافتراءات على شاشاته ومنصاته الإعلامية.
لم أتصور أن تضحي صحف عريقة مثل نيويورك تايمز ووول ستريت جورنال وواشنطن بوست بكل مهنيتها، وتضعها على المحك لصالح أحداث مثل هذه، وكنت أتوقع أن هذه الوسائل الإعلامية أذكى من أن تقع في مطبات، وأخطاء إعلامية كهذه، ولكن بكل تأكيد فإن هذه الأخطاء ليست منعزلة، وإنما تأتي ضمن سياق تاريخي
لكن أكذوبة قطع رؤوس الرضع لم تكن الفخ الوحيد الذي
نصبه لنفسه الإعلام الغربي، فقد نصب لنفسه أفخاخا ومصائد عدة، حين أصرّت وسائل
الإعلام الغربية على ترديد الرواية الصهيونية، في تحميل حركة الجهاد الإسلامي
مسؤولية قصف المشفى المعمداني، والذي سقط فيه أكثر من 500 شهيد، بينما الكل يعلم
بأن كل صواريخ المقاومة التي أطلقت منذ بداية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وحتى
اليوم لم تقتل عُشر معشار هذا العدد، ومع هذا تصر المؤسسات الإعلامية الغربية على
ترويج هذه الرواية الكاذبة، وهو ما ألزم نيويورك تايمز على تغيير عنوانها الرئيسي
ثلاث مرات، فقط وفقط لتبرئ الصهاينة من مسؤولية قصف المشفى، وتحملها لحركة الجهاد
الإسلامي. وعلى الرغم من استمرار تل أبيب في قصف المشافي، وتهديدها بقصف مشفى
القدس، لم يدفع الوسائل الإعلام الغربية للعودة والتحقيق في جريمة المشفى
المعمداني.
شخصيا لم أتصور أن تضحي صحف عريقة مثل نيويورك تايمز ووول
ستريت جورنال وواشنطن بوست بكل مهنيتها، وتضعها على المحك لصالح أحداث مثل هذه،
وكنت أتوقع أن هذه الوسائل الإعلامية أذكى من أن تقع في مطبات، وأخطاء إعلامية
كهذه، ولكن بكل تأكيد فإن هذه الأخطاء ليست منعزلة، وإنما تأتي ضمن سياق تاريخي،
بحيث أن وسائل الإعلام في كل الحروب من وظيفتها أمام مشاهديها ومتابعيها، أن تضعه
في السياق التاريخي لهذه الحرب وهو ما افتقرت إليه وسائل الإعلام الغربية، لأن ذلك
سيظهر مدى الظلم والحيف الذي طال الشعب
الفلسطيني على مدى قرن تقريبا، من احتلال
للأرض وتهجير وقتل ودمار وخراب.
وفي دراسة مهمة أجرتها المؤرخة الفلسطينية مها نصار،
رصدت فيها أنه منذ عام 1979 وحتى الآن نشرت نيويورك تايمز 2490 مقالة لم يكن منها
سوى 46 مقالة لصالح فلسطين، وكُتبت بأيدي فلسطينيين. أما واشنطن بوست فقد نشرت 3249 مقالة غالبيتها مؤيدة لإسرائيل، بينها
32 مقالة لصالح الفلسطينيين.
وحين أجرت محطة سي بي إس مداخلة للقانونية الفلسطينية
نورا عريقات، طالبت الأخيرة المذيع بوصف هجمات إسرائيل بالوحشية، كوصفه هجمات حماس
بالوحشية، لكنه رفض ذلك، وقابلت المؤسسة ذلك بحذف مقابلتها كاملة من موقع المحطة.
بعض الإعلام الغربي ضحّى بكثير من سمعته ومهنيته التي بناها على مدى عقود، والمصداقية والموثوقية هي أقرب ما تكون إلى الزجاج، فإن كُسرت فمن الاستحالة ترميمها وإصلاحها، مما يحتم علينا وضع استراتيجية إعلامية بعيدة المدى، للمشاهدين الغربيين، لشرح قضيتنا الفلسطينية، وقضايانا العادلة الأخرى
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ بينما طورد كل
الصحافيين العرب العاملين في المؤسسات الإعلامية الغربية من خلال منعهم من عرض
آرائهم على منصات تواصلهم الاجتماعي، كان زملاؤهم الغربيون يسرحون ويمرحون ويقولون
ما يشاؤون عن الحرب في غزة تأييدا للكيان الصهيوني، وهو ما دفع زميلنا بسام بونني
إلى الاستقالة من بي بي سي احتجاجا على انحيازها في تغطية الحرب على غزة، كما طردت
بي بي سي أيضا ستة من الصحافيين بتهمة انحيازهم للفلسطينيين عبر حساباتهم على
مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد دفع الإعلام ثمنا باهظا في هذه الحرب، وربما الثمن
الذي دفعه في أيام من مهنييه وكادره لم يسبق أن دفعه في أي حرب سابقة، إذ خسرت
المهنة 15 صحافيا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وحتى اليوم، بينهم 11 فلسطينيا،
ولا نعلم شيئا تفصيليا عن عدد الجرحى والمفقودين. مثل هذه الخسارة الكبيرة لم يسبق
أن تعرض لها الإعلام في فترة زمنية قصيرة من قبل.
الخلاصة، إن بعض الإعلام الغربي ضحّى بكثير من سمعته
ومهنيته التي بناها على مدى عقود، والمصداقية والموثوقية هي أقرب ما تكون إلى
الزجاج، فإن كُسرت فمن الاستحالة ترميمها وإصلاحها، مما يحتم علينا وضع استراتيجية
إعلامية بعيدة المدى، للمشاهدين الغربيين، لشرح قضيتنا الفلسطينية، وقضايانا
العادلة الأخرى. وباعتقادي أن مواقع التواصل الاجتماعي لعبت دورا لافتا في ذلك،
وستواصل تجازها المنصات الإعلامية التقليدية، إن كان بسبب التفات الجيل الجديد
للمنصات الحديثة، أو بسبب حالة النفور من المنصات التقليدية التي طبعت نفسها بطابع
الانحياز للقاتل ضد الضحية.