يتحفظ البروفيسور الأمريكي، فلسطيني الأصل،
وائل حلاق، على إطلاق "لفظ الدولة" في سياق توصيف طبيعة نظام الحكم الذي حكم المسلمون به أنفسهم طوال اثني عشر قرنا ما قبل المرحلة "الاستعمارية"، ويلحُّ كثيرا على إطلاق مسمى "نظام الحكم الإسلامي" كتسمية مفارقة في بنيتها وجوهرها وفلسفتها للدولة الحديثة.
بوضوح تام، يجزم حلاق بأنه "لم يكن ثمة دولة إسلامية قط. فالدولة شيء حديث، وعندما أقول (حديث) فأنا لا أشير إلى فترة زمنية معينة في موضع معين من مسار التاريخ الإنساني، فالحديث هو بنية معينة من العلاقات التي تتميز كظاهرة فريدة. إنه خاصية معينة".
ويوضح حلاق، أستاذ القانون الإسلامي وتاريخ الفكر الإسلامي بجامعة كولومبيا الأمريكية، وجه رفضه لاستعمال "
الدولة الإسلامية" باعتباره أن اللجوء إلى استعمالات مثل "الدولة الإسلامية" – ككيان وجد في التاريخ – ليس انخراطا في تفكير ينطوي على مفارقة تاريخية فحسب، بل ينطوي كذلك على سوء فهم للاختلافات البنيوية والنوعية بين الدولة الحديثة و"أسلافها"، خصوصا ما أسماه "الحكم الإسلامي".
لا يتأتّى النفاذ إلى جوهر أطروحة
الدولة المستحيلة إلا بالوقوف على تصور البروفيسور حلاق لنموذج الحكم الإسلامي، فتصوره المكتمل شكل النسق "الإسلامي" (بحسب بحثه ودراسته) الذي قارنه بنسق الدولة الحديثة، لينتهي به البحث إلى إعلان نتائجه النهائية القاطعة باستحالة إقامة الدولة الإسلامية، والتي لم تكن قط سابقا.
يشيح حلاق بوجهه عن "التجربة الإسلامية الحديثة وشريعتها" مخرجا إياها من الاعتبار، ومركزا بدلا من ذلك "على ما عنته الشريعة للمسلمين على مدار اثني عشر قرنا قبل الحقبة الاستعمارية عندما كانت ظاهرة نموذجية"، لافتا إلى "أن ممارسات تطبيق الشريعة في الدولة الإسلامية الحديثة لا صلة لها بأطروحاتنا في هذا الكتاب، ولا يمكن اعتبارها، ويجب عدم اعتبارها مقياسا لفهم الشريعة وتقويمها والحكم عليها كنموذج سابق على العصر الحديث".
نموذج الحكم الإسلامي
لا يصعب على قارئ تفاصيل نموذج الحكم الإسلامي الذي أطال حلاق النفس في شرحه وبيانه، تبين طبيعة ذلك النموذج الذي يتشابه إلى حد التطابق مع مبدأ "حاكمية الشريعة" الذي نَظَّر له بعناية فائقة، واهتمام بالغ كل من المفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي، والمفكر المصري سيد قطب، ولم تزد إضافات حلاق عليه عن توسعه في ذكر تفاصيل الشريعة (الفقه) وأحكامها، واعتنائه بإبراز الصفة الأخلاقية المؤسسة لتلك الأحكام والمفاهيم.
اقرأ أيضا: أطروحة "الدولة المستحيلة" بين مؤيديها ومنتقديها
فما هو الحكم الإسلامي وفقا لشرح حلاق وبيانه؟
من أبرز ما يميز الحكم الإسلامي النموذجي أن "الله هو الشارع الوحيد، وهو وحده صاحب السيادة والإرادة السيادية، وإذا كانت الإرادة السيادية في الدولة الحديثة ممثلة في القانون، فكذلك إرادة الله السيادية، وبمنتهى البساطة والوضوح، فإن قانون الله هو الشريعة، والشريعة هي الشرعة الأخلاقية، تمثيل لإرادته الأخلاقية التي هي الشاغل الأول والأخير".
ويتأكد المعنى السابق بـ"العلم بأن الله هو صاحب السيادة الأوحد في تحديد القيم الأخلاقية التي يقوم عليها الإيمان، فالله هو غاية الغايات، والوجود الدنيوي عرض زائل وحقيقة عابرة في نهاية المطاف، ويجب اعتبارها على الدوام جزءا من سياق كوني مبدع".
و"يقوم الحكم الإسلامي (الذي يوازي ما نطلق عليه اليوم اسم "الدولة") على أسس أخلاقية وقانونية وسياسية واجتماعية وميتافيزيقية مختلفة جذريا عن الأسس التي تدعم الدولة الحديثة، ففي الإسلام، تحل الجماعة (الأمة) محل شعب الدولة القومية الحديثة، والأمة شيء مجرد ومادي في آن معا، لكنها في كلتا الحالتين محكومة بالقواعد الأخلاقية ذاتها".
وفي بيان دار الإسلام ودار الحرب يقول حلاق: "وبصفة عامة فإن كل إقليم تطبق فيه الشريعة كقانون نموذجي يُعتبر مجالا إسلاميا أو دار الإسلام، وكل مكان لا تعمل فيه الشريعة، أو تُبعَد فيه إلى مكانة ثانوية أو متدنية، يعد دارا للحرب، أي إقليما يحتمل خضوعه لعملية هداية أو تحول إلى الإسلام سلما أو حربا".
وبيانا لطبيعة السيادة في نموذج الحكم الإسلامي المغايرة تماما في بنيتها وجوهرها عن السيادة في الدولة الحديثة أوضح حلاق أن "الدولة القومية هي غاية الغايات ولا تعرف إلا ذاتها، ما يجعلها ميتافيزيقيا الأساس الأسمى للإرادة السيادية، فإن الأمة وأعضاءها الفرادى وسيلة لغاية أعظم، ويتضمن هذا أن الأمة نفسها لا تمتلك السيادة ولا تمتلك إرادة سياسية أو قانونية.. فصاحب السيادة هو الله، الله وحده".
اقرأ أيضا: أطروحة "الدولة المستحيلة" بين مؤيديها ومنتقديها
ويشدد حلاق على تلازم القانوني والأخلاقي في نظام الحكم الإسلام النموذجي، "ففي التراث الإسلامي قبل الحديث وخطاباته، بما في ذلك القرآن (وهو النص المؤسس بالطبع) لم يُنظر إلى القانوني والأخلاقي باعتبارهما مقولتين منقسمتين، فقد كان "ما هو كائن" وما "ينبغي أن يكون" والحقيقة والقيمة الشي الواحد ذاته، ولم يكن التمييز قائما بأي طريقة من الطرق التي اتخذناها في العالم الحديث، كما أن هذا التمييز لم يوجد في أوروبا قبل عصر التنوير".
لماذا كانت الدولة الإسلامية مستحيلة؟
بعد شرحه لنموذج الدولة الحديثة، ونموذج الحكم الإسلامي، وبوقوفه على الاختلافات البنيوية والنوعية بين النموذجين، توصل حلاق إلى استحالة إقامة الحكم الإسلامي عبر الدولة الحديثة، وتتجلى تلك الاستحالة بشكل أوضح وأظهر، بمعاينة وجوه ومظاهر التباينات الأساسية بين النموذجين كما ذكرها وشرحها المؤلف.
فأول تلك التباينات الأساسية ناشئ عن "الميتافيزيقا"، و"الدولة ككيان متمركز حول الإنسان تمتلك ميتافيزيقا تستقر ضمن حدودها بوصفها إرادة سيادية، وتُولد الميتافيزيقا معانيها الخاصة، وهذا يعني أن نظراتها المعينة إلى العالم من صنعها وملتزمة بمعاييرها الخاصة... وعلى العكس تماما لا يمكن لأي شكل من أشكال الحكم الإسلامي أن يقبل بالوضعية أو بالمكان لأي شيء ميتافيزيقي يصدر عنها.. هكذا يقف نوعا الميتافيزيقا أمام طريق مسدود..".
ثاني تلك التباينات يتحدد في أنه "لا يمكن للحكم الإسلامي أن يسمح بأي سيادة أو إرادة سيادية غير سيادة الله، وهكذا يلتزم الحكم الإسلامي بإرادة سيادية خارجية عنه وأسمى منه، بينما تمثل سيادة الدولة الحديثة جدلية داخلية من التكوين الذاتي: فالسيادة تشكل الدولة وتتشكل بها. ومن الحتمي أن يصل هذا التصوران المتعاكسان عن السيادة إلى طريق مسدود".
أما التباين الثالث بين النموذجين فيظهر في أن "أي نظام يضبط السلوك الإنساني في نظام الحكم الإسلامي "يجب أن يهتم بالمعايير العامة والقواعد، المستمدة من المبادئ الأخلاقية العليا (من صاحب السيادة الله"، بينما "يعاني أفضل أشكال فصل السلطات في الدولة الحديثة من عيوب تجعل النظام حتى على المستوى النظري المحكم، غير متسق مع ذاته ومضطرب، بل وفاشل..ما يجعل الترتيبين أبعد ما يكون عن التوافق، في النظرية والتطبيق على حد سواء".
وبخصوص التباين الرابع فإنه يعكس الآثار الإجمالية للاعتبارات الثلاثة الأولى، إذ تنتج الدولة الحديثة رعايا يختلفون اختلافا عميقا سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا ومعرفيا ونفسيا عما ينتجه أي شكل من الحكم الإسلامي، فالتركيز الجزئي للمكلف الإسلامي على وحدة "ما هو كائن" و "ما ينبغي أن يكون" هو تمثيل صادق لتركيز الشريعة (والتصوف) الكلي على أن الحقيقة والقيمة هما الشيء الواحد نفسه.. وفي المقابل فإن ذات الدولة الحديثة لا تصوغها الضرورة الأخلاقية كل الصوغ، بحسب حلاق.
يخلص حلاق بعد ذكره لهذه "التناقضات المتأصلة والجوهرية التي تثير في مجملها مشكلة مهمة" حيث تضع المسلمين أمام خيار حاسم فـ"إما أن يستسلموا للدولة الحديثة والعالم الذي أنتجها.. وإما أن تعترف الدولة الحديثة والعالم بشرعية الحكم الإسلامي.."، واصفا الخيار الأول بالأكثر واقعية .. والخيار الثاني بالأقل احتمالا.
لكل ما سبق ذكره وبيانه يصف حلاق الافتراض الذي ينطلق منه مفكرو المسلمين القائل بإمكانية تحويل نظام الدولة الحديثة إلى دولة إسلامية، بـ"الافتراض الخاطئ"، لأنه يخطئ في "الفهم الصحيح لطبيعة الدولة الحديثة وخواص شكلها، وما فيها من عدم التوافق الأخلاقي المتأصل مع أي شكل من أشكال الحكم الإسلامي".
هل من مخرج؟ وما هي مناهج العمل البديلة؟
يقترح حلاق في نهاية كتابه وبالانطلاق من النظام الأخلاقي الإسلامي العمل على جبهتين إحداهما داخلية والأخرى خارجية، ففي الأولى "يمكن للمسلمين الآن – خاصة بعد الربيع العربي – أن يشرعوا في الإفصاح عن أشكال حكم جديدة وبنائها على نحو تكون فيها قابلة لتطوير أكبر وأقوى على النمط نفسه (اقتراحه كان قبل إجهاض الربيع العربي)".
أما العمل على الجبهة الخارجية فـ"يمكن للمسلمين ونخبهم الفكرية والسياسية، خلال عملية بناء المؤسسات الجديدة التي تتطلب إعادة صياغة قواعد الشريعة وتقديم تصور جديد للمجتمع السياسي، أن يتفاعلوا ويجب أن يتفاعلوا مع نظرائهم الغربيين في ما يخص جعل الأخلاقي النطاق المركزي، وهذا يتطلب من المسلمين تطوير مفردات يمكن لهؤلاء النظراء المحاورين أن يفهموها"، لتتمثل في النهاية اقتراحات حلاق تتمثل في دعوة المسلمين للإسهام "في إعادة تشكيل الأخلاقيات الحديثة".
لم يكن مستغربا أن تتباين مواقف النخب الفكرية الإسلامية والعلمانية في تقييمها لأطروحة كتاب "الدولة المستحيلة"، نظرا لنوعيتها الفريدة في بابها، والجادة في معالجتها العلمية، والصادمة في مقولتها النهائية، ففرح بها العلمانيون لما أمدتهم به من دليل جديد يقطع باستحالة "الدولة الإسلامية" جاءهم من شخصية أكاديمية لها سمعتها العلمية المحترمة في أعرق الأكاديميات الغربية.
وطار بها فرحا كذلك دعاة منهجية التغيير الجذري من أتباع الاتجاهات الإسلامية الراديكالية المختلفة، لأنها عززت ورسخت رؤيتهم الوثوقية الصلبة القاطعة بعدمية الإصلاح السياسي عبر الأطر السياسية القائمة (الدولة الحديثة)، ولسان حالهم يقول: ها هو أكاديمي ضليع بمناهج البحث الغربية، ومحيط باتجاهات الفكر الحديثة، يجزم باستحالة إقامة حكم إسلامي عبر أطر الدولة الحديثة.
أما أكثر الاتجاهات ضيقا بها، ونقدا لها واعتراضا عليها، فهي الاتجاهات الإسلامية الإصلاحية، التي بنت رؤاها ومناهجها على الإصلاح عبر المؤسسات القائمة في الدولة القومية الحديثة، وهم بالتحديد من وصفهم حلاق بأنهم ينطلقون من "الافتراض الخاطئ" المتوهم بإمكانية إقامة حكم إسلامي باستخدام الدولة الحديثة، وهو ما قطع حلاق باستحالة تحققه بحسب ما قدمه في الكتاب.