"كيف يحتاج دم بهذا الوضوح إلى معجم طبقي لكي يفهمه؟!"
مظفر النواب
...
لأمر ما تبقى
رابعة مجزرة العصر، برغم كل ما شهدناه من قهر وظلم وقتل ودموية، فاقت حتى أسوأ كوابيسنا خلال السنوات الأربع الماضية. ولأمر ما تبقى هذه المجزرة فضيحة عصرنا "كلنا" أيضا، ولعنة تلاحق كل القتلة- القتلة و"المفوضين"- القتلة، والشامتين- القتلة، والمحايدين- القتلة!
لأمر ما تبدو "رابعة" حدثا من النوع الذي لا يمكن الحديث عنه بجملة متبوعة بكلمة العار "لكن". فهذه الـ"لكن" تنسف ما قبلها من إدانة وادعاء للإنسانية ورفض للظلم، وتضع قائلها في خانة لا تمت بصلة للإنسان ولا للحداثة ولا للأخلاق، وتحوله إلى مجرد لاعب بالكلمات والدم على حد سواء، وتحول كلماته المحسوبة بحذر المدعي للموضوعية عن إدانة الجريمة إلى إدانة للقتيل، وإدانة للدم المسفوح على الهواء مباشرة، وإدانة للقيم الإنسانية كلها، ما عرفنا منها وما لم نعرف بعد.
في رابعة تتجسد الشعارات العابرة للأديان والحضارات، ففيها خلود شعار هابيل "لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني..."، وفيها دم المسيح المصلوب و"درب آلامه"، وفيها انتصار دم "الحسين" على سيوف قاتليه، وفيها شعارات بوذا وسلمية غاندي، وفيها "سلمية المعتصمين" التي هي أقوى من "رصاص القتلة".
ولأنها تلخص كل هذا الموروث الديني والحضاري والإنساني، وكل هذه الشعارات، فإنها تبقى جريمة العصر من جهة، وأيقونة التضحية والفداء من جهة أخرى، وهي لذلك لا يمكن أن تناقش بهدوء المحلل، وانتهازية السياسي، و "خسة" الأيديولوجي الذي عماه انتماؤه واصطفافه عن رؤية الدم، وعن الاستماع لأنّات الضحايا المقتولين في "الممرات الآمنة" المزعومة، وعن رؤية الحق بأبهى صوره ووضوحه والظلم بأبشع تمظهراته وسفالته ودناءته.
في رابعة اجتمع الفقراء ليواجهوا سارقيهم وسارقي وطنهم "بالتكافل"، وليواجهوا قاتليهم "بالبهجة"، وليقاتلوا الرصاص بالكلمة والأغنية والمشهد التمثيلي، في واحد من أطول الاعتصامات الجماهيرية المستمرة عبر التاريخ، وفي تجربة فريدة من الصراع بين الحرب والحب، ومن مناطحة الكف للمخرز.
ولأنه اجتماع بشري لا ملائكي، فقد شابه بعض الأخطاء الصغيرة، ولكنها أخطاء تتضاءل عند حجم التضحية والفداء، وتتراجع أمام معاني المقاومة والثورة، وأي ثورة أكبر من اعتصام كان يعيش على تخوم الموت اليومي؟ وأي مقاومة أعظم وأطهر من انتظار الموت المحدق من بنادق "الأشقاء" بصدور عارية وأرواح عالية وثابة؟ وأي أخطاء تلك التي يتحدث عنها مدعو الحيادية في قصة عشق
مصرية خالصة؟
لقد طهر الدم المسفوح في رابعة أخطاء المعتصمين، ولهذا فإن الحديث عن هذه الأخطاء بعد الجريمة الأولى في التاريخ -التي تبث على الهواء مباشرة في عصر الفضاءات المفتوحة- هو "حياد بارد"، ومجرد محاولة بائسة للتكفير عن ذنب "التفرج" على المجزرة والامتناع عن الانتصار للدم الذي طهر ميدانا صار رمزا عالميا لا مصريا فقط، وأرخ لأسطورة شعبية عربية تتضاءل عندها أساطير شعبية طالما تغنى بها شعراء العالم وأدباؤه.
ومن المساخر أن كثيرا ممن يلومون "
الإخوان" على صمودهم في الاعتصام، ويتهمونهم بالمضي في صراع حتمي النتائج إلى آخره، هم من الذين يلومون الإخوان أيضا لأنهم لم يدعموا الصامدين في مواقع أخرى للصراع حتمي النتائج، مثل "مجلس الوزراء" و"محمد محمود" و"العباسية" وغيرها، ولئن كانوا محقين في نقدهم لتقاعس الإخوان عن هذه المواقع، وهم محقون فعلا في ذلك، فكيف يستقيم نقدهم والحال هذه لصمودهم في رابعة والنهضة؟
لقد كانت رابعة نقطة فاصلة في الصراع بين الظلم والاستبداد وبين النقاء الثوري، وخطا فاصلا بين الإنسانية والتوحش، ودما صادقا طهر كل ما علق بالثورة من درن، ولهذا فإنها أيضا ستبقى خطا فاصلا بين الوقوف مع الحق دون شروط، وبين "الحياد البارد" الذي لا يصلح في مفاصل التاريخ التي لا تتكرر إلا مرة واحدة كل ألف سنة!