ما يزال الفعل الدولي الحازم والحاسم مرتهن للقرار الأمريكي، كما لا يمكن تمرير قرار أو تبني فعل مباشر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دون موافقة روسيا "بوتين".
هذان المحددان يتحكمان في الموقف الدولي تجاه الهجوم على طرابلس. فعندما أرادت الخارجية الأمريكية في الأيام الأولى من اندلاع الحرب إدانة الاعتداء نجحت روسيا في منع بلورة موقف أممي يدين حفتر، وتصدت موسكو لجهود لندن الرامية لاستصدار قرار من مجلس الأمن كان مضمونه أقل حدة.
موقف واشنطن
ازداد الموقف الدولي ضبابية وارتباكا بعد الاتصال الذي جرى بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقائد الجيش التابع للبرلمان خليفة حفتر، وكانت النتيجة أن تراجعت الدبلوماسية الأمريكية عن موقف الإدانة والتصعيد تجاه حفتر، إلى وضعية أقرب إلى الحياد.
الاتصال أظهر تأييد البيت الأبيض لحفتر، إلا أن دعما على الأرض لم يقع وذلك بعد مرور شهر على المكالمة الهاتفية، ولم يظهر ما ينم عن موقف أمريكي مساند حتى بعد أن صار موقف حفتر أشد حرجا جراء الخسائر التي تلقاها وفشله في تحقيق مراده بالدخول للعاصمة.
حرب طرابلس تقدم دليلا آخر على عجز الاتحاد الأوروبي عن أن يكون لاعبا مهما في السياسة الدولية
ويمكن تفسير اضطراب السياسة الأمريكية تجاه الأزمة الليبية إلى اختلاف دوائر صناعة القرار الأمريكي، حيث ترفض وزارتا الخارجية والدفاع والمخابرات الهجوم، فيما يدعم جهاز الأمن القومي حفتر. وكان اتصال ترامب بطلب من جون بولتون، الذي يعتقد كثيرون أنه الأكثر تأثيرا على الرئيس.
ويبدو أن موقف وزير الخارجية ووزير الدفاع أسهم في أن يكون تأييد البيت الأبيض لحفتر معنويا ولتصبح المكاملة الهاتفية من قبيل مجاملة بعض حلفاء حفتر الإقليميين الذين تربطهم بترامب مصالح كبيرة.
العجز الأوروبي
حرب طرابلس تقدم دليلا آخر على عجز الاتحاد الأوروبي عن أن يكون لاعبا مهما في السياسة الدولية وبرهانا لضعفه في الدفاع عن مصالحه الأكثر جلاء في
ليبيا، والعنوان الدائم لضعف السياسة الخارجية الأوروبية هو الانقسام والخلافات بين أهم عواصمه.
كان ولا يزال موقف عاصمة الاتحاد الأوروبي، بروكسيل، صوريا، وكان ولا يزال الفعل الأوروبي مشرذما ويسير في اتجاه تعزيز مصالح الأقطار حتى لو كانت مناقضة لموقف بروكسيل وباتجاه تفجير نزاع أوروبي ـ أوروبي.
التوصيف الأقرب للصواب هو أن فرنسا تقف منفردة في خانة المدافع عن حفتر برغم إعلانها عن عدم علمها بالهجوم وعدم رضاها عنه، فقد أفشلت باريس محاولتين أوروبيتين للإعلان عن موقف جلي حيال ما قام به حفتر، وبالتالي يمكن وصف الموقف الفرنسي بالمزدوج، حيث تدعم باريس حكومة الوفاق فيما ترفض إدانة فعل حفتر وربما توفر له دعما فنيا ولوجستيا في حربه الأخيرة.
فرنسا تقف منفردة في خانة المدافع عن حفتر برغم إعلانها عن عدم علمها بالهجوم وعدم رضاها عنه
على الجانب الآخر، المفترض أن يكون الموقف الإيطالي قويا في رفض الهجوم ودعم حكومة الوفاق في مقاومتها للعدوان، فتصريح وزير الخارجية مؤخرا بقوله أن روما تقف على مسافة واحدة من الطرفين لا يلائم الحالة ويمثل انعطافا عن
مواقف سابقة كانت أكثر تحفظا على حفتر ومنازعة لفرنسا في دعمها له.
المواقف الإقليمية وحرب الوكالة
ما يمكن وصفه بالموقف الدولي المراوح على مستوى الكبار يفسح المجال لفعل مباشر للأطراف الإقليمية، ففي مقابل دعم لم يتوقف لحفتر من قبل مصر والسعودية والإمارات، دخلت تركيا على الخط، ويبدو أن تصريحات أردوغان برفض الهجوم والتهديد بالتدخل بقوة لمنع تكرار سيناريو سوريا ليس بالون اختبار، فهناك ما يشير إلى أن إمدادات عسكرية ستصل إلى حكومة الوفاق يمكن أن تكافئ تفوق جيش حفتر عبر سلاح الجو.
الموقف وفق ما تم عرضه سيقود إلى تعقيد الأزمة وتعميق الصراع خاصة بعد دخول أنقرة على خط النزاع، وينذر الوضع بحرب الوكالة، وطول أمد المعارك، فحلفاء حفتر لن يتراجعوا عن دعمه، ليس بعد أن استثمروا فيه كثيرا وشارف الثمر على القطاف.
وهناك سيناريو التوافق الدولي، الأوروبي ـ الأوروبي، لمنع تفجر الوضع أكثر وانتقال الحرب إلى مواجهة إقليمية، شبيهة بما يقع في اليمن، وقد ينجح هؤلاء في فرض وقف لإطلاق النار لكنهم لن يفلحوا في بلورة حل سياسي مقنع للطرفين، ليس في المدى القصير قطعا.