لا شك أبداً في حقيقة قيام الرئيس التونسي قيس سعيد بانقلاب كامل الأوصاف على الدستور والبرلمان والحكومة التي نالت ثقته والحياة السياسية والديمقراطية. بشكل عام انقلاب سعيد استهدف أساساً حركة "النهضة" بصفتها أكبر قوة حزبية وبرلمانية في البلد، ورغم أنها غير ممثلة في الحكومة ولا تتولى إدارة وزارات سيادية ومهمة إلا أنها من جهة أخرى تمثل العقبة الأساس أمام قيس سعيد المفتقد للكاريزما المتغطرس والمتعطش للسيطرة التامة على السلطات كافة، وتحويل النظام إلى رئاسي يستحوذ فيه الرئيس على صلاحيات واسعة جداً بدلاً من المختلط المعمول به حالياً وفق دستور الثورة 2014 والذي يرفضه سعيد لصالح دستور استبدادي أحادي وضع في العام 1959.
انقلاب قيس سعيد الموصوف وضع "النهضة" وقائدها راشد الغنوشي أمام تحدٍّ كبير للرد على انتهاك الدستور وتهديد المكتسبات الديمقراطية التي حققتها الثورة التونسية، وسيرورة التغيير الديمقراطي وهل يواجهه بالقوة بما في ذلك دعوة جمهوره للشارع وتنفيذ تظاهرات واعتصامات كبرى في العاصمة والمدن الأخرى أم بالعمل السياسي والحزبي المنضبط السلمي والهادئ نوعاً ما؟
هذا ينقلنا مباشرة إلى ما جرى في تركيا، حيث واجه رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان انقلاب 1997 بالمهادنة وقام بتنفيذ كل طلبات العسكر لمنعهم من تسلم السلطة بشكل كامل حفاظاً على تلاميذه وجمهوره وتمكينهم من مواصلة الطريق "كما قال حرفياً"، مع إبقائه العربة السياسية على السكة الدستورية والديمقراطية الصحيحة عبر تضحيته الشخصية والسياسية لعدم تحوّل الانقلاب الناعم إلى فظّ وخشن يدمر البلاد ويقتل العباد، بينما واجه رئيس الوزراء السابق والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان انقلاب 2016 الفظّ والخشن بالقوة داعياً جمهوره إلى النزول للشارع من أجل الحفاظ على الحياة الديمقراطية والدستورية، ونجح في هزيمة الانقلاب خلال ساعات قليلة، علماً أن نجاح أردوغان يحسب لأربكان أيضاً كونه صاحب الفضل أساساً والذي نجح استراتيجياً في هزيمة انقلاب 1997 الناعم بالنقاط بما في ذلك تمكين خلفه وتلميذه أردوغان من هزيمة انقلاب 2016 العسكري بالضربة القاضية.
من هنا يمكن الاستنتاج أن انقلاب قيس سعيد هو في الحقيقة مزيج بين انقلابي 1997 و2016 في تركيا، حيث سعى لجعله ناعماً قدر الإمكان لا عسكرياً فظّاً، كما فعل الانقلابيون الأتراك في 2016 بما في ذلك قصف البرلمان وليس إغلاقه فقط، كما فعل سعيد الذي يدعي الحفاظ على الدستور حتى بتفسير شخصي فظّ وجارف له وصولاً طبعاً إلى تحقيق نفس أهداف الانقلابيين في تركيا والمتمثلة بإضعاف وإقصاء الخصوم المنتخبين، والهيمنة الكاملة على السلطة بكافة مفاصلها.
نظراً للواقع التونسي يبدو زعيم "النهضة" وكأنه اختار أيضاً نموذجا خاصا به بين نموذجي أربكان وأردوغان، حيث لم يعترف بالانقلاب ولم يستسلم له مع سعيه لإبقائه ناعماً قدر الإمكان على طريق هزيمته بالنقاط، كما فعل أربكان ولم يواجهه بالقوة أقله مرحلياً أو يهزمه بالضربة القاضية، كما فعل أردوغان "مع الاحتفاظ بهذا الخيار على الطاولة" وإنما بآليات سياسية حازمة عنيدة ومصممة تكفل له الفوز ولو على طريقته الخاصة.
يعود الفضل أساساً إلى "النهضة" والغنوشي شخصياً دون إبخاس حق قوى سياسية حزبية ونقابية أخرى طبعاً في إبقاء عربة الثورة في تونس على السكة الصحيحة حتى الآن وتحوّلها إلى أيقونة للشعوب العربية إثر صمودها في وجه الثورة المضادة وتجسيد الأمل بإمكانية نجاح الثورة الأصيلة أو على الأقل التأكيد أنها وعلى علاّتها وأزماتها تقدم خيارا أفضل بكثير من الانقلاب والهيمنة على السلطة عبر الإقصاء الكامل والعنيف للخصوم، كما هو الحال في مصر مثلاً.
وعى راشد الغنوشي جيداً استشراس الثورة العربية المضادة في العام 2014 بعد نجاحها السهل والمجاني في القاهرة ـ 2013 ـ فطرح القاعدة الشهيرة نغادر الحكومة ولكن نبقى في الحكم قاصداً التنازل عن رئاسة الوزراء وحقائب سيادية أخرى مقابل البقاء في البرلمان والسلطة بإطارها العام، وهي القاعدة التي ساهمت بشكل أساسي في نجاح الحوار الوطني وإبقاء عربة التغيير الديمقراطي على السكة الدستورية والسياسية الصحيحة.
خلال السنوات الماضية واصل الغنوشي تقديم التنازلات رغم فوزه بالانتخابات البرلمانية حفاظاً على الاستقرار والسلم الأهلي في البلد بما في ذلك التنازل أخيراً عن تمثيل "النهضة" في الحكومة ليس فقط الوزارات السيادية فيها وكل ذلك من أجل تحقيق الهدف نفسه المتمثل ببقاء عربة التغيير الديمقراطي على السكة الصحيحة.
في السياق نفسه بدا زعيم "النهضة" منفتحاً دائماً على الحوار والتوافق على تسويات وحلول وسط مع خصومه ومنافسيه بما فيهم الرئيس قيس سعيد نفسه من أجل المصلحة الوطنية العامة ولإبقاء الأمل قائماً أمام التونسيين والعرب بشكل عام.
مع ذلك لا يمكن إنكار التعثر في ملفات اقتصادية واجتماعية خاصة مع ظروف التحوّل التي تعيشها البلد والمنطقة بشكل عام تعثّر لا تتحمّل مسؤوليته "النهضة" وحدها وإنما مع آخرين، مع الانتباه إلى أن السجال والحراك الحزبي الأخير داخلها بما في ذلك حل مكتبها التنفيذي منطقي وواقعي وديمقراطي أساساً علما أن الاتجاه العام لعربة "النهضة" ظل دائماً في الاتجاه الصحيح.
الآن وفي مواجهة انقلاب قيس سعيد "الناعم" يطرح الغنوشي قاعدة أخرى لافتة ومعبّرة تقول إن الدستور أهم من السلطة، بمعنى استعداد "النهضة" لتقديم تنازلات أخرى والخروج حتى من الحكم لا الحكومة فقط على طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل بإبقاء عربة التغيير الديمقراطي على السكة الدستورية والديمقراطية السياسية الصحيحة.
الغنوشي قال بوضوح وصراحة وواقعية في حديث لافت مع فرانس برس ـ الخميس 29 تموز/ يوليو ـ إنه مستعد لمجاراة الرئيس قيس سعيد وعدم الصدام معه لدفعه نحو التنفيذ الدقيق والأمين للبند 80 من الدستور رغم أن لا خطر أمني داهم يحتّم اللجوء إليه أساساً، علماً أن سعيد لم يتشاور معه ولا مع رئيس الوزراء، ولم يبقى البرلمان في حالة انعقاد دائم، كما ينص الدستور.
يتمثل الهدف الدائم والاستراتيجي للغنوشي و"النهضة" والساحة الحزبية بشكل عام، بالحفاظ على الحياة الدستورية والديمقراطية السياسية السليمة عبر هزيمة الانقلاب وإفراغه من محتواه ولو بعد حين بالنقاط أو حتى بالضربة القاضية إذا لزم الأمر.
أما حجة مواجهة تداعيات جائحة كورونا في بعديها الاقتصادي والاجتماعي فتفضحها التعيينات الإدارية لقيس سعيد وسعيه لإحكام القبضة على السلطة تحديداً في بعديها الأمني والإعلامي.
هذا مع ملاحظة البعد الخارجي لانقلاب سعيد ـ مالياً وأمنياً ـ الذي أقرّ به شخصياً واستشراس عاصمة الثورة المضادة أبو ظبي واستعجالها في وأد الثورات الأصيلة في مهدها، ولمنع الانتخابات واكتمال عملية التحوّل الديموقراطي في ليبيا والضغط على الجزائر بحزام من الثورات المضادة التابعة لها ومستغلة في ذلك أزمات تونس ـ ودول عربية أخرى ـ الاقتصادية والاجتماعية، وتخبط إدارة جو بايدن الأمريكية وعدم امتلاكها رؤية واضحة للمنطقة حتى الآن.
في كل الأحوال، لا يزال الغنوشي متمسكاً حتى الآن بالتعاطي السلمي والهادىء، ولكن العنيد والمصمم، طارحاً مطالب وشروط محددة فيما يشبه التعاطي الواقعي مع الانقلاب، تستند إلى قاعدة أن لا شرعية لأي حكومة لا تنال ثقة البرلمان الذي يجب أن يبقى في حال انعقاد دائم وفق البند 80 من الدستور الذي يزعم الرئيس قيس سعيد الاستناد إليه في انقلابه مع الانفتاح على حوار وطني واسع لإقامة الحجة على الرئيس ولإنقاذ الدستور وإلا فإنه سيدعو أنصاره إلى النزول للشارع والتظاهر والاعتصام لفتح أبواب البرلمان ولو بالقوة.
الغنوشي يسعى في السياق للاستفادة من موقف الجيش التونسي غير الانقلابي بطبعه وغير الطامع تاريخياً في السلطة، كما من مواقف خارجية وإقليمية ودولية منزعجة من الانقلاب الموصوف واحتمال ذهاب الأمور نحو الانهيار والفوضى في تونس والمنطقة بشكل عام.
وقبل ذلك وبعده يسعى الغنوشي أيضا للاستفادة من عدم امتلاك الرئيس الانقلابي لخطة أو تصور لإدارة البلد، وكونه سيضطر ولو بعد حين بإرداته أو رغماً عنه إلى الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه والنزول عن الشجرة العالية التي تسلّقها بالسلم الذي وفره له الغنوشي شخصياً عبر خريطة طريق تتضمن نيل الحكومة الجديدة ثقة البرلمان بموازاة إطلاق حوار وطني واسع حول المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما في ذلك إمكانية تعديل القانون الانتخابي والذهاب إلى انتخابات مبكرة ولو برلمانية فقط يقول فيها الشعب كلمته النهائية والحاسمة.
وعموماً يتمثل الهدف الدائم والاستراتيجي للغنوشي و"النهضة" والساحة الحزبية بشكل عام، بالحفاظ على الحياة الدستورية والديمقراطية السياسية السليمة عبر هزيمة الانقلاب وإفراغه من محتواه ولو بعد حين بالنقاط أو حتى بالضربة القاضية إذا لزم الأمر.
*باحث وإعلامي
انقلاب قيس سعيد في تونس والسيناريوهات المتوقعة
الموقف الأمريكي من ديمقراطيات العالم الثالث