عندما تشكلت دولة ما بعد
الاستقلال في
المنطقة العربية ورثت جملة من المشاكل المزمنة مثل قضايا الحدود والارتباط السياسي والاقتصادي بالمحتل السابق بالإضافة الى قضايا الأقليات والمجموعات
الطائفية بأحجامها المختلفة ، ولأن خيارات ما بعد الاستقلال لم تكن ناجعة في تأسيس دولة حديثة بالمعنى الذي تحدث عنه يوما ماكس فيبر بوصفها "مجتمع إنساني يدعي بنجاح احتكار الاستخدام الشرعي للقوة المادية في ارض معينة" حيث سرعان ما انزاحت الى شخصنة السياسة وربط الدولة وقراراتها بالحزب الحاكم وبالزعيم الملهم الذي حرر البلد أو الأسرة الحاكمة التي تحتكر فعليا كل الموارد وتمسك بيدها كل مقاليد النفوذ والسلطة خلافا للدولة الحديثة حيث لا يمتلك رئيس الدولة الحكومة والجيش والإدارة والموارد وحتى السكان وهذه الصفة غير الشخصانية والاستناد الى
القانون أولا يعطيان الدولة الحديثة شرعيتها.
وهذا الفشل في بناء دولة الحقوق والحريات خارج الإرادة الشخصية للزعيم والحزب القائد أفضى الى نشأة نمط من الحكم الاستبدادي المغلق القائم على شراء الذمم والسعي نحو كسب الولاءات وأدى الى نوع من الرهان على الأقليات التي وجدت ضالتها في ممارسة السلطة خارج منطق المواطنة المعتاد وإنما من خلال النفاذ الى أجهزة الدولة والتصرف بوصفها قوى ذات مصالح ممتدة داخل أروقة السلطة وفي حالات أخرى تم إقصاء هذه الأقليات واستخدامها فزاعة لخلق نوع من الالتفاف حول السلطة القائمة بوصفها الحامية للمشروع الوطني ضد مجموعات عرقية أو طائفية تسعى لخدمة أجندات خارجية مفترضة كما يروج لذلك المستبد الحاكم والدوائر القريبة منه.
لقد تمت شخصنة السلطة وخصخصة وسائل الإدارة وأدوات القمع لمصلحة جهات معينة فرضت نفسها لاعبا مركزيا محددا لمصير الوطن بأكمله وهو ما يمكن ملاحظته في النموذج السوري والدور الذي لعبته الأقلية العلوية أو حتى في النموذج العراقي زمن صدام حسين حين تم اختطاف الدولة لمصلحة الحزب وربما كانت اليمن من النماذج التي خضعت فيها الدولة لهيمنة القبيلة و لصراعات الجماعات المذهبية والطائفية ،إن سوء بناء دولة ما بعد الاستقلال حولها بشكل ما من مؤسسة مركزية شرعية الى طرف في صراع شامل يشق المجتمع ويفعل فعله بصورة تدريجية (الانقلابات المتتالية في سوريا والحرب الأهلية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات والصراع اليمني بين القبائل والرئيس الحمدي والحرب الأهلية ما بعد الوحدة ..).
ولم يكن ضروريا أن تكون هذه الدول دائما ميدانا لحرب مدمرة على الطريقة الصومالية على الرغم من حصول موجات عنف واضطرابات إلا أن مؤسسات الدولة تعاني حالة من الاهتراء وتحولت السلطة المركزية الى نمط من الحكم المافيوي يتعاضد فيه أصحاب النفوذ من عسكريين ورجال أعمال فاسدين (على الطريقة المصرية) أو هيمنة لوبيات أقلوية تمارس النهب المنظم تحت ستار السلطة الحاكمة.
إن هذا الفشل في بناء دولة حديثة قائمة على القانون والاختيار الشعبي هو الذي أفضى الى حالة الاضطراب التي نراها اليوم اثر انفجار الأوضاع في غالب الدول العربية فمن خلال الخراب السياسي الذي خلفته الفئة الحاكمة تشكلت أسوأ الأفكار وأشدها عنصرية حيث عادت القبلية والطائفية لتأخذ موقعها بصورة حادة مستفيدة من ضعف الدولة ومن مراكمة ارث كامل من الرغبة في الانتقام ومن الحقد بسبب التنمية الاقتصادية غير العادلة وعدم المساواة والفساد وجرائم أجهزة الدولة وعنفها ضد المواطنين وأخيرا من التدخل الخارجي من دول أخرى أو من قوى شبه دولية نافذة، كل هذه العوامل تفسر الصعود القوي لجماعات طائفية على نحو ما نرى من هيمنة الحوثيين على العاصمة اليمنية واختطاف أجهزة الدولة أو تمدد تنظيم الدولة (داعش) في ظل دولة المحاصصة الطائفية التي نشأت في العراق اثر الغزو الأمريكي.
إن هذه الانهيارات المتتالية لدولة ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية لم يكن حدثا طارئا بالنسبة لكل متابع سياسي جاد فالفوضى تماما كالتنمية تحدث تدريجيا وهي تنبني على مراحل سابقة تشكل الحاضنة الخصبة لها والتي تمدها بأسباب البقاء وربما الاستمرار.فمع انهيار هيكل الدولة أو ضعف قبضتها التي كانت ترتبط بسلطة المستبد أو بالحزب الواحد يبدأ انهيار الإدارة وتظهر الجماعات المسلحة بخلفياتها الطائفية أو القبلية أو الإيديولوجية لتمارس نفوذها وتفرض الضرائب والقيام بعمليات السلب والنهب (وهو ما جرى مثلا بعد هيمنة الحوثيين على العاصمة صنعاء حيث تم اقتحام البيوت والاستيلاء على أسلحة الجيش ) وحيثما تكون الدولة غائبة تنشأ هذه الجماعات لتحكم العشوائيات وتحولها الى شبه دول صغيرة يمارس فيها زعيم التنظيم نفوذه ويفرض شروطه وينفذ قوانينه الخاصة.
لقد تحولت بعض الدول العربية في ظل تصاعد نفوذ الطائفة وضعف الدولة المركزية الى مجرد كيان رمزي له علم ومقعد في الأمم المتحدة ولكنه لا يملك قراره الفعلي وإنما يخضع الى مزاج زعماء الجماعات على الأرض والى املاءات القوى الدولية الكبرى على المستوى الخارجي ، وضعٌ يجد جذوره في طبيعة تشكل هذه الكيانات السياسية ذاتها حيث فشل الحكام في لحظة التأسيس في بناء دول حديثة تضمن الحقوق والحريات وتتعامل مع حاملي جنسياتها بوصفهم مواطنين متساوين في الحقوق خارج التوصيف العرقي أو الطائفي وفي ظل الفوضى التي تشهدها المنطقة اليوم وتصاعد نغمة الصراع الطائفي يمكن التأكيد على ما قاله يوما راشد الغنوشي من انه " ليس أمام الشرق الأوسط غير التوجه نحو الديمقراطية والتقدم أو النكوص نحو الطائفية"مع ما يعنيه من انهيار للدولة الوطنية واضمحلالها ونشوء كيانات قزمية غير قادرة على الإيفاء بمطالب الشعوب في الحرية والكرامة الوطنية.