مع اقتراب العام الحالي من نهايته، يصعب تصور استراتيجية أبعد احتمالاً بين النظام السوري وبقية المجتمع الدولي بما فيه النظام الرسمي العربي. فبوصف الأخير بيئة أقرب للتعايش مع ما خلفه سلوك
الأسد على الأرض منذ عشرة أعوام، من سلب حياة ملايين السوريين وإزهاق أرواحهم، لم تعد الشكوك الأخلاقية محل تقييم لتوجه النظام الرسمي العربي لإعادة تعويم النظام السوري عبر بوابات عديدة، والتي تميل في معظمها إلى خداع السوريين، وتوجيه ضربة قاتلة لأمنياتهم في التحرر من
الاستبداد.
الدفع الروسي المستمر نحو منح النظام في دمشق مكاسب معنوية وعسكرية بتحسين فرص سيطرته على الأرض؛ زاد من فرص التوافق الضمني للمجتمع الدولي بقبول استمرار النظام بواسطة "توازن" جديد للقوة، تتقاسمه قوى الاحتلال الروسي والايراني والإسرائيلي والأمريكي والتركي والفرنسي والبريطاني، وكلها من الناحية الأيديولوجية تتبنى أهدافاً تتعلق بحماية نفسها من "الإرهاب"، ومشابهة لذرائع نظام الأسد المرفوعة بمواجهة الشعب السوري.
أسلوب الألعاب السياسية في
سوريا مع المواقف المرتبطة بسلوك النظام، عزز الميل نحو الخداع، وبنوع خاص عند الحديث عن حماية الشعب السوري، أو الحرص على وحدته ووحدة أراضيه، لكن إعلان اللعب على المكشوف أرضى بشكل أو بآخر متطلبات الجميع باستثناء الشعب السوري.
فالمصالح الروسية الإيرانية الإسرائيلية حصلت على مردود من وجود نظام الأسد، سواء من الناحية الاقتصادية أو العسكرية. وفي معرض تفسير نتائج هذه المصالح تكفي العودة لتصريحات هذه القوى وبيانات الاتفاقات بينها وبين نظام الأسد، أو في العرض اللامع للمصالح بين موسكو وتل أبيب في سوريا من خلال منح الأفضلية الهجومية لإسرائيل على مواقع النظام ومليشياته.
ومما لا شك فيه أن مأزق نظام الأسد لعب الدور الرئيسي والأساسي في تثبيت مصالح قوى الاحتلال مقابل الحفاظ على نظامه، وأصبحت هذه المعادلة بديهية في رسم مستقبل نظام الأسد مع فرض التطبيع العربي معه ومع الاحتلال كضرورات بقاء واستمرار.
تنعكس هذه الحقائق على مجريات الأحداث على الأرض، وهي باهظة التكاليف بالنسبة للمجتمع السوري وللشعب الذي يئن تحت وابل من الأزمات والكوارث غير المنتهية، وتدمير بنيته الاجتماعية والاقتصادية ورفع كلفتها إلى حدود خيالية، فضلاً عن محاصرة وقتل الحياة السياسية. في ظل هذه الأجواء والحقائق المدعومة بملايين الشهادات والوثائق والضحايا، ترتفع يوما بعد يوم الدعوات لإعادة التطبيع العربي مع نظام تحاصره أرواح مئات الآلاف من السوريين وملايين المشردين، بينما تصل الرسائل الغربية والأمريكية المتساهلة مع
جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها النظام؛ كأمرٍ واقع يمكن القفز عنه نحو تشابك مصالح التطبيع الأمني المشترك الذي يحافظ على بنية عربية يحتاجها الأمريكي والاسرائيلي، كما في سابق ولاحق عهدها.
يدفع العقل وقواعد الدبلوماسية المرء إلى الافتراض بأن حالة التهافت العربي باتجاه نظام الأسد هي لتفكيك الإغراءات الخاصة بقبول الجرائم وتسويتها، وتزوير الوقائع على هذا القدر المخزي والمهين للإنسان العربي. ومثلما دفعت حالة التلاحم التي ظهر فيها الاستبداد العربي نحو قيادة الثورة المضادة؛ لإعادة ما يحتاجه الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة، وبما يفسح المجال لاستعادة بعض من توازن مُزعزع للاستبداد العربي إلى حدٍ كاف لإدامة القمع والقهر، فإن صفة غريبة من صفات التهافت العربي نحو الأسد، تبرز أهميتها بالتعلق بالوظيفة القمعية للسلطة. فلا البكائيات على وحدة الصف والعمل العربي المشترك، وما إلى ذلك من بلاغة الخطب المهترئة، باستطاعتها أن تقنع سورياً أو عربياً بالحاجة إلى التكاتف العربي، الذي جُرب سبعة عقود مع قضية فلسطين، والذي صدَ آمالا وأحلاما عربية منذ عقود طويلة، وترك لإسرائيل مساحة موازية من قبضة القمع والتغول بالعدوان.
أخيراً، يظهر أن العقل العربي الحاكم انشغل منذ سنوات في نشاطه على الجبهة الأمريكية والإسرائيلية لكسب الرضا للعودة إلى الأسد أو إعادته للصف المستبد، والسؤال الدائم: ما هي فائدة البكائين على الصف العربي من عودتهم إلى الأسد أو إعادته لمنظومة فاشلة؟
على المستوى السياسي، طهران وموسكو وبقية قوى الاحتلال على الأرض هي التي تأخذ القرارات، وعلى المستوى الاقتصادي لا فائدة مرجوة من نظام أُرغم على توزيع مقدرات سوريا للمحتلين مقابل حمايته من السقوط. تبقى من كل هذه الخيارت التي تقع في صلب الوظيفة الباقية؛ حاجة القمع التي نجح فيها النظام بتدمير المجتمع السوري، وتلك أبرز إنجازاته التي تلقى إعجاب منظومة عربية خائفة على وحدة صفها، وإعجاب منظومة صهيونية تفاخر "بتفوق أخلاقيتها" مع الطاغية العربي.. لا شيء في مصلحة منظومة الاستبداد العربي كي تقدمه للنظام، غير انتفاخ جيوبه وعضلاته التي تقتضي إعادة تنظيم استراتيجية وتكتيك يعيدان الفشل الحتمي للمُستبد والمحتل.
twitter.com/nizar_sahli