اللبيب من الدبلوماسية يفهم

22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1943 هو تاريخ إعلان استقلال لبنان الوهمي، هذا التاريخ الذي حولناه نحن اللبنانيين إلى أسطورة ونسجنا حوله الروايات والبطولات الورقية، وأقنعنا أنفسنا بأن لبنان هو بلد حر سيد مستقل لا يقبل من أحد التدخل في شؤونه السياسية وهو ذات شأن عربي ودولي. ولكننا تناسينا أن التاريخ لا ينصف الضعفاء، ولبنان منذ إعلان دولة لبنان الكبير في عهد الجنرال غورو ولد بتشوهات خلقية أثرت على نموه، وكان بحاجة لأطباء الخارج لمساعدته والوقوف جنبه.. ومع مع وجود 18 طائفة في لبنان كان هذا الأمر شبه مستحيل، فكل طائفة تتبع زعيمها، وهذا الزعيم لديه تبعية عمياء لدولة أجنبية تفرض عليه مواقفه بما يتناسب مع مصالحها ويكون هذا الزعيم أمام "غنمه"، عفوا رعيته، الديك الذي لا يبزغ الفجر إلا بصياحه.

ما أشبه الأمس باليوم، وكأن التبعية مفروضة على اللبنانيين، وخمسة عشر عاما من الحرب الأهلية لم تعلمنا أننا شعب واحد وأن لبنان لا يزدهر إلا بتكاتف جميع أبنائه، ولكن هذه المعادلة لا تصلح في مجتمعنا.. مجتمعنا الإقطاعي الذي يورث الزعامة من الأب إلى الابن ولا يأخذ بعين الاعتبار طاقات الشباب الفاعلة والقادرة على بناء الوطن والمجتمع.

كل هذه الأسباب أشعلت فتيل ثورة 17 تشرين، فالفاسد تربع على عرش فساده منذ ثلاثين عاما، وأمراء الطوائف حكموا مناطقهم وزاد فسادهم، وبعد استقالة حسان دياب دخل لبنان في فراغ سياسي، فكل زعيم ينتظر إشارة مرؤوسه لتذليل العقبات وتشكيل الحكومة. فحلف إيران وسوريا متمثلا بحزب الله وميشال عون عرقل هذا التشكيل من أجل مصالح هاتين الدولتين، وخاصة بعد انتخاب بايدن الذي خلط أوراق التفاوض مع إيران وعادت لمرحلة الصفر بعد أن ألغى ترامب الاتفاق النووي، وعندها شدت إيران وتر التفاوض من باب الحكومة اللبنانية، وخاصة أنهم يعرفون أن الغرب لن يترك لبنان لأنياب مليشيا السلاح ودكتاتور بعبدا.

وبعد أن كان قصر بعبدا قد خلا من زواره الدبلوماسيين بسبب العقوبات الأمريكية على مليشيا حزب الله، ولأنهم يدركون أن ميشال عون هو دمية بيد حسن نصرالله لتنفيذ طلباته التي تفرضها عليه إيران، عادت العجلة الدبلوماسية تدور في فلك بعبدا ولا يمرّ يوم إلا ويلتقي عون بأحد السفراء الذين يبلغوه رسالة، وهو بدوره عليه إيصالها إلى حزب الله.

بالمختصر، أصبح مركز رئاسة الجمهورية ساعي بريد بسبب ضعف ميشال عون وتبعيته فهو ليس صانع القرار، فإيصال عون إلى سدة الرئاسة لم تكن كرمى لمواقفه الجبانة، بل لإدراكهم بأنه الدمية التي يمكننا التحكم بها من دون تأفف ومن أجل إيصال شخص لديه صفة دبلوماسية لشرعنة السلاح في المحافل الدولية وغض النظر عن إرهاب مليشيا حزب الله الداخلي والخارجي. وبهذا سيطر الحزب على جميع مرافق الدولة، إن كان المرفأ أو المطار وحتى القضاء، وما المحكمة العسكرية ببعيدة فهي بدأت تصدر أحكامها القمعية ضد أي شخص ينتقد الفساد، وكانت تسم كل شخص معارض لإرهاب حزب الله بالعميل، وبهذا تحول لبنان إلى مقاطعة إيرانية برئيس مسيحي.

ولكن لبنان بجغرافيته الصغيرة لا يستوعب هذا الكمّ الهائل من الإرهاب والدكتاتورية، وأن الحرب الأهلية علمتنا أن على الساحة اللبنانية لا غالب ولا مغلوب، ولا يمكن لأحد أن يلغي الآخر. فالمسلم أخو المسيحي، والسني أخو الشيعي، والوتر الطائفي أصبح من الماضي إلا لدى المواطن الأعمى الذي غيّب عقله وتبع زعيمه، فهو لا يدري بأن زعيمه سيبيعه عند أول صفقة إقليمية.

فقتلى حزب الله في سوريا هو خير مثال، فبعدما أوحل نفسه في المستنقع السوري وأرسل مرتزقته لمحاربة السوريين، وسم الحزب الطابع الديني لقتلاه بتسميتهم "شهداء". وهؤلاء المرتزقة كانوا الجنود الذين يحمون الملك في لعبة الشطرنج الإقليمية وغيابهم لا يؤثر على المعادلة، فالكومبارس لديه دور محدد يلعبه وينتهي، وكذلك أمراء الطوائف فهم لديهم أجندة خارجية مفروضة عليهم من قبل أسيادهم. ولهذا نقول لكم إن حلحلة الوضع اللبناني ليست في القريب العاجل، فنحن عندما ثرنا ظننا بأننا نثور على حكام محليين، ولكن في الواقع كانت معركتنا مع الكفيل الإيراني مباشرة لأن زعماء لبنان هم مجرد أدوات وعملاء ومرتزقة صغار لملك كسرى.

في النهاية عندما تتصارع الكلاب على رضا السيد تضيع الأوطان وتموت الأحلام ويدفع الشعب الثمن. وثورتنا هي ثورة الحق في وجه الباطل، ثورة الأحرار في وجه العبيد، وبتكاتفنا وتضامننا نحن اللبنانيين نصنع القوة بوجه الطغاة، فالقوة تفتح أجنحتها لمن يستحقها والموت يفرد جناحيه للجبناء.