لا شك في أن التناقض والصراع بين النقيضين أو في ما بين الأطراف المتناقضة قانونٌ حاكم، أو سُنَّة جارية، في الكوْن وفي الطبيعة وفي المجتمعات من جهة، كما لا شك في
الميزان أو التوازن والتعايش في وحدة وفي اتساق، أيضاً، قانون حاكم، أو سُنَّةجارية في الكوْن وفي الطبيعة وفي المجتمعات، بل هو الوجه الغالب والحاكم للتناقض وصراع المتناقضات من جهة أخرى.
وهذان الوجهان عبّر عنهما
القرآن في كل آيات التدافع والاختلاف والتنوّع من جهة وآيات إنزال الميزان والتوازن والتآلف والعدل والاعتدال والوسطية من جهة أخرى. وذلك باعتبار هذه الآيات بصورة مباشرة، وغير مباشرة، تعبّر عن هاتين السُنَّتين الجاريتين، أو القانونَيْن الحاكِميْن في مجموعتنا الشمسية وكرتنا الأرضية وفي كل ما فيها وعليها، بما في ذلك عالم الانسان والمجتمعات والجماعات.
لو قرأ
ماركسي أو
هيغلي الجزء الأول الذي أشار إلى سمة التناقض وصراع التناقضات لوافق عليه واعتبره أصل المنهج
الديالكتيكي. ولكنه سيعترض على الجزء الثاني المتعلق بإنزال الميزان اعتراضاً يرفض الإنزال من جهة ويرفض، أكثر، الميزان وما يستتبعه من توازن وتعايش ووحدة ما بين كل تناقض، غالباً، أو ما بين التناقضات وصراعاتها. وسيصبح الرفض للجزء الثاني أشدّ نكراً حين يعتبر أن الأصل في وجود هذا الكون وفي وجود مجموعتنا الشمسية والكرة الأرضية والطبيعة والانسان والمجتمعات هو غلبة الميزان والوحدة. وأن
صراعات الجزء الأول، وما ينجم عنه من حراك، محكوم بالجزء الثاني (الميزان)، ويجب ان يكون محكوماً له. ويجب أن يجعله أصله وهدفه كلما حدث خلل في الميزان والوحدة. بل لو لم يكن الأمر كذلك لاختلط الحابل بالنابل ولما اتسّمت مجموعتنا الشمسية وكرتنا الأرضية العتيدة وما يدور من حولهما وداخلهما بدرجة عالية من الثبات في ضبط معادلة ما هو متناقض- أي لتعذر الوجود أصلاً بما في ذلك وجود الكرة الأرضية. لأن البديل لو اعتبر بأن صراع الأضداد هو الأصل والأساس كما يذهب المنهج الديالكتيكي عند ماركس وإنغلز لتعذر أن يمضي الحراك أو العلاقة، بدرجة عالية، في شبه توازن وتكرارية ولمدى مئات الملايين من السنين الضوئية كما يحتسب العلم. وكذلك لم يحدّد القرآن عدد سنين البداية أو النهاية فنحن لا نعرف زمنه السابق او اللاحق.
ومن ثم هذه الملايين من السنين الضوئية وأكثر، أو هذا القدم وهذا القادم اللذان لا يحدّد القرآن لهما تاريخاً لبداية ونهاية يؤكدان أن الأصل هو ثبات الميزان والوحدة والحركة من أجل ضبط التناقضات والتدافع وكل حراك.
فصراع الأضداد إذا تُرِك لوحده بلا ضابط وميزان فستكون الفوضى المطلقة، ولما ثبت هذا الكوْن وهذه الكرة الأرضية، وما دامت الحياة فيهما وأساساً حياة البشر.
ولهذا إن الفارق بين منهج الديالكتيك ومنهج الميزان في القرآن كالفارق بين الجزء والكل، أو بين الفرع والأصل، أو بين التابع والمتبوع.
ولعل هيغل الذي نقل عنه ماركس منهج الديالكتيك، كان قد حاول إنفاذ الديالكتيك بجعله تحت سيطرة "العقل المطلق" عليه، أو جعل حركته متجهة نحو العقل المطلق. الأمر الذي جعل ماركس ينقد ديالكتيك هيغل ويعتبره واقفاً على رأسه بسبب إخضاعه للعقل المطلق. ومن ثم يعتبر تحريره من فرضية "العقل المطلق" تسويته بجعله يقف على قدميه. ولكنه بهذا أوقفه على رأسه، بدوره، أيضاً. وذلك حين لم يلحظ وجود الضابط له وهو ما أُنزِل من ميزان، أو الميزان بمعناه الواسع. ومن ثم تركه لفوضى غير حاكمة للعلاقات القائمة فعلاً في واقع الكون وكرتنا الأرضية.
فقانون التناقض بين ما يسمّى في العلم قوّة الطرد وقوّة الجذب، مثلاً: بين الشمس والكرة الأرضية أو بين مجموعة الكواكب والنجوم، لو لم يكن محكوماً بضابط الميزان لكانت المجموعة الشمسية غير ما هو قائم. هذا إذا بقي ما يُمكن أن يسمّى مجموعتنا الشمسية أصلاً. بل لما قامت أرضنا هذه أو لكانت هباءً منثورا.
هنا معضلة الديالكتيك حين لا يلحظ هذه الحقيقة الكونية بالنسبة إلى مجموعتنا الشمسية وكرتنا الأرضية. ومن ثم يذهب إلى التخبط حين ينتقل إلى فهم أو قراءة التناقضات وسمة التدافع (الصراع) على مختلف المستويات ولا سيما حين يمتد إلى المجتمعات والإنسان وإلى معالجة التناقضات. وذلك باعتماده قانون صراع الأضداد الديالكتيكي، بما يحمله، من قانون نفي النفي فيما يفتقر إلى الضابط: إقامة الميزان.
والضابط – الميزان – التوازن هنا هو ضبط وإقامة توازن للتدافع والصراع والحركة وليس الخمن والتعطيل. لأن شرط وجود التدافع والصراع هو أن لا تصل الأمور إلى التأسُّن والخراب والدمار. ولأن وجود شرط الضابط والميزان وإقامة التناقض أن لا تذهب الأمور إلى الفوضى والخراب والدمار كذلك.
فلكي يخلص الديالكتيك من الوقوف على رأسه كما هو حاله في منهجي كل من هيغل وماركس كانت مجموعتنا الشمسية وكرتنا الأرضية (وما فوقها وعليها وتحتها ومن حولها) بحاجة إلى أن ينزّل الميزان. ومن ثم لتكتمل وتتكامل أو قل "لتقف على قدميها" إذا جاز التعبير.