في الأزمات الكبرى تتولد الفرص، مقولة قديمة لكنها بالغة العمق في الإشارة إلى المقاربة الفلسطينية التي ينبغي انتهاجها في مواجهة مشاريع التصفية والتطبيع، وفقدان البوصلة العربية التي كان آخرها الاتفاق التطبيعي بين أبو ظبي وتل أبيب، الأمر الذي كشف عن اختلال كبير في الخاصرة العربية، تسللت عبرها تل أبيب.
الهرولة العربية نحو التطبيع،أو لنكن أكثر دقة هرولة بعض العواصم العربية، هي أزمة حقيقية لايمكن التقليل من حجمها وأثرها في سياق الصراع مع المشروع الصهيوني، لكن تلك الأزمة كشفت بالمقابل عن موقف فلسطيني موحد ومتين في رفض هذا المسعى، بعدم وجود صوت فلسطيني واحد مرحب أو مبرر، ففتح وحماس والجبهتان والجهاد وكل ممثلي وأطياف الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات عبروا عن رفضهم واستنكارهم لهذا التوجه، ليكون السؤال المركزي لماذا لا تترجم هذه الوحدة لبرنامج وطني فلسطيني، يقفل صفحة الانقسام دون رجعة، ويؤسس "لصحوة" فلسطينية، تبدأ بالوحدة، فلا حاجة لسوق أدلة على أنه لولا حالة الانقسام الفلسطيني، والتشرذم لما تجرأ طرف عربي على اتخاذ مثل هذه الخطوة، هذا بطبيعة الحال لايعني تبريرا للخطوة التطبيعية المدانة والمجرّمة، لكنه محاولة للتأكيد على أن البند الأول في سياق صياغة مشروع مواجهة وإدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي يكمن في وحدة فلسطينية، تمتن الجبهة الداخلية، وتعيد إفراز قيادة فلسطينية قوية، تقود النضال ضد الاحتلال، وتتصدى لمن يروج للانبطاح والتطبيع بحجة غياب الفعل الفلسطيني، فالتطبيع في أصله وجوهره يعني تجرؤا على أعدل قضية تحرر وطني.
بتقديري تكمن البداية في إصلاح الشرخ الفلسطيني ـ الفلسطيني، بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتكون ممثلا حقيقيا للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وحل أو تغيير وظيفة السلطة الفلسطينية، وصياغة برنامج وطني يتبنى المقاومة الشعبية بكافة أشكالها، ويدير الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي لإنهاء "احتلال الديلوكس" المجاني الذي تمارسه إسرائيل، وهذا يتطلب تنسيقا فلسطينيا عابرا للفصائل، من شأنه احراج إسرائيل ومن يبيتون معها في سرير واحد، وتعرية روايتها وروايتهم، وإعادة القضية لمسارها الصحيح بأنها قضية تحرر وطني بمواجهة احتلال عنصري كولونيالي.
إمكان السلطة الفلسطينية أن تتبنى مشروع المقاومة عن طريق إطلاق سراح الناس في التصرف والابداع، و تجنب التصرف كسلطة كابحة خوفا من الرد الإسرائيلي،
ولمن تفاجأ بالتطبيع عليه أن يدرك أن المشروع الصهيوني لم يتغير، ولا زال يعمل على عزل الفلسطينيين عن محيطهم العربي والإسلامي، وتأسيس دولة يهودية ـ كما توصفها إسرائيل ويمينها الحاكم ـ لديها كل الامتيازات، تقوم على اضطهاد غير اليهود، وفي هذه الحالة سكان البلاد الأصليين، باتجاه التخلص منهم وإبعادهم و إضعافهم وتفتيتهم وضربهم ببعضهم البعض، ومن هنا فإن كثيرا من المحللين والخبراء رأوا أن الانقسام هو عمل استخباراتي إسرائيلي، فقد وقعت حالة شبيهة في فترة الثلاثينيات أيضا بين العائلات ما أدى لثورة عام 1936.
المطلوب العودة للتصرف كحركة تحرر وطني فلسطيني وليس سلطة، فالسلطة الفلسطينية يجب أن تتبنى مشروع المقاومة، وهذا لا يعني بالضرورة مشروعا عنيفا، بإمكان السلطة الفلسطينية أن تتبنى مشروع المقاومة عن طريق إطلاق سراح الناس في التصرف والابداع، و تجنب التصرف كسلطة كابحة خوفا من الرد الإسرائيلي، ولنتذكر أن منظمة التحرير الفلسطينية في يوم من الأيام وهي في لبنان والأردن وتعيش الخوف، على الرغم من كل هذا فإنها قامت بأكبر العمليات والمواجهات،وخلقت المنظمة تحالفات دولية وعربية وسمحت بهذا التحرر.
لابد من استعادة المشروع الوطني الفلسطيني بكل أبعاده الإنسانية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ولابد من تشجيع النشطاء الفلسطينيين الشباب، إذ أن 70% من سكان الضفة الغربية وغزة أعمارهم تحت 27 عاما، فيما 50% منهم تحت سن العشرين، وهذا جيل يفكر بطريقة مختلفة، لا بد أن يسمع صوتهم، وأن يطلق لهم العنان في مواجهة هذا المشروع الصهيوني الذي لا يترك أداة سياسية وثقافية وإعلامية إلا واستعملها في حربه علينا، وينبغي مواجهته بذات الأدوات وتغيير المقاربات.
تقديري أن المشروع الوطني الفلسطيني المنشود هو مشروع عابر للفصائل، عابر للانتماءات الحزبية، عموده الفقري العودة للتصرف كحركة تحرر وطني، تواجه احتلالا عنصريا، ونظام فصل شبيه بنظام الفصل في جنوب أفريقيا، ولكنه أبشع لأنه يستهدف إجلاء سكان الأرض، وإبادتهم، ولا يتقبل التفكير نهائيا بتقاسم الأرض معهم رغم أنهم أصحاب البلاد، هذا المشروع الوطني الفلسطيني هو الذي سيقود العرب لأنه من الواضح أن العرب أضاعوا البوصلة، ودوما كانت فلسطين هي البوصلة، فإن أضاعها العرب فحري بشعبها المناضل أن يعود ويعيدهم إلى جادة الصواب، من هنا نبدأ.
*كاتب فلسطيني