لقد كشفت زيارة وفد حركة المقاومة الإسلامية "
حماس" إلى
السعودية عن مجموعة من الحقائق التي ينبغي لها أن تبدد عددا من
الأوهام التي راجت في الفترة الأخيرة، سواء لدى بعض من جمهور الحركة، أو بعض الإسلاميين الذين بالغوا في الرهان على تحولات الحكم في السعودية، كما بالغوا في التملّق للحكم الجديد، أو لدى شانئي الحركة، لا سيما من جمهور المحور الإيراني الذي يتسم بدوغمائية عجائبية مثيرة للازدراء قبل أي شيء، بيد أنها بدلا من ذلك عززت تلك الأوهام، أو خلقت بدورها أوهاما جديدة.
فهذه الزيارة أولا، تبين مدى الخفّة والتعلق بحبال الأماني التي لا آخر لها، حينما روّج بعض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي في وقت سابق، قبل بضعة شهور، أخبارا كاذبة عن زيارة قام بها الأخ خالد
مشعل للسعودية، وانساق لها عدد من الشخصيات العامة والمواقع الإخبارية، واستحقت جهدا مضنيا لنفيها ممن كان لديهم اليقين بأن هكذا زيارة لم تتم في زمن يكثر فيه أدعياء المعرفة ببواطن الأمور، ثم انبنى على هذه الأخبار الكاذبة، أو أجواء التوهّم المتضخمة التي انتفشت في ذلك الوقت؛ أكاذيب أخرى حول قيام حماس بأدوار لصالح السعودية في الملف اليمني، أو في التوسط مع بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين، وحول قيام السعودية بالسعي لصالح حركة حماس لدى النظام الانقلابي في مصر، وهي أخبار وإن رغب في تصديقها بعض من الإسلاميين على مثال "يحسبه الظمآن ماء"، فقد بنى عليها مهووسو إيران، وعبيد حزبها اللبناني، ومستحثات خرافة اليسار العربي، ادعاءات تتسق تماما مع هوسهم المرضي، إذ تدعي ارتماء حماس النهائي في الحضن السعودي "بعيدا عن المقاومة" (يا للسخرية!)، وهي ادعاءات ما كفّ هؤلاء المعوّقون عقليا وضميريا عن تردادها منذ خلاف حماس الشهير مع إيران حول الموضوع السوري.
وإذن، فلم تتمكن قيادة حماس، قبل هذه الزيارة، من تحقيق أي اختراق مع العهد السعودي الجديد، ولو على مستوى إنجاز زيارة خاطفة، إلا في اليوم الأخير من رمضان، كما قد تبين بأن للحركة معتقلين لدى السعودية منذ عام تقريبا، بعضهم من الصف المتقدم جدا في قيادة الحركة، ولا ينبغي للحصيف إزاء ذلك أن يتردد في التوقع بأن هذا الاعتقال قد ترتبت عليه أضرار كثيرة على المستوى الفردي للمعتقلين، أو لمن يرتبط بملفاتهم من عناصر الحركة، أو للحركة ذاتها، وكل ذلك على أهميته جزء من السياق العام الذي يبين بأن هذه الزيارة هي أول اختراق، بصرف النظر عن حجمه، منذ القطيعة الفعليّة التي فرضتها السعودية من بعد فشل اتفاق مكة وانفجار الأحداث التي أفضت إلى الانقسام في العام 2007.
وإذا كانت الحركة لم تتمكن من تحقيق هذا الاختراق إلا بعد كل هذا الوقت، وفي اليوم الأخير من رمضان، حيث صدرت التأشيرة في اليوم الثامن والعشرين من رمضان، وفي اليوم التالي لاتفاق القوى الغربية مع إيران حول برنامجها النووي، وبعد جهود متراكمة وطويلة بذلتها قيادة الحركة وتدخلت فيها وساطات متعددة، وإذا كانت الحركة طوال عام على الأقل تتكتم عن وجود معتقلين منها لدى السعودية، معوّلة كعادتها مع الدول العربية في هكذا ظروف على الجهود الهادئة بعيدا عن التصعيد، وإذا كانت هذه الملفات لم تتزحزح إلا مع الزيارة الأخيرة، فلا شك إذن بأن كل ما قيل خلال الفترة السابقة على الزيارة حول تطورات جديّة في علاقة حماس بالسعودية لم يكن صحيحا، سواء روّج لذلك بعض الإسلاميين وبعض من جمهور الحركة، أو روّج له محازبو المحور الإيراني.
وتلك التجربة مع الفريقين، أي مع أماني ورغبات الإسلاميين المعوّلين على العهد الجديد في السعودية، ومع ادعاءات وأكاذيب مهووسي إيران، ينبغي أن تفرض على الفريق الأول مزيدا من التأني والتحفظ حين التعبير عن التطور الجاري والتحرر في سياق ذلك من إغراءات الأماني والاحتراز من السقوط في الأوهام وتضليل الجماهير، وعلى الفريق الثاني شيئا من الحياء الذي يحدّ من جرأتهم على الكذب والتصرف كأوصياء على حماس وعلى المقاومة (يا للسخرية مرة ثانية!).
والاحتراز هنا ليس نفيا لأهمية الزيارة، فمجرد انتهاء القطيعة والسماح لقيادة حماس بزيارة السعودية لا يخلو من أهمية، بصرف النظر إن كانت قد جاءت نتيجة لجهود حماس والوساطات التي تدخلت لصالحها، أو جاءت نتيجة لتحولات في التفكير السعودي، أو نتيجة لاتفاق النووي، أو نتيجة لذلك كله، لكن لا ينبغي على المرء أن ينساق في الدفاع عن الزيارة ردا على الهوس المرضي الذي يبديه المختلون من محازبي إيران؛ إذ تخلو مواقفهم وبذاءاتهم من أي معقولية، وتحيل النقاش للبحث في العلل العقلية والنفسية التي تخيّل لهؤلاء بأن إيران وصية على حماس وخياراتها وعلاقاتها، علما بأن علاقة حماس بالسعودية أثناء وجود قيادة حماس في دمشق، واحتفاظها بعلاقات متينة مع إيران، كانت أفضل بكثير من الشكل الذي تحقق في الزيارة الأخيرة، وهو ما يعني أن جمهور المحور الإيراني عاجز عن فهم ماذا يعني أن تكون ذاتا مستقلة عن إيران، والنقاش ينبغي أن يتركز هنا، وليس دفاعا عن الزيارة.
بيد أن الإفراج عن المعتقلين هو الإنجاز الأهم لهذه الزيارة، سواء على المستوى الإنساني من جهة المعتقلين أنفسهم وعائلاتهم، أو على المستوى التنظيمي من جهة أهمية ذلك في ترميم الأضرار التي تعرضت لها مصالح الحركة وعلاقاتها الداخلية جرّاء ذلك الاعتقال.
لكن هذه الأهمية لم تصل إلى الحدّ الذي يبرر الحديث عن تحولات جذرية في تفكير الحكم السعودي الحالي تجاه حماس، فحتى على مستوى شكل إنجاز الزيارة، بعيدا عن المبالغة والبيانات الموهمة، فإنه كان أقل مما اعتادت عليه قيادة حماس سابقا، فتهنئة رؤوس الدولة الثلاثة بالعيد في جملة المهنئين والاجتماع بأحدهم (الأمير محمد بن سلمان) في لقاء قصير، لا يكفي للاستدلال به من حيث الشكل على تحولات جديّة، فضلا عن المضمون الذي لم يتغيّر فيه سقف السعودية من حيث تمسّكها بالمبادرة العربية، وأخذها عداء الأمريكان للحركة وضرورة إنجاز الهدنة بعين الاعتبار. وهذا بالإضافة إلى أن أبعاد إنهاء ملف المعتقلين لم تتضح بعد، فهل هو إغلاق نهائي يشمل المعتقلين المفرج عنهم وكل من ارتبط اسمه بالملف من غيرهم أم لا؟! هذا ليس واضحا بعد.
لقد كانت الزيارة مهمة ومنجِزة، لكن ما حصل لا يعدُّ بعدُ اختراقا عظيما، وإن كان الاحتمالات مفتوحة للبناء عليه، مع ضرورة ألا يكون ثمن البناء من مواقف الحركة بخصوص القضية الفلسطينية، أو بخصوص الملفات العربية والإقليمية، ومن الجهة المقابلة، فإن هذا الاختراق لا يقوى على احتمال الهذيان الذي اقترفه بعض الإعلام الإيراني.
إن المسؤولية تجاه جمهور حركة مقاومة عظيمة، هي حماس، وتجاه الجمهور الكبير والواسع للحركة الإسلامية، التي تعاني اليوم أشدّ محنها، والتي هي بعض من محنة الأمّة الكبرى؛ تفرض على صناع الرأي الدقّة والأمانة حين التعبير عن هكذا تطورات، بعيدا عن المبالغة والإيهام، وهو القول الواجب أيضا في حقّ القادة وصناع السياسة من أبناء هذه الحركة.