* خلال
العدوان الثلاثي على مصر، قدّم المؤرخ وليد الخالدي استقالته من جامعة أوكسفورد احتجاجا
على الدور البريطاني في الهجوم. بالنسبة لأكاديميّ خارج ساحة النار، ليست هذه تضحية
هيّنة خصوصا مع مؤسسة لها أبّهة أوكسفورد وسمعة أوكسفورد ومزايا أوكسفورد. يخطر ببالي سؤالٌ
معيب أمام قصة كهذه.. معيبٌ فعلا لكن شفاعته أنه يفتح بابا للموضوع (وبعض المواضيع
يصعب دخولها إلا بالأفعال المعيبة): ماذا قدّم الخالدي لمسار المعركة أو أخّر عبر استقالته؟
لا شيء بالتأكيد. والأمر ليس غريبا لأن هذه طبيعة الحروب: يذوي الفرد فيها وتذوي
أفعاله أمام جسامة الحدث، ويطغى منطق الأرقام والكثرة. ولمن هم خارج دائرة النار ودائرة
القرار، فكثيرا ما تجرّ هذه الحقيقة تساؤلا منهكا عن جدوى أي فعل.
* لا شك أن
رجلا بذكاء الخالدي كان واعيا بصعوبة المفارقة: وطأة التضحية على نفس صاحبها، وضآلة
إسهامها في المعركة الكبيرة. يحتاج الأمر إيمانا حديديا بقيمة ومبدأ حتى يهزم
المرء ضراوة المفارقة في نفسه؛ أن يقبل إسهامه المجهري في كتلة
الحرب الكبيرة ويرى
في ذلك أمرا جديرا بمرارة التضحية. حتى في عوالم الهندسة والأشكال، يقال إن الخط وليدُ
نقاط بغير عدّ، لا يسهم الواحد منها بشيء إلا أن الخطوط دونها ضربٌ من المستحيل.
لكن الإنسان في النهاية ليس شيئا من أشياء الهندسة، وربما لا يكون دافع المضحّي متعلقا
أصلا بالأثر المرئي لفعله على الأرض بل ينبع -قبل أي شيء آخر- من احترام المرء
لنفسه؛ الاحترام الذي يستوجب دوما حرمانا لتلك النفس وإيذاء لها، وبالإرادة الحرة
لصاحبها. هل تعني التضحية أصلا شيئا غير هذا؟
الإنسان في النهاية ليس شيئا من أشياء الهندسة، وربما لا يكون دافع المضحّي متعلقا أصلا بالأثر المرئي لفعله على الأرض بل ينبع -قبل أي شيء آخر- من احترام المرء لنفسه؛ الاحترام الذي يستوجب دوما حرمانا لتلك النفس وإيذاء لها، وبالإرادة الحرة لصاحبها. هل تعني التضحية أصلا شيئا غير هذا؟
* أشياء
كثيرة تغيّرت منذ أيام استقالة الخالدي والعدوان الثلاثي؛ أبسطها الأعداد،
فالأكاديميون العرب في جامعات الغرب لم يعودوا نخبة محدودة من أسماء لامعة، بل
بيئة عريضة تضم الآلاف. وسواء من الرعيل الأول أو الثاني، فلبعض هؤلاء مكانة
وجدانية في نفوس كثيرين بيننا. والواقع أن هذه بذاتها جديرة بالتأمل وإن كانت خروجا عن الموضوع: كيف تشكّل كل هذا
الحبّ تجاه مغتربينا الناجحين وكيف تخلّقت ثقافةٌ كاملة للاعتزاز بهم؟
لا تكاد تجد فضائية عربية لم تبتدع برنامجا خاصا للاحتفاء بهذه الشريحة المحبوبة؛
جوائز تسمى بأسمائهم، ومِنحٌ جامعية تُخلّد ذكرهم، ومنتديات تُعقَد على شرفهم، ورغم
ذلك -أو ربما تحديدا بسببه- فهناك ما يدعو للشك بدوافع هذا الحب وصحّيته؛ هل ينبع حقا
من عاطفة خالصة -كما يبدو- أم يَصدر عن ذاتٍ كسيرة تتعطش لبرهان أننا أهلٌ للنجاح لو
توفرت بيئة مناسبة.. أننا لسنا معطوبين وراثيا وإنما ضحايا السياق والجغرافيا؟ لو
توقف الأمر هنا فلا بأس، لكن هناك احتمال أسوأ (وأرجَح): أن الافتتان الظاهر لا يتعلق
حقا بالأشخاص المذكورين، وإنما يأتي من ارتهانِ مفهوم "النجاح" في
مخيلتنا لشكل غربي محدد للغاية؛ شكل أنيق ومعقّم ويبدو -في جوانب منه- اختراعا حداثيا
وبدعة أوروبية. هل كان غسان كنفاني "ناجحا"؟ هل تُعدّ سيرة المهندس يحيى
عياش "قصة نجاح فلسطينية"؟ وماذا عن خبير المسيرات التونسي محمد
الزواري؟ هل ما فعله يؤهله ليكون موضوعَ حلقة من برنامج يدعى "ناجحون من صفاقس"؟
من يوظف معرفته في سياق نضالي لا يصلح تماما لمعجم "النجاح" الغربي، ولمن
يعيش سياقنا العربي، فربما يكون النضال، لا النجاح، هو المفهوم الأَولى بالاحتفاء
فهو مفهومنا وابن مكاننا وزماننا وقضيتنا.
* ما تقدم لا
يغير الواقع: أن للمثقف العربي في الأكاديمية الغربية ركنا متينا في وعينا، بل
ودورا كبيرا في صناعة هذا الوعي نفسه. تنظر في أكثر الكتب انتشارا عن القضية
الفلسطينية في الوسط العربي، فتجد كثيرا منها ترجمات عن أصول كتبها أكاديميون عرب
في جامعات غربية. وعليه يجدر التساؤل إن كانت أعداد هؤلاء وحدَها ما تغيّر منذ
أيام وليد الخالدي، أم أن شيئا في نسيج الرعيلين، السابق والحالي، اختلف مع الوقت؟
مدعاة التساؤل هو أن الحربَ بالحرب تُذكَر، وطوفان اليوم -لمن يتأمل به- يستدعي
عدوان الأمس ويذكّر باستقالة الخالدي. لأي حدٍّ أثبتت هذه المبدئية القديمة
حضورَها في حملة الإبادة على غزةَ اليوم؟
شهدنا في الأسابيع الأولى بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر باحثين وجامِعيين -في قلب العالم الغربي- يخسرون مراكزهم بسبب رأي معلن عما جرى، ورأينا مقابلهم من تصرفوا بالزئبقية اللازمة وبما يخدم صعودهم على سلّم المهنة ويحفظ حظّهم في رحلة "النجاح"
* هناك صعوبة
في التعامل مع أسئلة كهذه لأن ساحة الإجابة شاسعة (جامعات الغرب وكل عامليها العرب).
بين هؤلاء، تجد كامل الطيف البشري، بدءا من المضحي المنكر للذات مرورا بالباهت
المنبتّ عن الأحداث، وهبوطا نحو الحربائيِّ المتسلق. ولذلك، فمن يرغب في الحديث عن
"نسق" بعينه سيجد الأمثلة التي تواتيه. وقد شهدنا في الأسابيع الأولى
بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر باحثين وجامِعيين -في قلب العالم الغربي- يخسرون
مراكزهم بسبب رأي معلن عما جرى، ورأينا مقابلهم من تصرفوا بالزئبقية اللازمة وبما
يخدم صعودهم على سلّم المهنة ويحفظ حظّهم في رحلة "النجاح".
ولأجل ذلك، فليس من نفع كبير في رسم أنساق وحشد أمثلة؛ الأنفع في المقابل
هو الحديث عن سمات أكيدة، إحداها -مثلا- أن الأكاديميات نفسَها تضاعفت وتوسعت
وتضخم معها هيكلها البشري. وكما في الحروب، فإن تعملُق المؤسسات يُضائل الأثر الفردي
ويزيد الدمغة الوظيفية ويجعل الخروج عن مركز كتلة المؤسسة أمرا أصعب. وبدلا من
القول إن العاملين في هذه المجالات صاروا أقل أو أكثر مبدئية، فإن الأكيد هو أن
اجتراح الموقف المبدئي بات تحديا أكبر وأنه -لأجل ذلك بالتحديد- بات أعلى قيمة
ومعنى.
ليست إدانة إسرائيل ما يهم فهذه بداهة لا تحتاج شهادة عليا في أكاديمية غربية ليقولها أحد، المهم الفعلي يتعلق بالتعاطي مع فعل المقاومة، ومع ما جرى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. هذا ما يضع المثقف العربي -في العالم الغربي- على حافة حدوده الآمنة؛ هنا تخوم الخطر، وهنا تحديدا تزول البداهات ويغدو الكلام أكثر من مجرد كلام، وهنا أيضا نرصد كامل الطيف لمفكّرنا المغترب
* في سياق التوحّش
الصهيوني بغزة، والذي أكمل الآن شهره الرابع، ليست إدانة إسرائيل ما يهم فهذه بداهة
لا تحتاج شهادة عليا في أكاديمية غربية ليقولها أحد، المهم الفعلي يتعلق بالتعاطي
مع فعل
المقاومة، ومع ما جرى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. هذا
ما يضع المثقف العربي -في العالم الغربي- على حافة حدوده الآمنة؛ هنا تخوم الخطر،
وهنا تحديدا تزول البداهات ويغدو الكلام أكثر من مجرد كلام، وهنا أيضا نرصد كامل
الطيف لمفكّرنا المغترب، بدءا ممّن رأى في هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
بداية لحرب التحرير الفلسطينية (
جوزيف مسعد)، مرورا بوصف العبور القسامي انفجارا لمجتمع محاصَر مع إدانة
لجانب من أعمال حماس العسكرية (
رشيد الخالدي) ووصولا لتشبيه الهجوم الفلسطيني بالمذابح النازية (
يزيد الصايغ). ليست الإشادة أو الإدانة هنا ما يهم، بل إدراك فارق
الجرأة الفكرية. مَن -بين هؤلاء- ذهب لحافّة الممكن الذي يعيشه واجترح مخاطرة في
قول ما قالَه؟.. مَن زاحم
حافّة المسموح، ومن بالمقابل تمترس في المنتصف الآمن واستعاذ من التخوم؟
* صحيح أن ما
تقدّم متعلقٌ بباحثين عرب في سياقات غربية، لكن ثنائية الحواف والوسط لا تخصهم وحدهم. أيُّ قيمة لمن
يترك السلاح وينذر نفسه للكلام وتحبير الورق إن لم يَأخذ كلامَه -وحبرَه- صوب حافّة
المستطاع وحدود أمنه المهني. الشجاعة هنا ليست هدفا بذاته بل وسيلة للقيمة
الفكرية. وهذه قناعة راسخة: لا وجود لفكرة قيِّمة في المنتصف الآمن، ولا وزن لطرحٍ
لا يترك صاحبه قلقا ويفتح عليه بابا للمجازفة. هل من فكرة جليلة يُنتجها شيء غير
هذا التوتر المنهك؟ وهل من انتحار أكبر يمارسه مفكر مِن أن يلوذ بالوسط ويترك ثغره
-وعلّة وجوده- على الحوافّ؟