أعلنت الحركة الأسيرة الفلسطينية، عن إبرامها اتفاقًا مع إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية، يقضي بوقف اعتداءات قوات الاحتلال على الأسرى داخل السجون، والتراجع عن الخطوات الانتقامية التي أخذت في فرضها على الأسرى منذ مطلع العام الحالي، وتصاعدت وصولاً إلى تركيب أجهزة تشويش على أجهزة الاتصال الخليوي التي يهرّبها الأسرى، ويخبئونها، رغمًا عن إدارات السجون، في مسلك نضالي يهدف إلى كسر إرادة السجان، والحفاظ على اتصال حيوي بين الأسير والعالم الخارجي، ومن ثمّ فإنّ من أهم بنود الاتفاق الحالي، خضوع مصلحة إدارة السجون الإسرائيلية، وموافقتها على تركيب هواتف عمومية للأسرى الأمنيين، لأوّل مرّة في تاريخ الصراع، وتاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية.
السؤل المهمّ في هذا السياق هو كيف تمكّن الأسرى من انتزاع هذه الإنجازات في ظرف بالغ التردّي على المستوى الوطني، وعلى مستوى الظروف دخل السجون والمعتقلات؟!
ظروف متردية
قبل الإجابة على السؤال، ينبغي بيان المقصود بالظروف المتردّية على المستويين المشار إليهما.
قامت الحركة الأسيرة تاريخيًّا بالعديد من الخطوات النضالية لمواجهة إجراءات الاحتلال وسياساته تجاه الأسرى، في أشكال متعددة من العمل النضالي كان أبرزها الإضراب عن الطعام، هذه الخطوات كانت تجد صدى في الشارع الفلسطيني، وبالصورة التي تتحول فيها مدن الفلسطينيين وقراهم ومخيماتهم إلى ساحة مواجهة مفتوحة مع قوات الاحتلال، هذا الواقع بدأ بالتغير مع دخول السلطة الفلسطينية نتيجة إعادة قوات الاحتلال انتشارها بما خفّْف من احتكاكها بالفلسطينيين، ومع سياسات تجريف المجال العام في الضفة الغربية، وإضعاف الحركة الوطنية وتفكيك منابرها، من بعد الانقسام، واحتلال الخصومة الداخلية أولوية متقدمة بين القوى الوطنية الأساسية.. تراجعت إمكانية تنظيم الجماهير في عمل شعبي ضاغط على أعصاب الاحتلال.
ظلّت قوات الاحتلال تستهدف أسرى حركة "حماس" كلّما قامت الأخيرة بعمل مقاوم ذي صلة بالأسرى،
في الجهة الأخرى، داخل السجون، ومن بعد انتفاضة الأقصى، تبلورت لدى الاحتلال رؤية تلاحظ أن أبرز قادة انتفاضة الأقصى، ومن أعادوا بناء خلايا المقاومة أثناءها، كانوا أسرى محرّرين، وتلاحظ في الوقت نفسه أن الكادر الذي يحمل العبء التنظيمي باستمرار قد جرّب الأسر عدة مرات دون أن يتراجع، وبالتالي فإنّ السجون لا تتوفر فيها أدوات الردع الكافية، وعلى هذا الأساس بدأ الاحتلال بفرض معطيات جديدة قاسية على الظروف الاعتقالية، لاسيما وأنّ المواجهة في الخارج في ذروتها، وانعكست على السجون بتوسيع القائم منها وافتتاح سجون جديدة وزيادة أعداد المعتقلين لأول مرّة منذ انتهاء الانتفاضة الأولى.
كانت المرحلة الثانية في التضييق على الأسرى بعد الانقسام الفلسطيني، والذي انعكس، بطبيعة الحال، على السجون ووحدة الحركة الأسيرة؛ وقدرتها على إدارة خطوات نضالية موحّدة، كما أنّ قيادة السلطة لم تكن معنية بأيّ حدث في السجون من شأنه أن يستدعي حراكًا نضاليًّا في الخارج.
بعد انتفاضة الأقصى، تبلورت لدى الاحتلال رؤية تلاحظ أن أبرز قادة انتفاضة الأقصى، ومن أعادوا بناء خلايا المقاومة أثناءها، كانوا أسرى محرّرين،
وعلى وجه التحديد ظلّت قوات الاحتلال تستهدف أسرى حركة "حماس" كلّما قامت الأخيرة بعمل مقاوم ذي صلة بالأسرى، كأسرها للجنود والمستوطنين ولاسيما في العام 2014، حينما أسرت ثلاثة مستوطنين في مدينة الخليل تبين قتلهم لاحقًا، وعدد من الجنود في العدوان على غزّة في العام نفسه، وأخيرًا وفي مطلع هذا العام وبتوصية من وزير الأمن الداخلي غلعاد أردان، أقرت حكومة الاحتلال سلسلة من الإجراءات العقابية بهدف تحويل حياة الأسرى في السجون إلى جحيم!
كيف تجاوزت الحركة الأسيرة ذلك كلّه؟
يمكن لنا أن نتحدث هنا عن عاملين أساسيين، الأول، ذاتي متعلق بالرسالة التي وصلت حكومة الاحتلال، من أنّ المعركة ستكون هذه المرّة مصيرية بالنسبة إلى الحركة الأسيرة، وهو ما تبيّن من عمليتي طعن قام بهما أسيران فلسطينيان داخل سجن النقب، في تصعد سريع ومباشر من الحركة الأسيرة يتضمن رسالة غاية في الوضوح تقضي بعدم التراجع مهما كان شكل المواجهة، والتي استندت بالإضافة إلى هذه الرسالة البليغة، إلى حلّ التنظيمات داخل المعتقلات، وتحديدًا الأطر التمثيلية التي تتعامل معها الإدارة، وبالتالي إرباك إدارات السجون، وإشاعة قدر من الفوضى المضبوطة من الحركة الأسيرة، ثم الشروع في إضراب عن الطعام، يتوسع بالتدريج ليشمل أكبر عدد ممكن من المعتقلين المنخرطين في المواجهة مع مصلحة إدارة السجون.
وأمّا العامل الثاني، فهو دخول المقاومة في غزّة على خطّ هذه المواجهة، منذ اعتداء قوات الاحتلال على أسرى النقب في آذار/ مارس المنصرم، حينما انطلق صاروخ من قطاع غزّة واستهدف مدينة "تل أبيب" أثناء جلسة الحوار بين قيادة حركة "حماس" والوسيط المصري، وبينما دارت التكهنات حول الجهة التي أطلقت الصاروخ ودوافعها، وبعدما ترجّح أن يكون الصاروخ مناورة تفاوضية من حركة "حماس" مع الاحتلال فيما يتعلق بالتهدئة في قطاع غزّة.. فإنّ جملة التطورات التي أفضت إلى نجاح خطوات الحركة الأسيرة، وما تسرّب من أوساطها، وما تأكد في بيانها حول نتيجة خطواتها ومفاوضاتها مع إدارة مصلحة السجون.. قد نبّهت إلى أن المقاومة في غزّة قرّرت استثمار الظروف التي واتتها لتوظيفها لصالح قضية الأسرى، بتضمينها بندًا أساسيًّا في تفاهماتها مع الاحتلال من خلال الوسيط المصري.
هذا الأمر خرج من حيّز التحليل، إلى حيّز المعلومة ببيان الحركة الأسيرة التي نصّت فيه على ربط قيادة غزة كل تفاهماتها مع الاحتلال بقضية الأسرى، قائلة إنّها ضربت بسيف المقاومة في غزّة حينما وقع عليها العدوان، منوّهة في الوقت نفسه إلى دور الوسيط المصري.
لكن لا يمكن، والحال هذه، نفي خشية الاحتلال من اتساع المواجهات في الضفّة، وهو ما حذّر منه رئيس جهاز الشباك عدّة مرّات سابقًا، لاسيما مع احتمالية تعاضد جملة من العوامل من بينها العدوان على المسجد الأقصى والعدوان على الأسرى ووجود نمط متصل من المقاومة في الضفّة لم ينقطع.
وعلى أيّ حال، وقد ضمّنت قيادة "حماس" في غزّة، ومعها بقية قوى المقاومة، قضية الأسرى، جدول تفاهماتها مع الاحتلال عبر الوسيط المصري، فإنّ هذه الخطوة بالغة الأهمية، نضاليًا وإنسانيًّا، كما هو واضح، بيد أنّها أيضًا مهمّة سياسيًّا حينما تتبنى قيادة "حماس" في غزّة قضية ليست ذات إلحاح محلّى غزّي، وتربط بها ما هو ملحّ غزّيًّا، أي التهدئة وتفاهماتها، وهي مسألة ورغم بداهتها الوطنية، فإنّها بالغة الدلالة سياسيًّا في هذا الوقت العصيب، ولعل "حماس" الآن، تعيد النظر في آليات تفعيل قضية صفقة التبادل وكيفياتها، وتحديدًا في الجانب الإعلامي والدعائي، وتبقي قضية الأسرى برمّتها وبكل حيثياتها جزءًا من فاعليتها السياسية، لاسيما أنّ الخبرة التاريخية مع الاحتلال تفيد إمكانية تراجعه عن تفاهماته مع الأسرى في أيّ وقت.