أثار انفتاح الإسلام على الإنسان وإباحته له التملك والتجارة والإجارة والاستمتاع بأوجه مختلفة من هذه الحياة الفاتنة، سؤالاً عند البعض، حول مدى رأسمالية الإسلام؟ كما ولد التباساً عند فريق آخر، خلط بين الإسلام والرأسمالية واعتبر أن الاختلاف هو في بعض الرتوش الأخلاقية، وأن الإسلام في ما تبقى ينسجم مع الرأسمالية بل ويلتقي معها في الصميم.
فقد ذهب أصحاب التوجه الاشتراكي إلى أن الإسلام يعبد الطريق للرأسمالية، حيث إن مجرد منح الفرد حق التملك هو طريق لممارسة الاحتكار والاستئثار بالثروة. فيما الدولة عندهم ـ وحدها ـ صاحبة الحق بامتلاك وسائل الإنتاج وتوجيه الاقتصاد دون أي استثناء، مع وجوب تأميم كافة أشكال المشاريع والمصانع المملوكة للقطاع الخاص.
كذلك اعتبرت شريحة من المسلمين ـ تعتز بإسلامها وتمارس شعائره الدينية الفردية ـ أن الإسلام يطلق طاقات الفرد في الإنتاج والإبداع ويبيح له التملك والتجارة، وبالتالي فإنه يلتقي مع الرأسمالية، التي تمثل بالنسبة له منظومة عملية للاستفادة من الفرص ومراكمة الثروات، لا نقيضاً لدينه ومعتقداته.
إن اعتبار الإسلام دين رأسمالي هو خطأ محض، ينم عن قصر نظر أو انحياز إلى أفكار مسبقة تتجاهل حقيقة الإسلام.
وبما أن وجهة النظر الاشتراكية سقطت فكرياً وانهارت عملياً وتحول كثير من منظريها إلى اعتناق الليبرالية الرأسمالية، فإنه لا داعي للتوقف أمام أحكامها كثيراً. بل إن مأخذها على الإسلام إباحة التملك للأفراد دليل قصور متجذر في تصورات الاشتراكية عن الإنسان، وهو ما أودى بها فعلياً، إذ إن تصوراتها الكلية عن الكون، وتشريعاتها المنظمة لشؤون الحياة تتناقض مع الفطرة الإنسانية، فمفهومهم عن الحياة المتمثل بـ "لا إله والحياة مادة" يتناقض مع شعور الإنسان الفطري بالعجز والضعف والاحتياج لخالق مدبر، كما أنه يتناقض مع القيم والنزعات والاحتياجات غير المادية التي تعج بها حياة الإنسان. على كل، إن اعتناء الإسلام بالإنسان وأخذ طبيعته الفطرية بعين الاعتبار هو ميزة للإسلام، الذي يشرع الحلال والحرام لكائن معين، بتركيبة معينة، تتطلب مراعاتها وإشباع احتياجات صاحبها العضوية والغرائزية ضمن أبعاد تلك الاحتياجات وتوازناتها.
أما بالنسبة للشريحة الأخرى، فإن اعتبار الإسلام دينا رأسماليا هو خطأ محض، ينم عن قصر نظر أو انحياز إلى أفكار مسبقة تتجاهل حقيقة الإسلام. فالفرق بين الإسلام والرأسمالية كامن في أصل كل منهما، كما هو متشعب في تفاصيل منظومتهما التشريعية. فالإسلام يقوم على أساس أن الله هو سيد الكون، له الخلق وله الأمر، وأن الإنسان مستخلف في أرض الله يعمرها بأمره وحسب شريعته، عن اختيار منه وقناعة بصلاحية منهج الله وحده دون غيره لرعاية شؤون الخلق. فيما تجعل الرأسمالية الإنسان هو سيد نفسه، وهو مركز الحياة، يرسم أمره ونهيه بنفسه ولنفسه، لا وصاية لأحد في هذا الكون عليه، فهو كائنٌ فردٌ حرٌ ينطلق بأكبر طاقة وقدرة عنده لإشباع رغباته وشهواته على أعلى مستوى ممكن بما ينسجم مع ميوله، بلا ضابط ولا رقيب ولا حسيب. بل إن وجود الضابط والرقيب والحسيب يتناقض تماماً مع الرأسمالية.
على صعيد متصل، فإن اعتبار الرأسمالية الفرد هو الأساس، جعلها تلغي مسؤولية العائلة بمجرد بلوغ الفرد سنه القانوني، كما تنزع وصاية المجتمع عنه، وتقلص دور الدولة إلى الحد الأدنى لضمان حريات الفرد وتأمين حركة السوق بشكل حر، تتحول فيه الدولة عملياً في نهاية المطاف إلى خادم لدى الشركات الكبرى، التي تتحكم بالاقتصاد والسياسة وحياة الأفراد. أما الإسلام فقد شرع أحكاماً أناط تنفيذها بالفرد وجعلها مسؤوليته مباشرة عنها، وأحكاماً أناط تنفيذها بالمجتمع وفرض عليه التزامها وأحكاماً أخرى منوطة بالدولة، التي تعتبر جزءاً أساسياً من المنظومة الإسلامية. من هنا يشترك تقوى الفرد مع المجتمع والدولة في أدوارٍ تكاملية لضمان سلامة الفرد والمجتمع والدولة.
بتنا نعيش في غابة عارية من ظل يحنو على الضعيف والمسكين، وحيث يفرض القوي شروطه فيها بغض النظر عن مدى تعسفها، ويصبح استمرار الإنسان حياً بكرامة عملية صعبة ومعقدة، فالبقاء للأقوى و"من عز بز" و"من غلب استلب" و"إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب".
كذلك نلحظ أن إشباع حاجيات الإنسان وتلبية رغباته في الإسلام تأتي ضمن منظومة قيمية رفيعة متوازنة، تنتج شخصية سوية ومستقيمة ومتزنة ومشبعة. فحين يبيح الإسلام الانتفاع والاستمتاع بأشكال مختلفة من الحياة فإنه يذكر في الوقت ذاته الإنسان بالعفة والاستعداد للآخرة ويحذره من الفساد (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) سورة القصص آية 77، وحين أباح الإسلام التملك حض على الصدقة وفرض الزكاة واشترط الكفارة المالية في كثير من الأحكام، إضافة إلى حثه على الفضيلة وعلى التكافل والبذل والعطاء، فيما منع العبث والإضرار بالآخرين، وذم الشح والإسراف، وحرم الربا والإسراف والاحتكار (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة الحشر آية 9.
أما الرأسمالية فقد أطلقت العنان للإنسان لتحقيق أكبر قدر من المتع الجسدية، بغض النظر عن أية قيمة إنسانية أو أخلاقية، حتى لو أدى ذلك إلى استغلال الآخرين بشكل حقير، أو إلى استفحال أحط أشكال المجون والشذوذ، وبعثرة المال على موائد القمار والترفيه القذر، أو حرق فوائض المحاصيل الزراعية وهدر الأطنان من المنتوجات الحيوانية السائلة لمنع هبوط الأسعار، فيما يتنقل الفقراء بين حاويات النفايات يقتاتون منها. وقد تحول العالم فعلاً بفضل الرأسمالية إلى عالم موبوء، حيث بتنا نعيش في غابة عارية من ظل يحنو على الضعيف والمسكين، وحيث يفرض القوي شروطه فيها بغض النظر عن مدى تعسفها، ويصبح استمرار الإنسان حياً بكرامة عملية صعبة ومعقدة، فالبقاء للأقوى و"من عز بز" و"من غلب استلب" و"إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب".
أزمة الحركة الإسلامية بين العمل الدعوي والعمل السياسي