لنحدد
معالم ما يجري بين الطرفين علينا أن نحلل ما كان يحدث وما حدث والمتوقع حدوثه. في
البداية، فإن مقتل
سليماني لم يكن عملية تكتيكية لمقصد تكتيكي، بل هي عملية
استراتيجية ذات مغزى بعيد ورسالة موجهة للقيادة
الإيرانية. فسليماني لم يقتل في
أراض إيرانية أو أمريكية بل في أرض عراقية، وبالتالي فهي عملية ذات بعد
جيوستراتيجي بين الطرفين.
والمتتبع
يجد أن هناك تقاطعا في المصالح الجيوستراتيجية بين الطرفين وتناقضات أخرى بينهما،
حيث تتقاطع المصالح الإيرانية والأمريكية في المنطقة العربية إيجابيا في محاربة
داعش، كما تتقاطع المصالح إيجابيا في هدف إضعاف الأمة العربية. فالأمريكي يعلم أن
الأمة العربية قادرة على النهوض وتمتلك المقومات لتأسيس حضارة من جديد، ويعلم أن
تفتيتها وإبقاءها ضعيفة متفرقة يضمن استدامة مصالحه في المنطقة ويضمن سيولة ثرواتها
لبنوكه. وكذلك الإيراني يعلم أن مد نفوذه وملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة
العربية سيكون على حساب وحدة أهل الأمة العربية وتماسك دولها، وأن مد ذراعه سينجح
إذا ظلت الأمة مفككة.
وفي
المقابل فإن كلا الطرفين يتناقضان في مصالح جيوستراتيجية أخرى عديدة منها:
أن إيران بتمدد نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن تشكل تهديدا للنفوذ الأمريكي في المنطقة، ويجب أن يكون التمدد الإيراني ضمن ما تسمح به واشنطن.
التهديد الدائم لدولة الاحتلال ودعم المقاومة الفلسطينية، والاشتباك الفعلي مع الإسرائيلي في حرب 2006. كل ذلك يشكل تناقضا مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة التي تعتبر إسرائيل جزءا منها وليس حليفا لها.
تهديد المصالح النفطية وآبار النفط في منطقة الخليج، الذي يفهمه الأمريكي على أنه مساس بأحد أهداف الاستراتيجية الأمريكية الكبرى (Grand Strategy)، وهو الوصول الدائم الآمن لمنابع النفط.
تطوير البرنامج النووي الإيراني يعتبر خطا أحمر عند الإدارة الأمريكية التي لا تسمح لإيران بامتلاك أسلحة نووية على الإطلاق.
لذا كانت
إيران والولايات المتحدة تديران علاقتهما من خلال هذه التقاطعات السلبية
والإيجابية بدقة متناهية وضمن هذه الحدود. فالولايات المتحدة الأمريكية ترى في
إيران بعبعا لإخافة دول المنطقة لحلبها ماليا ولتمرير بيع الأسلحة لها، ولكن على
هذا البعبع أن يبقى ضمن الحجم المسموح به دون أن يتضخم، بحيث يبقى مفيدا للمصالح
الأمريكية، سواء في تخويف دول المنطقة وديمومة السيطرة عليها، أو من حيث مواجهة
داعش، أو من حيث استغلال لعبة الأقليات في المنطقة لزعزعة وتخويف دولها.
وفي
المقابل، ترى إيران أن أمريكا تقدم لها تسهيلات مقابل خدمة محاربة داعش، كالسماح
لها بتعميق نفوذها في العراق وسوريا، ومنها التعاون في تدمير المدن والحواضر في
العراق وسوريا وتشريد الملايين من أهلها بحجة التخلص من داعش، ومنها تقديم تسهيلات
للتغلغل، كما في اليمن حيث يمد الإيراني نفوذه وتحقق واشنطن مبيعات هائلة للأسلحة للتحالف
العربي.
ولكن يبدو
أن الإيراني طمع وأراد أن يحقق مساحات نفوذ أخرى ويزيد من حجمه، فحرَّض المليشيات
التابعة له بالرماية على بعض أماكن التواجد الأمريكية في العراق، والبدء في تحريض
أنصاره لطرح فكرة إخراج القوات الأجنبية من العراق، كما اتُهمت بمهاجمة منشآت
نفطية في السعودية، وبالتالي الضرب المباشر في أحد الأهداف الكبرى للاستراتيجية
الأمريكية، وقامت بالتحشيد في مناطق قريبة من الجولان وإمداد حزب الله بالسلاح،
وغير ذلك، مما ولَّد تحولا ملحوظا في العلاقة مع الولايات المتحدة التي قامت
بتوجيه ضربة قاسية ومن النوع الثقيل للقيادة الإيرانية، وذلك لأجل خض البيئة
الاستراتيجية في المنطقة لتصحيح المسار الاستراتيجي الإيراني وإعادة النفوذ
الإيراني للوضع المسموح به، أي أن ما حدث
صراع على حجم النفوذ.
هذه
الضربة جعلت إيران في حيرة حقيقية، فهي من ناحية أمام أهداف أمريكية عديدة متناثرة
حولها، لكنها من ناحية أخرى لا تستطيع التعامل معها إلا ضمن محددات؛ منها البحث عن
أهداف يكون ضربها ممكنا دون إحداث ضجة وردة فعل كبيرة لدى الأمريكي فينفذ ضربة
قاسية أخرى. وهذا التوازن بلا شك أمر صعب جدا على الإيرانيين، وبالتالي فمن
المتوقع أن يكون الرد غير موجع ويبلعه الأمريكي بسهولة، وفي نفس الوقت تُصوره
إيران وأتباعُها بأنه نصر كبير وإنجاز عظيم، وتنتهي الأزمة.
أما في
حال كانت الضربات الإيرانية موجعة لواشنطن، فإنها ستضع نفسها والمنطقة في مرحلة اضطراب
بالغة التعقيد؛ ستكون له نتائج غير متوقعة على الجميع. وهذا غير وارد، حيث تعلّم
الإيرانيون فن البراغماتية وامتصاص الضربات للمحافظة على المصالح والنفوذ
والاختراق في المنطقة العربية طيلة السنوات الماضية. وقد يدخل مؤثر آخر ولو بعد
حين، وهم المحافظون المتشددون (المسيحية الصهيونية)، ليجدوا في هذه الضربة فرصة
لتطوير الأمور نحو مواجهة مع إيران.