ثار مؤخرا جدل كبير حول اتهام
ابن تيمية الملقب عند أتباعه بشيخ الإسلام، بأنه المرجع الديني الأول لجماعات وتيارات أدمنت ممارسة أعمال
القتل والعنف والتفجير بذرائع دينية، يصفها خصومها بـ"جماعات
الغلو والتشدد".
وتجدد ذلك الجدل بعد إقدام شقيقين سعوديين (التوأمين خالد وصالح ابن إبراهيم العريني) على قتل والدتهما البالغة من العمر 73 عاما، وطعنهما لوالدهما البالغ من العمر 73 عاما، وأخيهما، واللذين نقلا إلى المستشفى في حالة حرجة، الجمعة قبل الماضي بمنزلهما بحي الحمراء في العاصمة
السعودية الرياض وفقا لتصريحات المتحدث الأمني لوزارة الداخلية السعودية.
وعلى إثر تلك الواقعة "تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي قولا لابن تيمية يجيز فيه قتل الابن لأبيه الكافر"، فيما فهم منه أن الشقيقين أقدما على فعلتهما بالاستناد إلى تراث ابن تيمية وتأصيلاته الفقهية.
أثار نص ابن تيمية الذي قال فيه "فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه، وهذا الأمر والنهي للوالد من الإحسان إليه، وإذا كان مشركا جاز للولد قتله.." ردود فعل متباينة تراوحت بين اتهامه بتغذية تيارات الغلو والعنف، وإمدادها بأسانيد شرعية، وتبرئته والدفاع عنه من قبل فقهاء وعلماء سعوديين وغيرهم.
اتهام ابن تيمية بالمرجع الأول "للتكفيريين"
من اللافت أن اتهام تراث ابن تيمية بأنه بات يشكل مرجعا فقهيا لجماعات الغلو والعنف، لم يقتصر على كتاب وإعلاميين محسوبين على اتجاهات علمانية وليبرالية، بل تعدى ذلك ليشمل باحثين إسلاميين وأكاديميين شرعيين.
فوفقا للباحث الإسلامي الكويتي مهنا حمد المهنا، فإن "كل الجماعات التكفيرية مرجعيتها ابن تيمية، وأكثرها محمد بن عبد الوهاب"، لافتا إلى أن "أغلب فتاوي التكفيريين تستشهد بكلامهما، وتستدعي نصوصهما وترجع إلى تراثهما".
وذكر المهنا لـ"
عربي 21" نماذج من أحكام ابن تيمية التي حكم فيها بالقتل على أفعال لا تستوجب ذلك، "فالذي يجهر بالنية في الصلاة يُقتل، والذي يقول بخلق القرآن يُقتل" على حد قوله.
وفي السياق ذاته، تداول نشطاء منشورا جمعوا فيه كلاما لابن تيمية، معزوا إلى مظانه من مجموع فتاويه وكتبه الأخرى، أكثر فيها من استخدام عبارة "فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتل"، رأوا فيها أنها تفتح شهية "التكفيريين" لممارسة استتابة من قال تلك الأقوال، أو فعل تلك الأفعال، ومن لم يتب منهم فليس له إلا القتل.
من جانبه، وصف الأكاديمي الأزهري اليماني الفخراني، ابن تيمية بأنه "عالم موسوعي له قدره وتقديره، لكنه وقع في أخطاء كارثية، نتجت عن أخذه العلم عن الكتب لا المشائخ، وتصدره للتدريس مبكرا عقب وفاة والده قبل التأهل".
وتعقيبا منه على استدعاء نص ابن تيمية في تجويزه للولد قتل أبيه المشرك، قال الفخراني لـ"
عربي 21": "نجده في تحريم الشرك يعتبره تحريما مطلقا، أما في الإحسان إلى الوالدين فنجده يقيد الإحسان، ويبيح عدم الطاعة لهما حال دعوتهما له للشرك".
وتابع الفخراني: "لكن ابن تيمية فرغ الآية من مضمونها حين قال "وإذا كان مشركا جاز للولد قتله" لأن الدعوة للشرك لا تقع من مسلم أصلا، فيكون الحاصل إباحة ابن تيمية قتل الوالدين المشركين إذا دعيا الأبناء للشرك، أو قتلهما لمجرد شركها".
وتساءل الفخراني في معرض مناقشته لاستدلال ابن تيمية أثناء تفسيره للوصايا العشر المذكورة في سورة الأنعام "من أين أتى ابن تيمية بهذا الحكم المتطرف الذي يخالف صريح القرآن كما ورد في لقمان (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها وصاحبهما في الدنيا معروفا) مقررا أن القرآن بين الحكم بوضوح ولم يقل "واقتلهما".
تبرئة ابن تيمية والدفاع عنه
بدوره دافع الباحث الشرعي السعودي، ماهر القرشي عن ابن تيمية، وبرأ ساحته مما ينسب إليه، لافتا إلى أن "العارف بتراث ابن تيمية يدرك جيدا أنه كان من أفقه العلماء وأكثرهم عمقا، وأقربهم للاعتدال في ترجيح المسائل، والحكم على الأقوال".
ودعا القرشي في حديثه لـ"
عربي 21" إلى ضرورة عدم سلوك مسالك الغلاة المتمثلة بالأخذ ببعض الكتاب ونبذ بعضه، إذا ما قرأنا تراث ابن تيمية أو تراث غيره من العلماء".
وانتقد القرشي من استشهد بنص ابن تيمية (وإذا كان مشركا جاز للولد قتله)، مشيرا إلى أنه "لم يكن يقصد به تحرير هذه المسألة بقدر ما كان يقصد قاعدة التفريق بين المحرم الذي لا يجوز بكل حال كالشرك والفواحش، وبين ما سوى ذلك ثم ضرب هذه المسألة كمثال على الثاني".
وأضاف القرشي "ثم يأتي من يريد إقناعنا بأن ابن تيمية أفتى بجواز قتل الولد لأبيه المشرك"، متسائلا: "أين العدل في نسبة ذلك إليه بإطلاق، وأين الفقه في فهم أن ذلك كان تحريرا منه؟".
وخلص القرشي إلى القول "فإذا تبين أن ذلك لم يكن على سبيل التحرير، فالصواب عدم نسبة ذلك إليه بإطلاق حتى نجمع ما قاله في المواضع الأخرى ونفهم طريقته في الفقه والاستنباط؛ ليتبين لنا بأنه إنما أراد بكلامه ما يكون في حال القتال بشروط مشددة، وقيود لازمة" مذكرا بما وصفه بأنه "من المعروف شرعا أن الفتاوى والاجتهادات لا يؤخذ بها ما لم تكن محررة".
من جانبه، استبعد الأزهري الفخراني حمل كلام ابن تيمية السابق على حالة القتال، نافيا أن يكون في كلام ابن تيمية ما يدل عليه، متسائلا: "ما الحاجة للتخصيص بالمشرك المقاتل الوالد"؟ وكذلك فإن كل من يريد قتلي في الحرب ولو كان مسلما يجب أن أقاتله.
وفي سياق مقارب رأى الباحث المصري، هاني نسيرة، مؤلف كتاب (متاهة الحاكمية.. أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية) "أن مقولات ابن تيمية هي الأكثر ورودا وتكرارا في الكتابات المرجعية للجماعات الجهادية المختلفة، وتنظيم القاعدة".
ووفقا لنسيرة فإن ابن تيمية "يُمثل ركن الإسناد السلفي عند تلك الجماعات والتيارات (الجهادية) خاصة ما يتعلق بالتكفير، أو مجابهة الحكام بحسب فتوى ماردين الشهيرة".
وأوضح نسيرة لـ"
عربي 21" أنه سعى في كتابه لإثبات فرضيته الأساسية القائلة بأن ثمة "اشتباها في فهم شيخ الإسلام في بعض أجزائه"، مرجعا أسباب ذلك الاشتباه والخطأ في فهم كلامه إلى عدم التفريق بين مستويات خطابه، التاريخي منها المتعلق بوقائع محددة كالفتاوى، والتأسيسي منها الذي يمثل منهجية وقاعدة أصولية غير مرتبطة بزمان أو مكان محددين".
ووصف نسيرة القراءات الجهادية لابن تيمية بأنه "غلب عليها الابتسار والاقتطاف دون انتباه لمجمل الخطاب، ووقعوا في مناطق الاشتباه دون المحكم من هذا الخطاب".
وذكر نسيرة أن أبرز أخطاء تلك التيارات في قراءاتها لتراث ابن تيمية، "خلطها بين الزمني والتاريخي من جهة، وبين العقيدي والثابت من جهة أخرى، واستخدامها مفاهيم ابن تيمية النظرية بنفس مفاهيمها المعاصرة والخاصة به"، ممثلا لذلك بمفهوم الشريعة الذي يستخدمه ابن تيمية بمفهوم كل الدين اعتقادا وشرائع، وخاصة الأولى، بينما تستخدمه هي بمفهوم القوانين والتشريعات الإسلامية".
بين اتهام ابن تيمية بمسؤوليته عن تغذية تيارات الغلو والعنف بأسانيد شرعية، وتبرئة ساحته من تلك التهمة والدفاع عنه، ستبقى المعارك الجدلية حول مركزية مقولاته في فكر تلك التيارات مستمرة، ولن يكف خصومه عن توجيه التهم إليه، كما لن يتوقف أتباعه ومريدوه عن الدفاع عنه واتهام تلك التيارات بعدم فهم كلامه على وجهه، وشططها في التأويل والتنزيل معا.