أخبار ثقافية

الشيخ الطبلاوي.. رحيل آخر العمالقة

منذ سن الثانية عشرة وهو يُمتع العالم بتلاوته للقرآن، ويمتعنا باحساسه العالي الذي تترجمه خامة صوته ووضوح معالمها- صفحة الافتاء المصرية

يقف الطبلاوي في وجدان السميعة على حافة الحلم، الحلم بما قدمه جيل العمالقة من القراء، وبموته رحمه الله يتشظى بلور آخر النوافذ التي تطل على حدائق الأصوات الكبرى، التي كانت من نعم الله علينا منذ الشيخ محمد رفعت وحتى الشيخ محمد رشاد الشريف.

شهدت فترة السبعينيات صعود نجم الطبلاوي وكان آنذاك صوت الشيخ عبد الباسط مهيمنا على المزاج العام للسماع.

 

لكن الشيخ استطاع وبفترة قصيرة نسبيا أن ينافس على هذا المزاج بتميزه بأسلوبه الفريد، ولد الشيخ بحي ميت عقبة بمحافظة الجيزة سنة 1934، ورحل عن عالمنا البارحة 5-5-2020.

 

ومنذ سن الثانية عشرة وهو يُمتع العالم بتلاوته للقرآن، ويمتعنا بإحساسه العالي الذي تترجمه خامة صوته ووضوح معالمها.

وعبر هذه السنوات المديدة من عمره المبارك، نجح الشيخ بخطف ألباب السميعة، وكان أحد أعمدة هذا النجاح والتي استمرت وامتدت وتطورت مع استمراره بالعطاء ثلاثة عناصر.

 

العنصر الأول وهو العنصر الذي لا يستغني عنه أي مبدع أعني الإحساس العالي والمرهف لقيمة ما يقدمه. وهذا الإحساس الذي يصل بسلاسة إلى المستمع بدون استئذان، وأما العنصر الثاني فهو إدراكه الواضح لخامة صوته المميزة ذات الأبعاد غير الواسعة.

 

ولكن بذكاء ظل هذا القارئ يحسن ويصقل هذه القماشة الصوتية حتى أبهرتنا.. بتنوعها الداخلي كعازف الربابة الماهر الذي يستغل كل إمكانيات الوتر الواحد. وأما العنصر الثالث فهو أسلوب فريد في طريقة القراءة، أسلوب تميز بشخصية واثقة تشق طريقا غير مسبوق لكنه واضح المعالم.

الجدية والدأب والإصرار ميزا حياة الشيخ ولا أدل على ذلك من هذه الحادثة ذات الدلالة البالغة، فقد تقدم الشيخ تسع مرات للإذاعة المصرية ولم يقبل، حتى تم قبوله بدرجة امتياز في المرة العاشرة وأصبح قارئا معتمدا فيها.

 

اقرأ أيضا : وفاة نقيب قراء ومحفظي القرآن بمصر محمد الطبلاوي

 

وجود الموهبة ثم الإيمان بها ثم الإصرار على النجاح وقبل ذلك الإخلاص الذي لولاه لما وصل هذا الصوت للملايين في العالم الإسلامي الذين ينعونه بحزن في هذه الأوقات عبر تحميل مقاطعه المشهورة.

 

ولننظر مرة أخرى لتلك الحادثة ولكن من زاوية أخرى، فلك أيها القائ أن تتخيل كيف كانت المعايير آنذاك لترفض صوتا بحجم الطبلاوي، كان ذلك في سنة 1970.


سجل الشيخ القرآن كاملا مجودا ومرتلا وظل يردد أن هذه هي ثروتي الحقيقية. لكن تظل الحفلات التي أحياها في مساجد القاهرة وفي العالم الإسلامي منذ السبعينيات هي الأثيرة لمحبي هذا الشيخ، وهي ثروتنا الخاصة التي نرجو له من الله المثوبة عليها. 

من أشهر تلاوات الشيخ رحمه الله قراءاته المتعددة لأواخر سورة الحشر، أداء الشيخ فيها ينحو بنا للتأمل. باستخدام التقطيع غير المخل والملتزم بقواعد التلاوة من ناحية ولكنه يستفيد من تأثير التواشيح والابتهالات الدينية بالوقوف عند أسماء الله الحسنى في أواخر السورة الكريمة، وهو بذلك يدعونا لامتلاك مساحة حقيقية للتأمل المصاحب للذكر المتكرر، والوقوف عند كل اسم من أسماء الله الحسنى. هذه المساحة تتسع كلما أرهفنا السمع لمخارج الحروف التي يؤديها الشيخ بإتقان مبهر.

 


الطبلاوي والشيخ عبد الباسط 

 
تميزت علاقة الشيخ الطبلاوي باعتباره من القراء الجدد مع الشيخ عبد الباسط بعلاقة طيبة كما يقول الشيخ في إحدى مقابلاته الصحفية.

 

وقد اشتهرت في السبعينيات قراءة للشيخ عبد الباسط لسورة التكوير أبدع فيها الشيخ بتنويعات صوته المبهرة متنقلا بين الآيات ومستفيدا من تكرار حرف (وإذا).. بداية كل أية. 

 



هذا الأداء المبهر دعى الطبلاوي رحمه الله وبما عرف عنه من تميز وإصرار لأداء مختلف لنفس السورة ولكن بطريقته المميزة الخاصة، التي تعتمد بشكل أساسي على الصلابة والحدة بحيث تلامس أداء الشيخ عبد الباسط من بعيد، ولكنه حين يصل إلى الأية الكريمة (وإذا الصحف نشرت) هنا بالتحديد تبدأ شخصية الطبلاوي بالظهور، وتستمر بعمل توليفتها الخاصة بالأداء وبإظهار المزيد من جماليات الصوت حتى تصل بنا إلى نهاية السورة الكريمة.

 

فكأن هذا الأداء يختصر العلاقة بين هؤلاء الكبار من احترام وود يتوج ذلك ما أقامته الإذاعة المصرية في نهاية السبعينيات من استفتاء للجمهور، حول نجاح التسجيلات القرآنية ففاز الشيخ عبد الباسط بالمركز الأول كقارئ إذاعي من الرعيل الأول، وحصل الشيخ الطبلاوي على المركز الأول كقارئ إذاعي من الجيل الجديد آنذاك.

 


رحم الله الشيخ محمد محمود الطبلاوي وأجزل مثوبته بما أمتعنا في حياته من تلاوات رائعة تجدد بنا العهد بهذا النص العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه.