لم يغضب الشيخ عمر محمود (أبو قتادة الفلسطيني) من إطلاق وصف "رجل التحولات" عليه، لكنه رفض أن يوصف بذلك باعتبارها تهمة تلاحقه أو عارا يلازمه، مبديا اعتزازه بكافة مراحله التي مر بها، من بداية مشواره مع جماعة التبليغ، وانتقاله إلى السلفية العلمية فالإصلاحية، وتأييده للانتخابات البرلمانية، وتحولاته فيما بعد إلى
السلفية الجهادية.
وقال أبو فتادة الفلسطيني في جلسة على هامش افتتاح مشروع مكتبة مسجد الرحمن في جبل الزهور شرقي العاصمة الأردنية عمان، إنه استفاد من تجربته السابقة، وعلى رأسها تجربته مع الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وفي رده على سؤال لـ "عربي21" حول مدى تأثير تلك التجربة على
فكره ومواقفه من جماعات التشدد والغلو، أقر بأن لها تأثيرات عميقة وبالغة، ذاكرا أنه عاشرهم عن قرب، وعرف طبيعة تفكيرهم من دواخلها، وشاهد بأم عينيه مآلات أفعالهم.
بعد مسيرة حافلة بالتحولات الفكرية، ومزدحمة بالتنقلات المكانية عبر محطات جغرافية متباعدة، من عمان مرورا بماليزيا وباكستان، ومكوثا في بريطانيا لما يقارب العقدين من الزمان، عادت عصا الترحال لتحط بالشيخ أبي قتادة في عمان، بعد أن غادرها منذ ما يزيد على عشرين سنة، ليستقر به المقام فيها، لكن أين تسير سفينة أفكاره ورؤاه؟ وهل استقرت على حال أم ما زالت تمخر عباب التحولات؟ وهل سيكون لأبي قتادة اختيارات فكرية جديدة بعد تلك التي عرف بها وعرفت به؟
أبو قتادة في عيون معارفه القدامى
يكاد الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، والتيارات الجهادية منها على وجه الخصوص، حسن أبو هنية أن يكون من أقرب الأشخاص (علميا وفكريا) إلى أبي قتادة قبل خروجه من الأردن مطلع تسعينيات القرن الماضي، وقد داوم على التواصل معه هاتفيا في السنوات الأولى من إقامته في بريطانيا، فكيف ينظر أبو هنية إلى مسار الأحداث في مسيرة أبي قتادة بتحولاتها الفكرية وتنقلاتها المكانية؟ هل يراها نابعة من خيارات ذاتية محضة أم أن الظروف والأحوال ساقته إلى ذلك؟
اعتبر أبو هنية أن مسيرة الشيخ أبي قتادة نتاج مزيج من العوامل الذاتية والموضوعية، فهو كغيره من الشيوخ عايش وعاصر مراحل انتقالية في العالمين العربي والإسلامي، أثرت على خياراته وأفكاره، وساهمت بشكل كبير في رسم مساره الفكري والحياتي على الصورة التي كانت.
في رده على سؤال "عربي21" كيف وجد أبا قتادة بعد غياب زاد عن العشرين سنة؟ قال أبو هنية بأنه لم يلاحظ أية تحولات أو تغيرات على مستوى البنية النفسية في شخصية أبي قتادة، إذ لا زالت تسيطر عليه النزعة الانفعالية بشكل كبير، وتأثره بالوقائع والأحداث، وهو ما يظهر بشكل مباشر في مواقفه وتصريحاته.
في السياق ذاته أوضح أحد معارف أبي قتادة القدامى (فضل عدم ذكر اسمه)، أنه عايش أبا قتادة عن قرب في طوريه التبليغي والسلفي قبل خروجه من الأردن، ورأى فيه في طوره التبليغي إقبالا شديدا على العبادة والدعوة، مع مواظبة ملحوظة على الذكر فلا يكاد لسانه يفتر عنه في الجولات والاجتماعات التبليغية، وقد عُرف في أوساط الجماعة بدروسه (بيانات كما يسميها التبليغيون) المؤثرة، وقد كانت له جولات طويلة في الخروج في سبيل الله (أربعة شهور وأكثر).
أما في طوره (السلفي) فقد بدأه كطالب علم، تتلمذ على الكتب، خاصة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، ولم يعرف له شيوخ تتلمذ عليهم وأخذ عنهم، إلا ما كان من دراسته الجامعية في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، مشيرا إلى أن أبا قتادة انقطع عن جماعة الدعوة والتبليغ بعد تحوله إلى السلفية العلمية، وكانت له انتقادات وملاحظات كثيرة على الجماعة.
لكن ما قصة تحول أبي قتادة للسلفية الإصلاحية؟ يستذكر صديقه القديم أن أبا قتادة تعرف على الشيخ السوري محمود قاسم (أبو الأمين)، الذي كانت له رؤية سياسية معينة، وقراءات فكرية خاصة به، تأثر بها أبو قتادة، كما أن أبا قتادة تواصل مع جمعية إحياء التراث في الكويت، وكان له تعاون معهم، ولعل ذلك ساهم في توجهه للسلفية الإصلاحية، التي حاول بلورتها في عمل مؤسسي جماعي بالسعي لتأسيس فرع لجميعة إحياء التراث في الأردن، مع محاولته تأسيس حركة سلفية إصلاحية أثناء حرب الخليج مع مجموعة من الشباب، تحت مسمى (حركة أهل السنة والجماعة) التي صدرت باسمها نشرة "المنار" اللسان المعبر عن ذلك التوجه حينذاك.
دوافع التحولات وأسبابها
كيف يمكن قراءة تجربة أبي قتادة في تحولاتها الفكرية المختلفة؟ فالرجل بخلفيته التبليغية والسلفية (في نسختيها المحافظة والإصلاحية) كان منخرطا في العمل الدعوي السلمي، وكان مشتغلا بالعلم الشرعي طلبا وتعليما، وكان يؤمن بالمشاركة السياسية، وقد كانت له جهود حثيثة في حث المصلين وتحريضهم للمشاركة في انتخابات 1989 ، وكان ينبذ العنف ويهاجم من يمارسونه، ويرفض المسار الثوري، وينتقد بشدة حزب التحرير في منهجيته الراديكالية الانقلابية، تأثرا بشيخه السوري أبي الأمين، فكيف فارق ذلك كله وتحول إلى مسار السلفية الجهادية، وبات من أبرز منظريها ورموزها الكبار؟
حاول أسامة شحادة في مقاله المعنون بـ"تحولات مدمرة.. أبو قتادة نموذجا"، أن يتلمس تفسيرات لتلك التحولات، فبحسب المقال "فإن أقرب المقربين إليه مختلفون في أسباب ودوافع ما حدث له من تحولات، فمنهم من يرجعها لسبب نفسي هو إعجابه وثقته الزائدة بنفسه مع حبه للزعامة، ومنهم من يرجعها إلى المؤثرات الخارجية التي استغلت نفسيته التواقة للزعامة مع ظروف اختلال التوازن الفكري نتيجة تصادمه مع الواقع..".
لكن صديقه القديم (الذي فضل عدم ذكر اسمه) يرى أن فهم الطبائع الشخصية لإبي قتادة، قد يكون المدخل المناسب لفهم تلك التحولات في مسيرته الفكرية والحركية، فهو صاحب شخصية انفعالية، تتأثر بالأحداث بشدة وتنفعل بها، وذو عقلية هاضمة للأفكار والمقولات بسرعة قياسية فائقة، يقرأ في كل الميادين والمجالات بنهم شديد، منفتح على جميع الأفكار والقوى.
وبحسب توصيف صديقه القديم، فإن تفاعل أبي قتادة بصفاته الشخصية تلك، مع الأحداث والوقائع الجارية، وانفعاله بها، أنتج كل تلك التحولات، مرجحا أن لا تكون تلك المحطة الأخيرة في مسيرته الفكرية والعلمية والحركية، فلربما كانت له خيارات واختيارات أخرى قادمة.
تقييم التجرية والمسارات المستقبلية
اكتسب أبو قتادة في بريطانيا شهرة إعلامية واسعة، بسبب علاقته الوثيقة مع الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، فقد تولى مع أبي مصعب السوري مسؤولية الملفين الشرعي والإعلامي للجماعة في لندن، وكان يعتبر المرجع الشرعي لها، وأشرف على نشرة "الأنصار" التي كانت لسانها الناطق في لندن، وكانت له مواقف قلقه وملتبسة في أحداث الجزائر الدامية، فما مدى استفادته من تلك التجرية، خاصة في علاقته مع جماعات الغلو والفكر المتشدد؟
بحسب الدكتور خالد الحايك، المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، والباحث في شؤون التيارات الجهادية، فإنه لم يصدر عن أبي قتادة ما يفيد أنه تراجع عن تأييده للجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، ولم يصدر عنه كذلك ما يفيد استنكاره لواقعة اغتيال الشيخ الداعية محمد السعيد، والقيادي عبد الرزاق رجام.
وحول مدى انعكاس تجربته السابقة مع الجماعة الإسلامية المسلحة على مواقفه الحالية من تنظيم الدولة الإسلامية، رأى الحايك في حديثه لـ"عربي 21" أن مواقف أبي قتادة وتصريحاته تأتي في أغلبها كردات أفعال، وليست ناتجة عن رؤية هادئة وعميقة، مع تأثره بالمحيط من حوله، خاصة الشباب الذين يتواصلون معه.
على صعيد آخر ما هو الدور الذي يمكن أن يمارسه أبو قتادة بعد تبرئته من التهمم المنسوبة إليه؟ وما هي الخيارات الممكنة والمتاحة له؟ بحسب الباحث في شؤون التيارات الجهادية، والقريب من أبي قتادة، مروان شحادة فإن أبا قتادة عالم وداعية، وسيكون المجال مفتوحا أمامه لممارسة نشاطاته العلمية والدعوية.
وبخصوص طبيعة علاقته بالسلفية الجهادية في الأردن مستقبلا، وهل سيكون له دور قيادي فيها؟ قال شحادة لـ"عربي 21" إن الشيخ أبا قتادة أجابه عن ذلك بأنه لا يوجد تنظيم للسلفية الجهادية في الأردن أصلا حتى يكون له أي صفة قيادية فيه، مشيرا إلى أنه لم يكن له أية صفة تنظيمية مع أي أي جهة أو جماعة، وأنه لم يبايع أحدا طوال مسيرته الطويلة السابقة.