قضايا وآراء

رابحون وخاسرون في معركة سيف القدس

1300x600

ثمة رابحون كُثُر وخاسرون كُثُر أيضاً في معركة سيف القدس التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية بغزة ردّاً على الممارسات الإسرائيلية العنصرية والإجرامية بحق الفلسطينيين في المسجد الأقصى والشيخ جراح ومدينة القدس بشكل عام. 

وبعيداً عن معطيات وتفاصيل المعركة المهمة بحد ذاتها يمكن التأكيد أن "حماس" والقضية الفلسطينية بشكل عام هما بالتأكيد أكبر الرابحين من المعركة رغم التضحيات والكلفة العالية لها، بينما إسرائيل الخاسر الأكبر رغم ارتكاب هذا الكمّ الكبير من جرائم الحرب والتدمير المنهجي للبشر والحجر في غزة والضفة الغربية وحتى في الأراضي المحتلة عام 1948.

 

ربحت "حماس" وخسرت السلطة

فلسطينياً؛ لا شك أن "حماس" أكبر الرابحين من معركة سيف القدس وعلى كل المستويات السياسية والعسكرية والإعلامية. ففي الجانب السياسي قدّمت الحركة نفسها كقائد للشعب الفلسطيني مستعد للدفاع عنه، وتقديم التضحيات من أجله في قضايا هي محل إجماع أصلاً مثل حماية المسجد الأقصى ودعم صمود المقدسيين في الشيخ جراح وبقية أحياء المدينة.

عسكرياً؛ أيضاً قدمت الحركة نموذجا لافتا ومبهرا، حيث قامت بالإعداد للمعركة كما ينبغي، واستطاعت الصمود أمام قوة الاحتلال وبطشه وآلته العسكرية الهائلة، بل والتفوّق عليه وتجاوز احتياطاته الدفاعية ومواصلة القتال حتى الساعات الأخيرة للمعركة رغم القوّة الهجومية الغاشمة.

في هذا الجانب تجب الإشارة إلى حقيقة أننا كفلسطينيين وكشعب مقاوم نمتلك مقاتلين ومجموعات عسكرية مستعدة للقتال والصمود والتضحية، ولكننا لا نملك سوى جناح عسكري واحد بالمعنى الدقيق للمصطلح، وهو كتائب عز الدين القسام، حيث تعدد الأذرع القتالية والقدرة على إدارة المعركة في مستويات وقطاعات مختلفة رغم فقدان قيادات من الصف الأول في الأيام بل الساعات الأولى للمعركة.

 

المجتمع الدولي خاسر بالتأكيد وتحديداً الغرب، بعدما اعتمد النفاق والازدواجية ومساواة الضحية بالجلاد، بل وحتى دعم إسرائيل في حربها المجنونة على الفلسطينيين بحجة حقها في الدفاع عن نفسها، وهي المدججة بالسلاح والتي ارتكبت جرائم موصوفة في القدس وغزة حسب اعتراف الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية غربية أيضاً.

 



إعلامياً أيضاً؛ قدّمت الحركة أداء لافتا تحديداً عبر قادتها بالخارج، ووسائل الإعلام التابعة لها أو المقرّبة منها، وتبنت خطابا وطنيا جامعا أعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية وحتى لفكرة الكفاح المسلّح نفسها، ونجحت في حشد الشعب الفلسطيني بقواه المختلفة خلفها مع تأجيل أي ملاحظات أو انتقادات ذات طابع سياسي أو تنظيمي إلى ما بعد نهاية المعركة، خاصة مع التضحيات الهائلة التي قدمتها الحركة نفسها والغزاويون والشعب الفلسطيني بشكل عام.

فلسطينياً؛ لا شك أن الشعب الفلسطيني رابح بالتأكيد بعدما ساهمت المعركة في تكريس وحدته بأماكن تواجده المختلفة، وتجاوز الانقسامات السياسية والجغرافية التي عصفت به خلال العقود الماضية، ولعل إضراب الثلاثاء التاريخي ـ 18 أيار/ مايو ـ في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948 أفضل تعبيراً عن ذلك.

القضية الفلسطينية رابحة أيضاً بعدما عادت بقوة إلى جدول الأعمال العربي الإسلامي والدولي، مع تكريس القناعة باستحالة تجاوزها وتقبل فكرة أن لا سلام أو استقرار نهائي بالمنطقة دون حلّها حلاًّ عادلاً وشاملاً يرتضيه الفلسطينيون بقيادتهم الموحدة - ستتشكل حتماً على المدى المنظور- في الداخل والشتات.

في المقابل لا شك أن الرئيس محمود عباس وقيادة السلطة في رام الله أكبر الخاسرين، حيث ظهرت السلطة منزوية وهامشية ضعيفة وفاقدة للحيلة، عاجزة عن نجدة مواطنيها أو الدفاع عنهم لا في القدس أو في الضفة الغربية وغزة، ولا في أي منطقة أخرى.

بدت قيادة السلطة كذلك غير ذات صلة عاجزة عن قراءة التطورات واستخلاص العِبر المناسبة منها، مفتقدة لخطاب سياسي وطني جامع قادر على توحيد الفلسطينيين خلفها، ولا شك أن المعركة وجهت ضربة قاصمة لوجودها ومستقبلها وحتى لشرعيتها، خاصة بعد الهروب الجبان من استحقاق الانتخابات التشريعية والرئاسية بحجة رفض إسرائيل إجرائها في القدس رغم العناد والصمود الأسطوري للمقدسيين وتصويتهم الصاخب والمدوي لأسابيع بل لشهور دفاعاً عن هوية المدينة ومقدساتها.

 

إسرائيل والمطبعون والمتنطعون


إسرائيل خاسرة بالتأكيد مع ارتكابها جرائم حرب موصوفة وعنصرية في القدس والشيخ جراح وحتى ضد من يفترض أنهم مواطنيها في الأراضي المحتلة عام 1948، كما عجزت عن إخضاع المقاومة في غزة، وفقدت بالتالي قدرة ردعها، بعدما كانت قد عجزت عن إخضاع المقدسيين الذين كانوا قد ربحوا المعركة فعلاً حتى قبل إطلاق المقاومة معركة سيف القدس من غزة.

ربما يكون نتنياهو رابح ولو مؤقتاً وتكتيكياً بعدما أشعل النيران في القدس عن سبق إصرار وترصد لمنع خصومه ـ كتلة التغيير ـ أو في الحد الأدنى عرقلة وتأخير مساعيهم لتشكيل حكومة وحدة وطنية،  من أجل الذهاب إلى انتخابات خامسة ما يعني بقائه في منصبه لشهور طويلة قادمة، لكن هذه ظلت إنجازات تكتيكية مرحلية ـ تبخرت مع إعلان خصومه عن توافقهم على تشكيل الحكومة ـ  وهي في كل الأحوال لا تخفف من خسارته السياسية والإعلامية في إدارة المعركة أو تنهي الأزمة العميقة التي تعصف بإسرائيل منذ ثلاثة أعوام والناتجة عن استقطابات داخلية وأزمات بنيوية عميقة، بينما ذكرتها هبّات باب العامود والشيخ جراح والأقصى ثم معركة سيف القدس أن من المستحيل كنس القضية الفلسطينية أو إزالتها عن جدول الأعمال رغم الواقع المرير الذي ساد خلال السنوات الـ15 الأخيرة.

لا شك أن المطبّعين خاسرين بالتأكيد، حيث نقضت هبّات القدس ثم معركة سيفها الأسس التي قامت عليها فكرة التطبيع نفسها، وأكدت أن إسرائيل كيان هشّ منقسم قابل للهزيمة وليس أسطوري أو خارق، كما حاول المطبّعون أن يصوّروه.

والتطبيع الذي كان فعلاً بمثابة طعنة للقضية لم يفت في عضد الشعب العنيد ولم يوقف التطرف والعنصرية في إسرائيل التي تمادت في غيّها وجرائمها، وخطة الضمّ التي ادعى المطبّعون إزالتها عن جدول الأعمال لا تزال حاضرة ومستمرة على أرض الواقع في الشيخ جراح والقدس، بينما يتصدى لها الفلسطينيون يومياً بعنادهم وصمودهم بعدما رفعوا كلفتها على الاحتلال والدولة العبرية بشكل عام.

ليس المطبّعون وحدهم هم الخاسرون وإنما المتنطعون أيضاً وتحديداً إيران وأذرعها الإقليمية والطائفية الذين دمّروا الحواضر العربية الكبرى وشجعوا الغزاة على احتلالها، وهيمنوا بالقوة القهرية على السلطات في بلادهم، وتجاوزوا الدساتير والتفاهمات الوطنية والمحلية بحجة الإعداد للمواجهة مع إسرائيل، وعندما وقعت المعركة لم يحرّكوا ساكناً، علماً أنهم تلقّوا الصفعات والضربات الإسرائيلية طوال الوقت دون أي ردّ بحجة اعتماد الصبر الاستراتيجي وانتظار المعركة الكبرى، بينما غاب قائد  أذرع إيران الفعلي-حسن نصر الله- عن المشهد ولم يظهر حتى في خطاب دعائي دعماً للفلسطينيين كونه فهم المغزى والدلالة، وعندما ظهر بعد ذلك بدا منشغلاً بتسويق حجة الغياب وترديد عبارات منمقة ومرسلة يخاطب بها أتباعه عبر أذرعه الإعلامية المختلفة.

المجتمع الدولي خاسر بالتأكيد وتحديداً الغرب، بعدما اعتمد النفاق والازدواجية ومساواة الضحية بالجلاد، بل وحتى دعم إسرائيل في حربها المجنونة على الفلسطينيين بحجة حقها في الدفاع عن نفسها، وهي المدججة بالسلاح والتي ارتكبت جرائم موصوفة في القدس وغزة حسب اعتراف الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية غربية أيضاً.

في الأخير وباختصار يمكن بل يجب النظر إلى معركة سيف القدس أصلاً ضمن السياق العام للهبات الجماهيرية التي بدأت في باب العامود بالقدس منذ بداية شهر رمضان الكريم، ويجب الانتباه كذلك إلى أن المعركة وبقدر ما قدمت إجابات إلا أنها تطرح أسئلة أيضاً على الرابحين والخاسرين فلسطينياً تتعلق أساساً بضرورة ترتيب البيت الداخلي عبر إجراءات الانتخابات لإنهاء الانقسام وإعادة بناء وتوحيد المؤسسات الوطنية تحديداً منظمة التحرير كإطار قيادي جامع للفلسطينيين وحتى لو بقي أهالي الشيخ جراح في منازلهم وتم التوقف عن اقتحام المسجد الأقصى إلا أنه يبقى محتلاً، كما القدس وفلسطين بشكل عام بما فيها غزة نفسها ما يطرح التحدي الأكبر أمامنا والمتمثل بكيفية ربح الحرب الاستراتيجية مع الاحتلال بعد مراكمة الانتصارات التكتيكية في معارك القدس وغزة.

*باحث وإعلامي


الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع