لا توجد كلمة جرى ابتذالها خلال العقدين الأخيرين في عالم السياسة مثل كلمة
الإرهاب، وهي كلمة أدخلتها السياسة الأميركية الصهيونية إلى معاجم العالم أجمع لمواجهة حركات التحرر، ولأغراض السياسة والهيمنة، قبل أن تكون ضد العنف الأعمى الذي يطال الأبرياء غير المحاربين.
والحال أنه ليس ثمة عنف أصلا؛ إن كان إرهاباً كما يسمونه، أم كان عنفاً مشروعاً إلا وكان نتاج ظروف موضوعية؛ سياسة واجتماعية واقتصادية، فيما يحضر الفكر كعامل أخير، وإن كان مؤثرا في السياق، لكنه فكر موجود دائما في بطون الكتب، ولا يجري استحضاره في سياق الحشد إلا حين تتوفر ظروفه المواتية، وحين تغيب من جديد يغيب ذلك العنف، فيما يُجهد مروجوه فكرياً في إعادة ترتيب أفكارهم لتبرير الوضع الجديد، إذا كانوا حاضرين فيه.
في حالة الإخوان المسلمين، تؤكد وقائع التاريخ أن أصل الفكرة التي أنتجها حسن البنا كان إصلاحية بامتياز، وأن تورط المنتسبون إليها في عنف بعض الأحيان؛ ليس كنتاج للأفكار، وإنما كنتاج لظروف موضوعية، قد ينطوي بعضها على سوء تقدير للموقف السياسي.
صحيح أن الإمام البنا قد سمح بتشكيل جناح مسلح للجماعة في البدايات، لكن ذلك لم يكن ضد الدولة
المصرية، بل كان ضد الإنجليز، ثم ما لبث الأمر أن خرج عن السيطرة لينتج بعض أشكال العنف المحدودة التي دفعت المرشد الثاني للجماعة (بعد اغتيال المؤسس) إلى كتابة ما يمكن القول إن سيصبح «مانفيستو» الجماعة الحقيقي (ليس كتاب معالم في الطريق لسيد قطب كما يزعم كثيرون، بل ربما جاء ردا عليه)، أعني كتاب «دعاة لا قضاة» لحسن الهضيبي.
وفي حين صار نبذ العنف فكراً مستقراً تماماً في وعي وأدبيات الجماعة الأم في مصر، ولم يحدث منذ الإشكالات التي حدثت نهاية الأربعينات أن تورط الإخوان في أي شكل من أشكال العنف (اتهموا بذلك دون دليل أيام عبدالناصر)، فيما حدث أن تورط فرع آخر من فروع الجماعة في عنف ضد الدولة مطلع الثمانينات في
سوريا، وهي ورطة كانت نتاج سوء تقدير واضح للوضع السياسي المحلي والعرب والإقليمي والدولي قبل أي شيء آخر، إذ كيف اقتنع قادة الجماعة آنئذ بأن الوضع العربي والدولي كان يمكن أن يسمح بدولة إسلامية على حدود الكيان الصهيوني، حتى لو شجع ذلك العنف لأسباب سياسية أخرى. فيما تقول الوقائع: إن الورطة كانت نتاج عدم قدرة قادة الجماعة على الحسم مع الشبان الذين اختطوا سبيل العنف في مواجهة دولة باطشة يحضر فيها البعد الطائفي بشكل واضح، بخاصة في المؤسسة الأمنية والعسكرية.
منذ ذلك الحين، وباستثناء المقاومة المشروعة، بل الرائعة التي مارستها حماس (كفرع) للإخوان، لم يكن للجماعة أي تورط في عالم السلاح (حتى نشاطهم في دعم الثوار الأفغان كان في شقه الأكبر غير عسكري مع إسناد للعمل العسكري)، وحين اندلعت أحداث الثمانينات والتسعينات في مصر لم يكن للإخوان أي دور فيها على الإطلاق، الأمر الذي انسحب على مواقفهم حيال العنف الذي اندلع تحت راية القاعدة منذ النصف الثاني من التسعينات، والذي كان بدوره نتاج ظروف موضوعية جرّت بن لادن إليه، رغم أن كان قد اعتزل ذلك عملياً منذ مرحلة السودان، بل اختط مساراً إصلاحيا في بلاده.
في ربيع العرب، كان الإخوان مع السلمية، وما جرى في سوريا، وقبل ذلك تداعي الوضع في ليبيا لم يكن نتاج اختيار أو تخطيط من الجماعة، بل ولا حتى من الآخرين، إذ فرضت الوقائع نفسها على الجميع.
اليوم، يخرج سيف الإرهاب من الأدراج ليُشهر في وجه الإخوان، فيما هم لا يفعلون شيئاً مما يُتهمون به، حتى في الدولة التي تم إقصاؤهم عن الحكم فيها عبر مؤامرة واضحة، مع أن أحداً لا يمكنه الجزم بما سيحدث لاحقاً في ظل شراسة القمع القائمة، فيما كتبنا محذرين من التورط في العنف المسلح الذي لن يكون مجدياً بأي حال، بصرف النظر عن مبرراته.
ما يجري الآن ضد الإخوان، ومطاردتهم بتهم الإرهاب، لا صلة له البتة بحقيقة التهمة، بل بعموم الموقف من ربيع العرب والثورات والإصلاح السياسي، وهو نوع من بث الرعب، ليس في أوصال الجماعة التي تحضر بشكل متواضع في بعض الدول التي تتبنى هذا الخط (باستثناء مصر)، بل في أوصال كل من تسوّل له نفسه رفع صوته مطالباً بالإصلاح السياسي، وبالتالي، فإن مصطلح «إخواني» في وعي من شيطنوه إنما يعني أي متدين يطالب بالإصلاح والتعددية والشراكة السياسية الحقيقية، ولو حدث أن كان المطالبون بذلك ليبراليين أو حتى يساريين، لما كان الموقف منهم أقل شراسة (سيكون لهؤلاء بواكي أكثر في الغرب)، وإن بدا بُعد الدين حاضراً ومستفزاً للبعض في الحالة الإسلامية، أعني لمن يستمدون بعض الشرعية من الدين، أو يستخدمونه في تثبيت شرعيتهم.
الجماعات السياسية ذات الجذور الدينية والاجتماعية لا يمكن شطبها بقرار سياسي، وفي مصر كانت الجماعة تسمى «المحظورة»، لكنها كانت حاضرة بقوة في ثنايا المجتمع بكل تفاصيله. وفي فلسطين لم يأت أي رئيس وزراء في دولة الاحتلال، إلا وتوعد بسحق حماس، لكنها ظلت باقية، بل ازدادت قوة في مراحل عديدة. وفي أي بلد آخر سيحدث ذلك، لكن الأكثر إثارة هو أن استهدافها من قبل البعض على هذا النحو الشرس، ربما منحها جماهيرية أكبر، خلافاً لما يعتقد كثيرون، وبعضهم لا يدرك أن قوة الجماعات السياسية والدينية لا تكمن في عدد أعضائها، بل في شعبيتها في أوساط الجمهور. وفي تونس كان التنظيم مسحوقاً قبل الثورة، لكنه ما لبث أن حاز أكثر من %40 من أصوات الناس بعد شهور قليلة حين جرت انتخابات المجلس التأسيسي.