في إطار مهرجان (حكاوي) الدولي لفنون الأطفال في القاهرة (2- 12 مارس)، عرضَ الثنائي ألفريدو تسينولا (الإيطالي) وماكسوِل مكارثي (الأمريكي) لجمهور محدود مختلَط من الأطفال وأُسَرهم عرضًا فريدًا بعنوان (نيرون Nero).
ما صرّح به الفنانان هو أن العرض موجَّه أساسًا إلى الأطفال من سِنّ عامين إلى خمسة أعوام، لكن طبيعة العرض تثير العديد من الأسئلة. وأول هذه الأسئلة وأكثرها مباشَرةً: هل الطفولة المبكرة أنسب مرحلة عمرية يمكن لهذا العرض أن يستهدفها بالفعل؟!
بدأ العرض بشكلٍ خاصٍّ من أشكال التفاعُل الموجَّه من الفنانَين إلى الجمهور، حيث اصطفّ الحضور بإيعازٍ من تيسنولا ومكارثي في دائرةٍ حولهما عند باب الصندوق الأسود الذي اتّخذاه مسرحًا لعرضهما، وأخذا يتناوبان اصطحاب طفلٍ وأسرته عبر باب الصندوق إلى الداخل، بحيث يتعانق كَفّا كلٍّ منهما مع كفّين للطفل وأحد أعضاء الأسرة. كانا يبدُوان أقرب إلى نسختَين من هرمس رسول أرباب الأولمپ وهما يعبران من عالَم الضوء إلى عالَم الحُلكة التامّة، وكان الأمر كلُّه على خلفيّة موسيقى (مارين جِفكوفِتش) الهادئةِ أقربَ إلى ممارسة طقسٍ سِرّيٍّ مقدَّس!
أما أحداث العرض الفعليِّ فقد بدأت داخل الصندوق، بأن أخذ كلٌّ منهما أحد الكَشّافَين المُلقَيَين في طرفَي فضاء الخيمة، وأضاءه وأخذ يسير به بمحاذاة حوائط الصندوق كأنه يمسحُها بالنُّور. كلُّ هذا في صمتٍ تامٍّ لا تقطعه إلا الموسيقى. وبعد أن أنجزا هذه (التحويطة) سارا بمحاذاة الحاضرين أطفالاً وناضجين، والكشّافان مازالا في أيديهما، حيث سلّطا النُّور على ما بدا من أيدي وأقدام الأطفال وذويهم. وبعد تمام هذا الطقس التعميديِّ، دخلا في متن العرض. وكان هذا المَتن معتمدًا على سترتيهما الداخليتين المرصَّعَتين بقِطَع متداخلةٍ عاكسةٍ للضوء، فضلاً عن كشّافَين صغيرين من كشّافات الجيب، عِوَضًا عن الكشّافَين الكبيرين اللذَين أطفآهما في هذه المرحلة.
بدآ يلعبان بضوء الكشافَين على القطَع العاكسة في سترتيهما، وأخذت التكوينات الشكلية أوّلاً تتوالد في حُرّيّة من هذا اللعب، مرتسمةً على السترتين وعلى الحوائط المظلمة، ثم ظهرت التنويعات اللونية البرّاقة بدلاً من الأبيض والأصفر اللذَين كانت لهما السيادة في البداية. كانا يتحركان حركاتٍ مدروسةً حول الحضور وفي كل ركنٍ من المخيم المُظلم، وكذلك حول بعضهما البعض، وأخذا يرقّصان الضوءَ على الحوائط رقصاتٍ دائريةً وحلزونيةً تُذكّرنا برقص المولويّة. كانت رقصة الضوء وظهور التكوينات اللونية يمثلان ذروتَي العرض. بعد ذلك أخذت حركتهما – وبالتالي حركة الضوء – تخبو وتخبو، حتى ساد الظلامُ تمامًا، فوقفا عند باب المخيَّم مُؤذِنَين بالتمام وضرورة انصرافنا، وقالا: Thank You!
بالنسبة للبعض كان العرض مخيّبًا للآمال. هذا ما جاء الإيطالي والأمريكي اللذان يعملان أساسًا في ألمانيا إلى هنا ليعرضاه؟! أحقًّا هذا كلُّ شيء؟!
على الموقع الرسمي لألفريدو تسينولا نجد كلمة تقريظ من (كرستين ماتشكه) من مجلة الرقص الألمانية على الإنترنت Tanznetz.de تقول فيها: "إن عرضَ (نيرون) يدعو الأطفال إلى عالَمٍ سُفليٍّ شديد الجاذبية. إنه فضاءٌ وجدانيٌّ يخلقه الممثلان مع خيال الأطفال." وفي رأيي أنّ وصف عالَم هذا العرض بالسُّفلِيِّ هو وصفٌ موفّقٌ للغاية.
كما يقول تسينولا نفسُه في صفحته: "حين ننظرُ إلى سماء الليل التي لا تضيئها إلا النُّجوم، يتشكّل الخيال." لكنّ سماء الليل التي لا تغزوها أضواء مصابيح الغُرَف والمكاتب والمولات أصبحَت شيئًا شديد النُّدرة في حياة أطفال حضارتنا المعاصرة. الخيال الطفوليُّ ذاتُه استَلَبَته أفلام الكارتون المنمَّقة الجاهزة لتوجيه المخيِّلة في اتجاهٍ محدَّدٍ سَلَفًا بدِقّة، واستلبَت معه خيال الناضجين بالتأكيد. وبَقِيَت الطبقات الأكثر حرية من المخيلة الفردية والجمعية مدفونةً تحت طبقات الخيال الموجَّه، ربما هي في قاع المخيِّلَة إذا جاز هذا التعبير، كأنها رواسب حياةٍ أخرى عشناها وعاشها أطفالُنا ونحنُ جميعًا في أصلاب أسلافِنا المبكّرين سكّان الكهوف!
فإذا جاز تعبير (قاع المخيّلة)، كان عالَم (نيرون) عالَمًا سفليًّا بالفعل، كأنه نارٌ مُتَقِدةٌ تحت رماد الخيال المُطفأ الذي دجَّنَته تراكمات الحضارة.
يبدو أنّ تسينولا ومكارثي أرادا أن يعودا بنا إلى ظلام الكهف الأول، حيث نتسلل في جُنح الليل إلى مدخل الكهف لنشاهد نجوم السماء، فيبدد ضوءُها بعض وحشتنا، ويزرع فينا مشاعر مختلطةً، الرهبة والحيرة أهم ما فيها. أعني حيرةَ الإنسان في طفولة الإنسانية إزاءَ عناقيد النُّور المتلألئة في ظلام الليل، والرهبة التي ما من شَكٍّ في أنه ظلَّ يستشعرُها لمئات آلاف السِّنين إزاء هذا النُّور الآتي من بعيدٍ، حتى حاكَ الأساطيرَ حولَ النُّجوم وألَّه بعضَها.
وربما قرَّر تسينولا ومكارثي أن يُهيبا باقتراب الطفولة المبكرة من الصفحة البيضاء Tabula Rasa التي كان عقلُ الإنسان يشبهها في طفولة الجنس البشريّ، ليثيرا في الأطفال أوّلاً ذلك المزيج من الدهشة والحيرة والرهبة، فلا يفتأ هذا العصفُ الوجدانيُّ أن ينتقلَ إلى آبائهم بحُكم الجِوار وحتمية المناقشة بين الطِّفل وأبوَيه أثناء مشاهدة العرض ويَعده.
بصِفَتي ناضجًا – أو هكذا يراني طِفلاي – أشهدُ أني رأيتُ خلالَ هذا العرض أشياءَ لم أكن أتوقَّع تجاوُرَها. ظهرَت لي جزيئاتٌ مضيئة تحت المِجهَر الفلوري كأنني حققتُ طموحًا علميًّا قديمًا مُجهَضًا، وظهرَت لي جواهر لا أعرفُ لها اسمًا، كأنها الياقوتُ والمرجان، حمراء وبيضاء وخضراء وغير ذلك، ثُمّ إنها اتخذَت سَمتًا متراكبًا فكأني أرى طاقة القدر تتلألأ وسط صندوق المسرح الأسود، وقد انقطعَت عني أخبارُها منذُ طفولتي، ثُمّ رأيتُ دراويش المَولَوية يرقصون على الجدران في دأبٍ كأنه الأبَد، ثم انحلّ عِقدُ النُّور فكأنها النجومُ في السماء تُخايلُني وأنا أختلس إليها النظر جالسًا في مدخَل كهفي الأوّل!
ثُمّ إنّ العالَم السفليَّ يتجلّى كذلك في مراسم دخول الصندوق الأسود وطقس مسح الجدران بالنُّور وما تلاه من (تعميدٍ) بالنُّور للحاضرين. هو عالَمٌ قابعٌ في مكانٍ مُظلمٍ من ذاكرتي الفردية، ربما خلقَت هذا المكانَ الكتُبُ فقط، وإن كنتُ أميل إلى أنّ ذاكرتي تختزن عصورًا عتيقةً مرّت بالبشريّة، وهكذا ذواكِرُ الجميع، ولا تحتاج لتستثيرَ النارَ المقدسةَ إلاّ مِحراكًا يعرف ما يفعل! باختصارٍ، لقد دخلتُ معبدًا لديانةِ أسرارٍ عتيقة!
والحَقُّ أن موسيقى (جفكوفتش) المبنية أساسًا على تآلفات السلّم الصغير، هابطةً بالتنويع إلى أقلّ معدلاتِه الممكنة، موحيَةً بالبطء المقدَّس المغلَف بالرهبة، هذه الموسيقى تقرّب مفهوم العالَم السفلي هنا من معبد ديانة الأسرار أكثر ممّا تقرّبه من مدخل الكهف البدائي، أو هذا ما شعرتُ به على الأقلّ.
يتقاطع العرض مع عددٍ من الفنون ويمتاح من آبارٍ عِدّة، فهو يمُتُّ بصِلَةٍ واضحةٍ إلى المسرح الأسود، وإلى فنّ الضوء Light Art وإن كان ما يحدث في العرض شكلاً شديد البساطة من هذا الفن، فضلاً عن الرقص الحديث بالطبع، فحركات تسينولا ومكارثي المرسومة والمنفّذة بدِقّة تشهد بأنّ وراءها عقلاً كوريوجرافيًّا مدرَّبًا يعرف كيف يبسط هيمنته على المكان. كل هذا إضافةً إلى الدراما، فالعرض الصامت هنا دراميٌّ بالأساس، يتصاعد فيه توتُّر المشاهِد وترقُّبه منذ اصطفافنا حول الممثلَين، وصولاً إلى انفجار الألوان ورقص الضوء، ثم خفوت الحركة والنُّور إلى أن يُسلِمنا تسينولا ورفيقُه إلى الظلام النهائي. ومن اللافت وجود اسم دراماتورجي بالفعل للعرض، يتمثل في (بارفانه فراي Parwanhe Frei) السويسرية التي ربما يشي اسمُها بأصول أفغانية.
أعود إلى سؤال المقدمة. هل العرض مناسب للطفولة المبكرة؟ ابنتي التي قاربَت الخامسة قالت إنها لم تستمتع بالعرض، فقد كانت تنتظر عرضًا مسرحيًّا فيه دراما تقليدية واضحة، وقالت عقِبَ انتهائه إنها غيّرت المهنة التي تحب أن تمتهنها حين تكبُر. لن تصبح طبيبةً بيطريةً لتعالج الحيوانات كما كانت تردِّد، وإنما ستكتُب عن المسرحيات لتقول إنها حضرت مسرحية سيئة!
ربما أفسدنا استعدادَها الفطري للدهشة بحرصِنا أنا وأمِّها على أن تحضُر المسرح بشكلٍ دوريٍّ، وبما تُمليه ظروفنا المجتمعية من مشاهدتها كل هذا الكارتون! وربما لم نَعدَم فائدةً في بنائها الثقافي، فهاهي تُعيد التفكير فيما تحب أن تكونَه مستقبَلاً بفضل (نيرون)! وربما تسرّبَت أشياء مما أتحدثُ عنه هنا إلى أماكن عميقةٍ في لاوعيِها، وكان صعبًا عليها أن تعبّر عن ذلك لأنه ببساطةٍ (لا وَعي)، ولِذا أرجأت هذا التعبير إلى المستقبل وقررت أن تكتُب. بشكلٍ شخصيٍّ لستُ نادمًا على تعريضِها لهذه الخبرة، وربما أحدّثها عنها لاحِقًا، ومَن يدري ما عساه يتفتح من طاقاتٍ في وعيها مع استرجاع العرض؟
ختامًا، أظنُّ أن (نيرون) تسينولا ومكارثي قد أفلح في ما عزم عليه. فكما ينسُبُ بعض روايات التاريخ إلى نيرون إشعالَ النار في روما، أوقد نيرونُ المسرح الأسود نارًا عميقةً في قاع المخيِّلة، تألَقَت نصفَ ساعةٍ تحت رماد الخيال المُطفأ المعتلّ، فرأينا على ضوئها الخلاّب معالِمَ دارِسَةً من عالَمٍ سُفليٍّ قديمٍ، لم تبقَ منه إلا إشاراتٌ متناثرةٌ في كتُب التاريخ، وذكرياتٌ غائمةٌ تسبَح في ركنٍ مظلمٍ من أمخاخِنا المعقَّدة.
الرياضيات وغرائب الفقه الإسلامي!
رواية " التميمة السوداء" لحسام رشيد: صراع السلطة والمثقف
الشيخ مصطفى إسماعيل.. أذن مرهفة وحس موسيقي عال