تفتقت عقول دول العالم المحاصرة لغزة،
بحيلة الإغاثة الجوية، للتكفير عن ذنوبها وتحسين صورتها التي تضررت كثيرا في الحرب
الطويلة عليها، فأمريكا محاصرة أيضا، وقد كشف الطفل الغزي عورة الملك العريان، أي:
إعمال تمثيلية كالتي كان بياعو العلكة السوريون يؤدونها في الكراجات، لكن في منصة
السماء يستعطفون بها المسافرين لشراء بضاعتهم.. فعمدوا إلى إغاثة جوية ليس لأنهم
نسوا كلمة سر فتح باب مغارة
غزة، وليس لأن جدران القلعة شديدة التحصين، إنما لأنَّ
المراد من الإغاثة هو الإغاظة، والإغاظة هي لأهل غزة وللعرب والمسلمين عموما،
الذين يشاهدون المجازر على الشاشات، عاجزين، ويتمزقون من الغيظ وهم يرون الأطفال
يأكلون الأعشاب والحشائش، ويتحولون إلى هياكل عظمية.. وللإغاظة أسماء أخرى مثل الشماتة،
والنكاية، والطرافة أيضا، وسنذكر وجه الطرافة المرّة في آخر المقال.
وقد باهى بطل صعود الأدراج ولعق الآيس
كريم، الرئيس الأمريكي الرحيم، بغيرته على أرض غزة وأعلن عدم رضاه على احتلال شريط
من غزة تنوي إسرائيل الاحتفاظ به كشريط عازل بين غزة وإسرائيل، وهو يناصح إسرائيل كثيرا،
لكنها لا تنتصح، لا بمنعرج اللوى، ولا في ضحى الغد، ويدعو حكومة نتنياهو اليمينية
بالحكمة والأسلحة غير الحسنة، التي غابت في أثناء احتلاله أفغانستان أو احتلال العراق،
أو ضرب اليابان بقنبلتين نوويتين: رفق فائض هنا، وشدة مدمرة هناك.
وأعلن رؤساء دول الجوار العرب
معارضتهم تهجير أهل غزة إلى بلادهم خوفا على شرف أمن مصر والأردن القومي، فحماس
فصيل من الإخوان المسلمين، وهو فصيل لا يشبه شقيقاته الإخوانية الإصلاحية، الحزب
الذي تعاديه الأنظمة العربية أشد العداء، لكنهم لا يمانعون تهجريهم إلى الدار
الآخرة التي ليس لها أمن قومي!
معدل القتل ما زال على حاله، وقد بادر رؤساء الدول الأشد عداء لحماس والمقاومة وهم رؤساء أمريكا وإسرائيل ومصر والإمارات والأردن إلى مكرمة إغاثة جوية لشعب يموّت جوعا في القرن الحادي والعشرين، تطييبا لخواطر المحتجين في بلادهم. وكنا نظن أن حروب القرون الوسطى قد انقضت وصارت ذكرى من عالم النسيان
معدل القتل ما زال على حاله، وقد
بادر رؤساء الدول الأشد عداء لحماس والمقاومة وهم رؤساء أمريكا وإسرائيل ومصر والإمارات
والأردن إلى مكرمة إغاثة جوية لشعب يموّت جوعا في القرن الحادي والعشرين، تطييبا
لخواطر المحتجين في بلادهم. وكنا نظن أن حروب القرون الوسطى قد انقضت وصارت ذكرى
من عالم النسيان، بل إن ملكا عربيا من هؤلاء أشرف بنفسه على إسقاط صناديق الطعام
في البحر، بعد الاستئذان من المحتل!
وتظهر صور قديمة للملك حبّه الاستعراض،
فقد مثل دورا مدته 7 ثوان في مسلسل ستار تريك (رحلة النجوم)، مثله مثل حسني مبارك في ثلاثة أفلام هي "وداع في الفجر" و"ليلة
الحنة" و"العمر لحظة".
أخطأ الإنزال في بعض إحداثيات
التنزيل، وسيقال إن المؤن جنحت بسبب ضيق المكان وأعنّة الريح، مرة إلى قروش البرّ
في إسرائيل، ومرّة إلى القروش في البحر.
المعونة الغذائية قليلة كما تجمع
وسائل الإعلام، وتعادل حمولة شاحنتين ونصف، بل إن أمريكا على لسان رئيسها وجدت في
الإنزال حلا للتجويع والتشريف معا، فأنزلت على أهل غزة 38 ألف وجبة جاهزة،
فالأمريكان يحبون الديلفري، ويعشقون السرعة في كل أمر.
ويخشى أهل الخبرة والفطنة أن تكون
الأطعمة غير شرعية وغير حلال، لكن الشرع يبيح أكل الميتة والدم والخنزير في
المخمصة (وهي شدة الجوع). ويتساءل أقل الناس عقلا وأضعفهم رأيا عن أسباب تفضيل
المحاصِرين مدّ المحاصَرين بالغذاء من الجو بدلا من البرّ، مع أنها عملية مكلفة كثيرا،
بسبب صعوبة الترتيب الجوي وتكاليف الوقود، وفي الأرض أكثر من ألفي شاحنة تفسد
وتتعفن في الانتظار؟ تلك قسمة ضيزى.
أول الأسباب أنها مثيرة وتتضمن كثيرا
من الدراما والتشويق والحركة، وتذكّر بأفلام الأكشن، وثاني فضائل الإمداد من الجو؛
الاستعلاء، وإشعار المغاثين بأن المغيثين ملائكة، فالسماء هي العلوّ، والعلوّ من
صفات الله تعالى، بل إن إسرائيل قادت الحملة الفاضلة التي ليس لها اسم، وهي عادة
تطلق أسماء على عملياتها، لولا أنها طارئة، ويناسبها اسم حملة إغاثة أسماك البحر
لتحسين ذاكرتها الضعيفة، أو حملة "الهباء المنثور"، أو حملة "أشبع
ثم اقتل".
ومن أهداف حملة
الإنزال الجوي
التأكيد على أن غزة سجن حصين يُمنع الاقتراب منه، وتكريس الاحتلال وعزل حماس وشرطتها،
وتجميد دورهم في الحفظ والتوزيع، وتعين على إثارة الشغب في غزة، ودفع المغاثين للتنازع
حول الطعام. ومن أغراضها أيضا، الإخضاع والتطويع، والمباهاة أمام المحكمة الدولية
بقيام المحتل بواجباته، وقد نسمع من جهات دولية ترشيح الدول المغيثة إلى جائزة سلام
وطعام، شيء يذكر بمشاهد الخروج من أفغانستان الملحمية.
مثلا تبحث إيران عن طريق القدس في دمشق واليمن والأردن، أو تلجأ أمريكا العظيمة للجو ويمكنها أن تفتي في الأمر بهاتف، أو يجند الرؤساء العرب وزراءهم في رحلات بين عواصم العالم لبيان مكان الأذن في الرأس، والماء فوق ظهورهم محمول
كما أنها تصلح دفاعا مشهودا لتهمة
التجويع
العالمية، وإمتاع الناس "بالشو" والاستعراض، وتوفير ذرائع جديدة لمحللي
الفضائيات، وإشعار المشاهدين أن أهل غزة يعيشون في مستطيل برمودا البري، الذي
يلتهم الأخضر واليابس، والشماتة بالشعب الفلسطيني والتشفّي منه، وإيجاد بديل جوي
للأونروا.
أما وجه الطرافة في الإنزال الجوي، فهو
في شبه الإنزال الجوي بنكتة البحث عن الاذن الضائعة، وهي نكتة شهيرة وقديمة. وكان
طلاب صفي النازحين قد كُلفوا برواية نكتة محلية بالألمانية، ورواية نكتة بلغة
أجنبية أمر شاق، فاخترت نكتة سهلة يقلُّ فيها الكلام وتكثر فيها لغة الصم والبكم،
فقلت للمعلمة أن تسألني عن مكان أذني، فمددتُ يدي اليمنى إلى أذني اليسرى، فضحكت،
وضحك الزملاء، وهذا ما تفعله كثير من دول العالم..
مثلا تبحث إيران عن طريق القدس في
دمشق واليمن والأردن، أو تلجأ أمريكا العظيمة للجو ويمكنها أن تفتي في الأمر بهاتف،
أو يجند الرؤساء العرب وزراءهم في رحلات بين عواصم العالم لبيان مكان الأذن في
الرأس، والماء فوق ظهورهم محمول!
twitter.com/OmarImaromar