ظلت
الثورة السورية أمينة على مبادئ
السوريين الطويلة الأمد منذ نفرة عز الدين القسام في عشرينيات القرن الماضي
للانتصار لفلسطين الحبيبة، حيث لم يكن هناك إلاّ الشام، وهو ما ستبقى عليه المنطقة.
ظلت الثورة أمينة على مبادئها بدعم الشام الجنوبية ممثلة بفلسطين، وتضاعفت أهميتها
من قبل، وضرورة الوقوف إلى جانبها مع فصل القُطرين السوري والمصري بالاحتلال
الصهيوني لفلسطين الحبيبة.
ولا أعتقد ثمة من يزاود على دعم
السوريين لأهلنا في
فلسطين، يوم انتفض الشيخ مصطفى السباعي وصحبه من الإخوان
المسلمين إلى جانب القوميين كأكرم الحوراني، وما بينهما من محافظين وتقليديين من
جيش الإنقاذ بزعامة فوزي القاوقجي وغيرهم لمساندة أهلنا في فلسطين، وهي الشام
الجنوبية في حرب 1948، فقد أجمعت الأطياف السورية يومها ولا تزال على دعم فلسطين
الحبيبة.
ظلت هذه الحالة السورية حاضرة، فكان
كل انقلاب عسكري يبرر انقلابه بفلسطين ودعمها، حتى جاء حكم عائلة آل الأسد فقتلوا
من الفلسطينيين أضعاف ما قتلته عصابات الهاغاناه وشتيرن، فكانت مجازر تل الزعتر
والكرنتينا والبداوي وطرابلس وغيرها، ومجازر مخيم اليرموك في دمشق، ولا يزال
الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني يعيشون في أقبية سجون عصابات الأسد منذ عقود، ولا
نود التذكير بمجازر أمل والمليشيات الشيعية بحق أهلنا الفلسطينيين في لبنان منتصف
1984.
هذه المقدمة التاريخية السريعة باتت
مهمة لمن ذاكرته هزيلة ضعيفة، يتقلب مع الأحداث الآنية، فيتخذ موقفا بعيدا عن
السياق التاريخي المهم في فهم ما جرى ويجري ولماذا وصلنا إلى هنا.
نعود إلى الحدث الحالي، وهو تصيّد
بعض النخب لصورة هنا أو صورة هناك، حيث شاب يحمل علما صهيونيا إلى جانب علم الثورة
السورية، متجاهلين أبسط قواعد التحقق والتأكد في التعرف على هويته، وخلفيته، وزمان
ومكان الصورة، فضلا عن أنه حالة فردية منعزلة لا تعكس حالة الثورة السورية. ونحن
نرى أهلنا في الشمال السوري المحرر ينتفضون لصالح غزة الحبيبة جمعا للمال بما يقدرون عليه، وهم المنكوبون بعصابات
طائفية على مدى 13 عاما، تمارس بحقهم هوايتها بقتلهم وتهجيرهم وتعذيبهم، ثم تأتي
هذه النخب لتغسل جرائم هذه المليشيات بحجة وذريعة انتصارها الخطابي لغزة، بينما
الكل يعرف دورها المشؤوم في النيل من أكناف وأطراف بيت المقدس على مدى عقدين أو
أكثر، وذلك في العراق واليمن وسوريا.
للأسف هذه النخب أصيبت بالحول وربما
العمى فلا ترى بيانات حزب الله وهي تمجد قادته الذين قتلهم الاحتلال الصهيوني؛
بأنهم شاركوا في "ساحات الجهاد" في مضايا والقصير وغيرهما، بل ويتفاخر نائب
زعيم الحزب نعيم قاسم صباح مساء وعلى شاشات التلفزة بذلك، لكن مثل هذا لا يحرك
شعرة في جسد هذه النخب، فاستباحة دم الشام الشمالية مباح عند هذه النخب، فدماء أهل
الشام الشمالية ماء، وليست دماء عندهم.
هذه النخب لم تلتفت إلى العصابة
الأسدية الحاكمة في دمشق وهي التي لم تتجرأ على الرد برمي حجر واحد على الصهاينة
طوال حرب غزة، على الرغم من كل القصف الإذلالي الذي طاولها وعلى مدى عام تقريبا،
وقبله قصف شبه يومي، ولكن هذه النخب على ما يبدو غير معنية بالعصابة الأسدية التي
تقتل من يفترض أن يكون شعبها، وتصمت صمت القبور على إذلال الصهاينة لها، لأنها نخب
معنية اليوم بشيطنة الثورة السورية، وكأنها ترى في الثورة السورية حائطا واطئا
تستطيع أن تمارس هوايتها التشبيحية الإعلامية، أما مع النظام وسدنته فذلك له ثمن
باهظ لا تقوى على دفعه وأدائه، ولكن لم ولن تكون الثورة السورية حائطا واطئا، ونحن
نرى وقوف وتصدي نخب سورية عاقلة متفهمة لأهمية الشام، كل الشام، ومتفهمة للمعركة
بعيدا عن ضغط اللحظة التي تراها مثل هذه النخب والتي ثبت تقلبها مع الحدث بعيدا عن
القراءة المتأنية العميقة.
لن يستطيع اللوبي العربي المؤيد
للاحتلال
الإيراني أن يمرر رسائله على شعبنا الذي عرف تماما المعركة ولم تعد تنطلي
عليه أكاذيب وتخاريف نخب ثبت بالدليل القاطع أنها وليدة اللحظة، وأبناء الوقت، فلا
تستطيع أن تنظر إلى أبعد من أرنبة أنفها، وهي التي دأبت على وضع الشعوب أمام
ثنائيات ماني ومزدك وبوش من بعدهما: إما معنا بكل جبهات القتل والإجرام الطائفية
أو علينا. وكل هذا إنما يندرج تحت راية السطحية الثقافية، والسطحية التاريخية
وسطحية فهم الأحداث، وهي الآفة التي ابتليت بها هذه النخب، فتسعى لفرض فهمها على
الشعوب، التي لم تعد تنطلي عليها مثل هذه التفسيرات السقيمة والأكاذيب السطحية،
وهي ترى أنهار الدماء متدفقة ولا تزال على أيدي العصابات التي تسعى هذه النخب إلى
غسلها بحجة غزة ودعمها لها.
وتتجاهل هذه النخب حقيقة ما حصل مع
العاروري، وإسماعيل هنية، وآخرين، بمعنى أن الاختراق الأمني لهذه غدا أكبر من أن
يتم التستر عليه، فكيف يتم الوثوق بهم حتى فيما يتعلق بغزة وفلسطين؟
قضية البيجر ومن قبل الشكوك في مقتل
الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، وقبله فالاختراق في الوصول إلى الأرشيف النووي
الإيراني، ومقتل خبير إيران النووي وسط العاصمة طهران فخري زادة؛ كلها تصب في
بورصة الاختراق الأمني الخطير، وبالتالي فمن الطبيعي ألا يتم الوثوق بهؤلاء
وأمثالهم، لا سيما إن تمت المقارنة بينهم وبين حصانة الجبهة الغزية طوال عام
تقريبا من الحرب التي تُشن عليها..
أخيرا همسة بأذن هذه النخب التي تريد
أن تدفع الثورة السورية ونشطاءها إلى التصهين، نقول لهم خبتم وخسئتم، فهذه الثورة
ستظل أمينة على الشام كل الشام، ومن يمثل الشام ليس عصابات طائفية أدْمنت على قتل
أهلنا في الشام الشمالية، وأكناف بيت المقدس في اليمن والعراق، وإنما الأمين على
الشام هم ثوار الشام الحاليين، هكذا حدثنا التاريخ، وهكذا ينطق الحاضر، ولتعلمن
نبأه بعد حين.