عندما اندلع الحراك الثوري في تونس (17 ديسمبر 2010) كانت مقرات الحزب الحاكم حينها "التجمع الدستوري الديمقراطي" هدفا للمتظاهرين حيث تم إحراقها وتخريبها بالتوازي مع مراكز الشرطة في تعبير صريح عن شعور جماهير الناس بأن النظام القائم يرتكز في حكمه على أداتين، إحداهما قمعية صلبة تمثلت في القوى الأمنية والثانية هي الأداة السياسية التي تبرر للحاكم قمعه وطغيانه السياسي كما تمثلت في حزب التجمع الحاكم .
وبعد فرار رأس النظام ورمزه وبداية تشكل مشهد سياسي جديد كان من أوكد واجبات التحول الجديد تصفية الحزب الحاكم وأذرعه المتعددة (الطلابية والشبابية والنسائية) غير أن المرحلة اللاحقة من عمر الانتقال الديمقراطي التونسي ستشهد ظهور أحزاب كثيرة تجد جذورها في حزب التجمع الحاكم. فكيف يمكن تفسير ظهور الأحزاب؟ وما هي تشكيلاتها الأساسية وما مدى انتشارها وتأثيرها على المشهد السياسي التونسي؟
التجمع الدستوري الديمقراطي: حزب الدولة ودولة الحزب
بعد وصول ابن علي إلى السلطة إثر انقلاب 7 نوفمبر 1987 وجد نفسه وريثا طبيعيا للحزب الحاكم منذ الاستقلال "الحزب الاشتراكي الدستوري" والذي تعرض إلى حالة من الاهتراء وفقد الكثير من مقوماته كحزب سياسي ليتحول إلى مجرد أداة سلطوية بامتياز، فإذا كان هذا الحزب قد تأسس تاريخيا على قيمة فوق ـ سياسية مستندة إلى فكرة الحزب القائد لحركة التحرر الوطني.
وبعد الاستقلال تخلص بورقيبة من الجناح اليوسفي وقام بتأميم الحياة السياسية والمدنية لمصلحة حزب واحد اختزل في داخله كل الحراك السياسي وفرض ارتباطا عضويا مع كل المنظمات المدنية (الاتحاد النسائي، الاتحاد العام لطلبة تونس الذي انفصل بداية من 1971، اتحاد الأعراف، الاتحاد العام التونسي للشغل الذي سينفصل عمليا عن هذه التبعية بداية من سنة 1978)، وقد شكل فك الارتباط العضوي الحاصل بين الدولة والحزب القضية المركزية لكل القوى السياسية المناوئة للسلطة حينها واعتبرته مدخلا ضروريا لكل عملية ديمقراطية ممكنة في البلاد ومع تولي ابن علي السلطة وحصول نوع من الانفراج السياسي في بداية عهده تصورت معه بعض أطراف النخبة السياسية إن الخطوة الأولى الضرورية لترسيخ المسار الديمقراطي المنشود سيكون مرتبطا ضرورة بالخطوات التي سيتخذها الوافد الجديد الى قصر قرطاج من الحزب الجاثم على أركان الدولة غير أن الذي حصل هو إعادة إنتاج الحزب الدستوري بكل سوءاته ومن خلال تشكيل جديد لصورته تم تسميتها التجمع الدستوري الديمقراطي.
لقد تم تشكيل هذا الحزب انطلاقا من ذات آليات عمل حزب بورقيبة (الحزب الاشتراكي الدستوري) ففي أول اجتماع لها يومي 26 و27 فبراير 1988 سجلت اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الدستوري في تركيبتها التي تعود الى ما قبل 7 نوفمبر "أن الحزب الاشتراكي الدستوري اضطلع بأمانة تاريخية ورسالة حضارية حقق بفضلها تحرير الوطن من ربقة الاستعمار و بنى الدولة العصرية وأرسى النظام الجمهوري وأنجز عديد المكاسب الوطنية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" وقد بدأ بعدها الإعداد لانطلاقة الحزب بتسمية جديدة حيث انعقد مؤتمر "الإنقاذ" أيام 29 و30 و31 جويلية 1988 وليستقر الأمر على تسمية الحزب الحاكم بصيغته المعدلة "التجمع الدستوري الديمقراطي" وجاء في اللائحة السياسية للمؤتمر "إن استبدال الاسم من الحزب الاشتراكي الدستوري الى التجمع الدستوري الديمقراطي ليس مجرد إجراء شكلي وإنما ليكون هذا التنظيم مفتوحا لكل المواطنين الراغبين في الانضمام الى هياكله" وبالفعل فقد شهد الحزب الجديد تجديدا واضحا في الهياكل بلغت 80 % في الجامعات (وهي الهياكل التنظيمية التي تضم القيادات الوسطى المنتشرة في الجهات)، وفي الواقع أن المنضمين الجدد لا يشكلون تيارا متجانسا فهم أصناف متعددة. الأغلبية الساحقة من الجدد انخرطت في العمل السياسي لأول مرة أما الأقلية المتسيسة فقد وفدت من عائلات فكرية وسياسية مختلفة، بعضهم دستوريون ابتعدوا عن الحزب أو ابعدوا عنه في العهد السابق. بعضهم استقالوا من أحزاب المعارضة، البعض الآخر من المستقلين الذين انتموا في فترات ما الى فصائل متنوعة من اليسار. غير أن ما يجمع بين كل هؤلاء المنضوين الجدد هو انتهازيتهم المفرطة ورغبتهم في الاستفادة من الحكم الجديد والسير في ركابه من خلال تقديم خدمات سياسية لتبرير نظام الاستبداد الذي بدأ يؤسس له بن علي مباشرة بعد وصوله للحكم.
فمنذ انتخابات الثاني من أبريل 1989 الرئاسية والتشريعية احتكر التجمع الدستوري الديمقراطي كل مقاعد البرلمان وهيمن على المشهد السياسي من خلال تحوله الى جهاز جماهيري ملحق بالسلطة يؤدي خدمات بوليسية (التجسس على المعارضة) وأخرى تبريرية من خلال تسويق الخطاب الرسمي للحكم المطلق بين الطبقات الشعبية مستفيدا في ذلك من انتشاره الواسع حيث يكشف كتاب “التجمع الدستوري الديمقراطي التحولات التاريخية ورهانات التغيير” الصادر سنة 2008 عن جريدة الحرية لسان الحزب الحاكم مختلف الإحصائيات حول حزب التجمع ومن أبرزها: 2 مليون منخرط و8803 شعبة دستورية و362 جامعة و28 لجنة تنسيق و508 شعبة في خارج تونس تمسح 50 ألف منخرط، غير أن هذه الأعداد الضخمة من المنتمين لم تكن تشكل سوى جسما وهميا انكشف عجزه وتفككه أثناء الثورة الشعبية التي اندلعت بتاريخ 17 ديسمبر 2010 وهو انهيار تفسره جملة من العوامل يمكن اختصارها كالتالي:
ـ لم يكن التجمع الدستوري الديمقراطي يتأسس على إيديولوجيا محددة بقدر ما هو "تجمع" لفئات سياسية واجتماعية تربطها المصلحة والريع المتأتي من الارتباط الوثيق بين الحزب والدولة.
ـ مثل الحزب الحاكم حينها المدخل الوحيد لنيل المناصب السياسية والإدارية العليا وهو ما دفع الكثير من الطامحين الى نيل هذه المواقع إلى الانخراط في الحزب.
ـ شكل الدور الذي لعبته "شعب" الحزب و"جامعاته" من الناحية الأمنية مصدر خوف لدى قطاعات واسعة من الشعب التونسي إذ يكفي أن يصل تقرير حزبي بأحد الأشخاص الى السلطات لكي يفقد جملة حقوقه في التوظيف العمومي أو الحصول على جواز سفر وانتهاء بالدخول الى السجن في أحيان كثيرة وهو ما دفع قطاعات كثيرة إلى الانخراط في صفوف التجمع من باب حماية الذات من خطر تغول الدولة البوليسية.
ـ لعب عامل القبلية والانتماء الجهوي دورا في ترسيخ دور التجمع الحاكم حينها بوصفه حاميا لمصالح كثيرة تمت مراكمتها منذ نشأة دولة الاستقلال.
إن هذه العوامل وغيرها هي التي ضمنت تواصل هيمنة الحزب طيلة فترة حكم الرئيس المخلوع ابن علي غير أنها سرعان ما انهارت أمام الحراك الشعبي الذي شهدته تونس حيث كانت الثورة في تصاعدها معمدة بحرق مقرات التجمع الدستوري الديمقراطي وليشكل تاريخ 9 مارس 2011 إحدى اللحظات المظفرة للثورة التونسية حين أصدرت الدائرة المدنية 28 بالمحكمة الابتدائية بتونس حكمها في قضية التجمع الدستوري الديمقراطي وقررت حله وتصفية ممتلكاته وتحويلها الى أملاك الدولة.
الأحزاب التجمعية ما بعد الثورة:
لئن شكل حل "التجمع الدستوري الديمقراطي" علامة على نهاية مرحلة غير انه لم يكن دليلا على اضمحلال القوى المستفيدة سابقا من وجود هذا الحزب في السلطة بل إن أطرافا كثيرة من المنتمين إليه وجدوا أنفسهم يتصدرون المشهد بعد الثورة خاصة وان الانتقال السياسي في تونس لم يكن عنيفا ضد أنصار النظام السابق وإنما حافظ على نوع من الاستمرارية داخل أجهزة الدولة التي كان يحتكرها فعليا هذا الحزب، استمرارية كانت واضحة من خلال تولي فؤاد المبزع رئيس برلمان بن علي وعضو اللجنة المركزية للتجمع منصب رئاسة الجمهورية وأيضا تولي شخصيات تجمعية معروفة لمناصب مهمة على النحو الذي مثله الباجي قايد السبسي رئيس الحكومة التي ستقود المرحلة نحو انتخابات المجلس التأسيسي. وقد تمكنت بعض القوى الحزبية المتحدرة من التجمع المنحل من إعادة التشكل مستفيدة من فوضى الأحزاب التي عرفها المشهد السياسي بعد الثورة ولتتمكن من المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي وتفوز ببعض المقاعد فيه. إن سرعة التشكل وإعادة هيكلة ذاتها التي سارعت إليها القوى المتولدة عن التجمع الدستوري تعود الى عاملين أساسيين:
أولهما أن الثورة التونسية لم تعمد الى فعل استئصالي عنيف ضد أساطين النظام السابق بل حرصت على أن تسير ضمن عملية انتقال ديمقراطي سلمي يقوم على الانتخابات ومنطق التحالفات والتجاذبات السياسية مما سمح للقوى المنتسبة للحكم السابق أن تعيد التموقع في الخارطة السياسية.
ثانيهما: استفادت القوى الدستورية من التجاذب السياسي الحاد بين القوى الحزبية المختلفة خاصة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 حيث حاولت بعض القوى الحزبية المختلفة إعادة القوى التجمعية الى المشهد السياسي لاعتقادها أنها المكافئ الشعبي لحركة النهضة وحلفائها في "الترويكا" الحاكمة وهو الأمر الذي سيتجسد في تشكيل ائتلاف حزبي يحمل "الاتحاد من اجل تونس" ضم كل من حركة نداء تونس (بزعامة الباجي قايد السبسي) وأحزاب أخرى يسارية وليبرالية، وسيكون لمنطق التحالفات التي تستهدف الإطاحة بحكومة الترويكا دورها في بناء ما سيعرف لاحقا بجبهة إنقاذ تونس (ربما تأسيا بالنموذج المصري من حيث إستراتيجية التسمية والممارسة) التي ستقود تحركات في الشارع واعتصامات متواصلة (أبرزها اعتصام الرحيل) وهو ما سيسفر لاحقا عن تغيرات متسارعة في المشهد السياسي كشفت عن جملة من النقاط من أهمها المرونة التي أبدتها حركة النهضة من حيث قبولها الحوار مع الجميع بما فيه الطرف الذي يمثل القوى المنتمية للنظام السابق بوصفه رأس حربة الثورة المضادة وهو الأمر الذي سيفوت الفرصة على المجموعات الحزبية الانقلابية من حيث فشلها في التحشيد السياسي وعزل حركة النهضة ومن ثم الحكومة التي تشارك فيها وصولا الى تشريع الانقلاب عليها.
الأمر الثاني عمدت القوى الحزبية المنحدرة من النظام السابق إلى التخلي عن حلفائها من اليسار ممن تصوروا أنهم قد تمكنوا من تسخيرها لصالحهم وهو أمر تجلى في غياب أي تحالفات انتخابية ما بين القوى الدستورية وبعض المجموعات اليسارية الصغيرة ولتصل الأمور إلى حد الحديث عن تحالفات ما بعد انتخابية ممكنة بين بعض الأحزاب الدستورية وحركة النهضة.
لقد كان الدرس الأساسي للحراك الحزبي في تونس يتلخص في أنه من الصعب إلغاء أي طرف مهما كان بما فيه القوى الدستورية التي ظهرت بعد تشظي حزب التجمع الدستوري الحاكم سابقا وأن هذه القوى ذاتها ورغم ما فقدانها للكثير من نفوذها الناجم عن ارتباطها الدائم بالدولة لازالت قادرة على إلحاق الأذى بالانتقال الديمقراطي في تونس دون أن ينفي هذا أن بعض القوى الدستورية قد انسجمت فعلا في المشهد السياسي الجديد وربما من المثير للانتباه أن بعض الأحزاب والقوى الغير تجمعية (نسبة للحزب الحاكم السابق) كانت أكثر عدائية ورغبة في ضرب المسار السياسي خاصة الأحزاب التي لازالت ترزح تحت ثقل الايديولوجيا المناوئة للتيار الإسلامي والتي تمعشت طويلا في ظل نظام ابن علي دون أن تكون جزءا من الحزب الحاكم. فاللعبة السياسية معقدة وهي أشد إلغازا من أن تكون خاضعة لأحكام قطعية وتصنيفات نهائية حول من يسعى فعلا للإطاحة بالعملية الديمقراطية ومن لديه الاستعداد رغم تاريخه المثقل بالاستبداد أن يتعاطى سياسيا مع التغيرات الكثيرة التي تشهدها تونس ما بعد الثورة.