كلما هممنا برثاء
شخصية ما ودعت عالمنا وتحسرنا على فقدها، إلا واستحضرنا
عبارة "آخر الرجال المحترمين" المرتبطة في الذاكرة والوجدان بأحد أفلام
الراحل المبدع نور الشريف، من تأليف وحيد حامد وإخراج سمير سيف، وأبصر النور سنة
1984. طبعا الفيلم ليس موضوعنا الرئيسي، لكن العنوان مثير للاهتمام، ويحيلنا على
معاني ودلالات متعددة، وبالأخص في أيامنا الحالية.
المدقق في
الواقع السياسي، ليس فقط في الوطن
العربي المكتنز بالخيبات، وإنما
العالم بأسره، سيجد أننا حقّا أمام "أزمة مريرة"؛ ليست فقط في الكفاءات
والكوادر القيادية، وإنما غياب الوازع
الأخلاقي أيضا المتهالك لدى الكثيرين من
هؤلاء، مما يجعل عنوان الفيلم ضرورة ملحة لتوضيح عمق وحجم المأساة التي نحياها.
المدقق في الواقع السياسي، ليس فقط في الوطن العربي المكتنز بالخيبات، وإنما العالم بأسره، سيجد أننا حقّا أمام "أزمة مريرة"؛ ليست فقط في الكفاءات والكوادر القيادية، وإنما غياب الوازع الأخلاقي أيضا المتهالك لدى الكثيرين من هؤلاء، مما يجعل عنوان الفيلم ضرورة ملحة لتوضيح عمق وحجم المأساة التي نحياها.
نشرح أكثر ونبتعد عن العموميات، ونستحضر على سبيل المثال "الماما
أمريكا"، وما تعيشه في السنوات الأخيرة من تخبط تختصره الانتخابات الأخيرة
بجلاء؛ فبعد تسلق شخصية مثل "أبو إيفانكا ترامب" للمشهد في ولايته الأولى
قبل أن ينقاد للهزيمة أمام "المأفول" الحالي جو بايدن، وما صاحب تلك
المرحلة من توتر وتهديدات ومحاكمات، جعلت العناوين الأولى للإعلام هناك أن نهاية
ترامب السياسية قد حانت، ومستقبله تم وأده إلى الأبد. وحتى في ذروة حكم بايدن
شاهدنا عشرات الزلات أمام عدسات الكاميرا، وإصرارا مريبا على الترشح عن الحزب
الديمقراطي، قبل أن يستسلم للأمر الواقع في نهاية المطاف، وتخرج كاملا هاريس من
القمقم وتتجرع الهزيمة أمام المرشح الجمهوري الآخر المثخن بالفضائح والكوارث؛
لتكون المحصلة: هل أضحى حزبا الفيل والحمار عاقرين عن إنجاب قيادات جديدة تمحو شطحات الاثنين، ومن ثم تكريس هذه النماذج بكل ما تنضح به من سوء؟
الجواب يكمن في عودة ترامب للبيت الأبيض مجددا رغما عن كل ما قيل، ضاربا
بعرض الحائط سجله المتشح بالعار. وذات الأمر ينطبق على الكيان الغاصب الذي يتلاعب نتنياهو
بمصيره بمنتهى الحقارة، قافزا على كل المطبات وحواجز التحقيقات وفضائح الفساد التي
تزكم الأنوف، ومع كل هذا تعجز المعارضة عن الإطاحة به، رغم كل تحذيرات رؤساء
الحكومات السابقين ونواب الكنيست الغاضبين.
ومن الكيان الصهيوني إلى ألمانيا على سبيل المثال، التي عادت لتعانق مصطلح
"رجل أوروبا المريض" اقتصاديّا بعد توالي النكسات منذ رحيل أنجيلا ميركل، التي أنقذت البلاد بحنكتها وحكمتها، وأعادها أولاف شولتس إلى الحضيض، منذرا بمستقبل
قاتم السواد لشخصية تفتقر لأدنى مقومات السياسي المحنك.
كل هذا، وصولا للأسماء التي باتت تحتل الفضاء والهواء في وطننا العربي
وتضطلع بمسؤوليات مصيرية، وتكفي جولة مصغرة عبر محطات التلفزيون لرؤية مداخلات
هؤلاء السياسيين الجدد ممن طفوا على السطح فجأة، كي تدرك حجم الفراغ المهول الذي أصبحنا
نعيشه على مستوى القيادات والكفاءات اليوم، مما يجعلنا أمام فقر مدقع يهدد بقادم
حالك السواد في شتى المجالات.
أتذكر أنني قبل سنوات وتحديدا يوم رحيل أحد أهم السياسيين في المغرب والوطن
العربي، وأعني المناضل الأصيل عبد الرحمن اليوسفي، استعنت حينها بعبارة "ورحل
آخر الرجال المحترمين". آنذاك، كانت فئات لا بأس بها "متحفظة" على
الوصف؛ لكنني كنت أشد الاقتناع بأنه الأدق والأكثر تعبيرا على الوضع السياسي في المغرب،
وبالملموس أضحى الكثير من هؤلاء يشاطرونني الرأي اليوم وهم يعانون مع المستويات
المتردية والكارثية للنماذج الحالية، التي لا تمت بصلة لإرث ولا مصداقية ولا أصالة
ونضال الاسم السالف الذكر. وكي نقرب الصورة أكثر، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، أحد
اللقاءات الإعلامية التي أطل فيها وزير العدل المغربي الحالي مؤخرا، والأسلوب
المستفز الذي خاطب به الصحفي المحاور، وأيضا الموجه لقطاعات واسعة من الشعب، وهذا
ليس سوى غيض من فيض لأن الأمثلة كثيرة.
ومن المغرب نتوجه صوب تونس الخضراء، التي أحكم فيها قيس سعيد القبضة على كل
مفاصل الدولة، ولا يكاد يمر عام حتى يقرر إعفاء الحكومة وتشكيل أخرى، مع الإصرار
على الزج بكل من ينبس ببنت شفة وراء القبضان، كي يسرح ويمرح بنتائج الانتخابات الأخيرة،
ويواصل إظهار مهاراته الخطابية وتصويرها، وإظهار الجميع في مظهر التلاميذ النجباء
في حضرة الأستاذ/الداهية الذي يجيد اللعب على كل الحبال، وعلى رأسها "الادعاء"
بكون فلسطين القضية الأولى والمركزية، لكنه في الخفاء عاجز عن الكشف عن مصير قضية
اغتيال المهندس القسامي التونسي محمد الزواري أمام منزله في مدينة صفاقس، وأيضا
منح أرملته الجنسية التونسية كحقّ أصيل من حقوقها.
ولن يتسع المجال بالطبع لسرد نماذج أخرى تكشف حجم "العقم"
المستبد بعالم السياسة اليوم، مما فتح المجال لأشباه "المناضلين" وشذاذ
الآفاق المعاصرين للنهب والسلب تحت مسميات جديدة.
فأي مستقبل ينتظر العالم إذن في ظل الشح والعجز القاتل الذي نراه؟